مفردتان تبدوان كما لو كانتا نقاطا ضوئية مثل التي تظهر على خرائط مسارات الطائرات في ديوان "بنات للألم" للشاعرة "أمينة عبدالله"، ويحدد التداخل الطيفي ما بين دلالات المفردتين - شأن النقاط الضوئية الملونة نفسها - تقلبات الوعي ومسارات الشعور في مجمل تضاريس الديوان، مفردة "نساء" وهي صيغة جمع امرأة، ومفردة "امرأة" وهي صيغة المفرد للنساء، تتوزع المفردتان إما في هيئة استقطابات نصية مجمعة عندما يمتلأ بتجسيدهما ماهويا قوام النصوص، أو في هيئة أطياف نجمية تكتنز مفاتيح الدلالة عندما تتوضع على خلفية أفق نصي مفتوح على تجارب المعاناة والتمرد والألم. كتكلات نصية متماسكة بين نصوص الديوان الأخرى تتسم بمفتتحها بمفردتي النساء والمرأة، تتضام القصائد النثرية القصيرة بادئة بأوائلها، ثم تتضام في تكثيف قرب بلوغ نهايتها، يتوسطها أيضا نصان يبدأ كل منهما ب (نحن النساء – أنا امرأة)، وتختتم بنصين تفتتحهما مفردة "امرأة"، يغلق النص الأخير منهما الديوان بمفردة "أنا". وقد لا تعني هذه الهندسة اللفظية دلالة لازمة ترتبط بالرؤية الشعورية الكلية القابعة في أعماق النصوص، لكنها توجه بلا شك وعيها، فإذا كانت رؤى الشاعر هي ما يكمن في عمق نصوصه فلا بد أن ترتيبها يعكس فكره. ولنتلمس هذه العلاقة بين الترتيب الفكري والرؤى الشعرية لا بد أن نسلك رحلة القراءة من بدايتها. تعالقات نصية قد يكون استخدام مصطلح "العتبة النصية" مع ديوان شعري مثل "بنات للألم" من قبيل الحذلقة النقدية، لأن تلك العتبات التي تلعب دور هيمنة واعية أحيانا ولاواعية أحيانا أخرى في مسار تلقي القاريء للشعر، تبدو هنا كما لو كانت جزءا لا يتجزأ منه، بدء من الإهداء الذي يتوجه إلى ثلاثة شعراء، هم "شيماء الصباغ" وهي من أرادت أن تهدي العالم وردا فبادلها بالرصاص ولقيت مصرعها في حادث مؤسف معروف، وشاعرة العامية "صفاء عبدالعال" ولها ديوان عنوانه "حاجات مش حزينة أوي"، والشاعر السوداني "عبدالوهاب لاتينوس" الذي أراد الهجرة إلى عالم أجمل ولقي مصرعه بغرق مأساوي في البحر. الثلاثة شعراء والثلاثة كأنهم علامات متوضعة في طريق الألم، أو ربما في طريق التحرر منه، وكون أحدهم رجلا في عالم شعري يقاوم تأنيث الألم هو ملمح حافل بالدلالة، وكان وعد الإهداء لهم جميعا: "سنلتقي في عالم بلا ألم". المدخل التالي نلتقيه بتقليب صفحة ويقول: "أنا ووحدتي أسدان في قفص" وهي ثنائية مفردة ومزدوجة ومتداخلة (أنا ووحدتي وأسدان وقفص) تجسم حدود صراع عميق مكتوم (في قفص)، وتؤكد صفريته وتعقيده (انا ووحدتي أسدان)، وتمنح القاريء منظارا مقربا لجدلية (نساء / امرأة / بنات / أنثى)، حيث يختبر تفاعلها المتراوح بين مستويي الخبرة الشعورية والجمالية بطول تضاريس النصوص. وهو ما نلتقيه كما أشرنا من أول كلمة في أول نص: "النساء عندما يملكن المال لاصطحاب رجل لا بد أن يصغرهن بسنين عدة.." وعلينا أن نعود أدراجنا قبل السفر مع النصوص إلى العتبة الأولى وهي العنوان: "بنات للألم". لعل أول ما يلفت النظر علاقة مفردة "بنات" بثنائية (امرأة / نساء) وهما المفردتان المؤسستان للمعنى والشعور في مجمل نصوص الديوان، فالمرأة (الذات المفردة)هي بالتالي يمكن ان تكون وحيدة في النساء (النمط الجامع) كأسدين في قفص، والبنت هي الحالة القبلية لأنها تمثل امرأة صغيرة ونساء صغيرات، لكن البنوة – من بنات - من جهة أخرى هي الحالة المستقرة للمرأة والنساء معا في المجتمع الذكري (القفص)، فالمرأة أتت من ضلع آدم في الميثولوجيا الأبوية المؤسسة لعلاقة التراتبية الثقافية بين الذكر والأنثى، رغم أنها تعكس مسار العلاقة البيولوجية الأصلية بينهما، حيث تخرج بالرجل والمرأة معا – كمولود إنسان - من رحم واحد لأنثى: "كل ما هو باعث للحياة أنثوي حتى ماء الرجال بصفته المائية ولونه النسوي أنثوي" في حال صدق قول المتصوف "ابن عربي" من أن "ما لا يؤنث لا يعول عليه"، فإن ذلك قد يمثل سببا كافيا لنفي مفردة "أنثى" وتغريبها بعيدا عن الأرضية الشعرية الديوان، إذ لم ترد وعلى نحو لافت إلا في نصين من نصوصه، أحدهما يتمرد على طغيان الذكورية المجتمعية بتأنيث (أنسنة) الكون بما فيه حتى الرجال أنفسهم، والآخر يأتي بالأنوثة في صيغتها المصدرية مقترنة بالحرمان: "النساء اللائي حرمن الأنوثة، غاضبات على الطبيعة كارهات بشدة استدارة القمر في أثدائهن يحملنها – الطبيعة - آلامهن الشهرية.." حتى في الأحوال المرتبطة بظواهر الأنوثة البيولوجية مثل الختان والبكارة والولادة والرضاع ظلت مفردة الأنثى مقصاة بفعل آلية مجتمعية وشعرية مترابطة، وإن غازلت بعض النصوص أفق الدلالة الأنثوية بقوة موحية، في حضورها ك"نزيف" مرة أو كما في نص قصير مرمز: "لا أكره الحيض بيد أنه ينقي دمي ويجعلني ملكة كل شهر" وإذا كانت مفردتا (امرأة / نساء) هما نثر الأنثى في المجتمع فإن (بنت) تمثل شعريتها في المخيلة، وليست التعالق الدلالي فقط ما يرشح البنت لتتوج عنوانا لنصوص شعرية حبلى بتقلبات جدلية المرأة والنساء، وإنما التحام المفردة بالمخيلة التراثية العربية عبر تاريخ طويل يؤطر معنويا بدلالات الألم والبراءة. ويكفي أن نلقي نظرة عابرة على ارتباطات البنت في اللسان العربي: بنات النقا، بنات الدم، بنات المسند (القدر)، بنات صهال الخيل، بنات نعش، بنات طارق، بنات غير الكذب، بنات بخر،...إلخ. وفي قول الشاعر "أمية الهذلي" ما يحيك الدلالة وجدانيا إذ يقول: "فسبت بنات القلب فهي رهائن بخبائها كالطير في الأقفاص" كانت "البنت" طبقا للاستخدام العربي الموروث أيضا المفردة الأكثر قابلية أنثوية للتشيؤ فسميت باسمهن الأقداح الصغار (بنيات)، وفي حديث أم المؤمنين "عائشة" المشهور قالت أنها يوم زواجها من النبي محمد كانت تلعب مع الجواري بالبنات، يعني تلعب مع أترابها بالعرائس أو الدميات، ولعل التشيؤ يكون الدلالة الكامنة المشتركة ما بين تنميط النساء في صيغتهن الجمعية وإكراههن على السعادة بالألم في الصيغة المفردة: "ما"