بدأ الأديب العالمي الراحل نجيب محفوظ، والذي تحل ذكرى وفاته الثالثة عشرة غدًا الجمعة، الكتابة في منتصف الثلاثينيات، وكان حي الجمالية الذي كبر فيه مُتأثرًا بالحكايات القديمة من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين قد ترك داخله أثرًا كبيرًا، لاختلاط قدسية المكان بالواقع المعاصر المحافظ على ملامحه وتاريخه القديم "وكأنك تعيش أكثر من عصر في زمن واحد"، حسب ما قال في حديثه للإذاعي عمر بطيشه. يقول محفوظ عن هذا الحي "منذ مولدي في حي سيدنا الحسين وتحديدًا في يوم الاثنين 11 ديسمبر عام 1911 ميلادية، وهذا المكان يسكن في وجداني، عندما أسير فيه أشعر بنشوة غريبة جدًا أشبه بنشوة العشاق، كنت أشعر دائمًا بالحنين إليه لدرجة الألم، والحقيقة أن الحنين لم يهدأ إلا بالكتابة عن هذا الحي، حتى عندما اضطرتنا الظروف لتركه والانتقال إلى العباسية، كانت متعتي الروحية الكبرى هي أن أذهب لزيارة الحسين، وفي فترة الإجازة الصيفية أيام المدرسة والتلمذة كنت أقضي السهرة مع أصحابي في الحسين، ونقلت عدوى الحب لهذا الحي إلى أصدقائي، فتحت أي ظرف لا بد أن تكون السهرة في الحسين، وحتى لو ذهبنا لسماع أم كلثوم وتأخرنا إلى منتصف الليل لا نعود إلى منازلنا إلا بعد جلسة طويلة في الفيشاوي نشرب الشاي والشيشة ونقضي وقتا في السمر والحديث". قصص محفوظ الأولى كانت تنشر في مجلة الرسالة عام 1939، وجاءت روايته الأولى "عبث الأقدار"، ومعها كتاباته الأولى "القاهرة الجديدة" و"زقاق المدق" و"خان الخليلي" و"بداية ونهاية" وبالطبع الثلاثية الأشهر في تاريخ الأدب العربي الحديث "قصر الشوق، بين القصرين، السكرية" مُعبرة عن الفترة التي عاشتها مصر بعد الحرب العالمية الأولى وما قبل ثورة يوليو 1952؛ وبعد الثورة كان ممن تنبأوا بالسقوط والانهيار في رواية "ثرثرة فوق النيل"؛ كما جاءت "ملحمة الحرافيش"، وهي أحد أهم أعماله غير محدّدة الزمان ولا المكان بدقة، فأصبحت مادة رائعة للسينما والدراما التليفزيونية على حد سواء، حيث تمثلت في أكثر من فيلم سينمائي منها "الحرافيش، والمطارد، وشهد الملكة، والجوع، والتوت والنبوت"، إلى جانب مسلسل الحرافيش في أجزائه الثلاثة، كما لم تبتعد رواية الحرافيش كثيرًا عن منحى الوجودية الذي انتحاه نجيب محفوظ في الكثير من رواياته رغم اكتسائها الطابع الاجتماعي. كان العنوان عند نجيب محفوظ هو أهم هذه العتبات في دائرة البدايات الأولى لمحور النص وخطوطه الأساسية، وهو أيضًا رأس النص ومفتاحه الأساسي، ومن ثم فهو يرتبط بباقي جسم النص، وداخل النص تجد أن الروح والوجدان لصاحب نوبل تشرّبت بروح القاهرة القديمة وحي الحسين بالحواري والأزقة والمساجد والأضرحة، بأناسه رجالًا ونساء، ومجاذيب وشحاذين، ويظهر تعلق نجيب محفوظ بالمكان في أعماله الأدبية بداية من عنوان العمل، مثل زقاق المدق، رادوبيس، كفاح طيبة، القاهرة الجديدة، خان الخليلي، ثلاثية القاهرة: بين القصرين، قصر الشوق، السكرية، قشتمر، وكانت أفضل كتاباته عن الحارة المصرية، حتى حين اختار مكانًا بديلًا للدنيا في رواية "أولاد حارتنا"، كانت الحارة أيضًا، والفتوة من أبرز رموز الحارة، الذي استعمله نجيب محفوظ كغطاء لمعان أخرى مثل الحاكم أو الغازي، أما الحرافيش في أعمال نجيب محفوظ كانت البذرة التي يخرج منها الفتوة، أي حين يفسد الحرافيش يفسد معها الفتوة والعكس صحيح. اتجه محفوظ إلى الرمزية في روايته الأشهر "أولاد حارتنا"، التي سببت ردود فعلٍ قوية، وكانت بداية نشرها مسلسلة في جريدة الأهرام عام 1950، ثم توقف النشر في 25 ديسمبر من العام نفسه، بسبب اعتراضات هيئات دينية، ولم تُنشر الرواية كاملة في مصر في تلك الفترة، واقتضى الأمر ثماني سنوات أخرى حتى تظهر كاملة في طبعة دار الآداب اللبنانية التي طبعت في بيروت عام 1967، التي لم يكن ينوي طبعها في مصر إلا بعد الحصول على تصريح من الأزهر بنشرها، إلا أنها طبعت في لبنان وهُرّبت منها بعض النسخ إلى مصر، وفي أكتوبر 1995، طُعن نجيب محفوظ في عنقه على يد شابٍ كان يريد اغتياله لاتهامه بالكفر والخروج عن الملة بسبب هذه الرواية، ولم يُتوفّ نجيب محفوظ إثر تلك المحاولة، بل بعدها بأحد عشر عامًا، وأعيد نشر الرواية في مصر عام 2006 عن طريق دار الشروق.