ويتكوف: روسيا لا تزال ملتزمة تماما بتحقيق السلام فى أوكرانيا    بحضور أبطاله.. انطلاق العرض الخاص لفيلم «خريطة رأس السنة» في أجواء احتفالية    شهداء لقمة العيش.. أهالي معصرة صاوي بالفيوم يودعون 7 من أبنائهم في حادث أليم| فيديو    جيش الاحتلال يتوغل بشكل مفاجئ في مخيم جباليا شمال غزة    «المهن التمثيلية» تكشف تطورات الحالة الصحية للفنان إدوارد    المتهم بقتل زميله وشطر جثمانه 4 أجزاء ودفنهم ووضعهم بالقمامة يمثل الجريمة في الإسكندرية    لجنة تحكيم أيام قرطاج السينمائية توضح سبب غيابها عن حفل توزيع الجوائز    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 22 ديسمبر 2025 في القاهرة والمحافظات    مفوضي القضاء الإدارى: استلام الزمالك للأرض منذ 2004 ينفى وجود عوائق    منتخب مصر يستهل مشواره اليوم بمواجهة زيمبابوي بكأس الأمم الأفريقية    مفوضى القضاء الإدارى: ادعاءات وجود عوائق أمام تنفيذ مشروع الزمالك قول مرسل    نقيب المحامين يترأس جلسة حلف اليمين القانونية للأعضاء الجدد اليوم    متحدث الكهرباء: 15.5 مليار جنيه خسائر سرقات واستهلاك غير قانوني    وزير الاتصالات: مصر تقفز 47 مركزًا عالميًا بمؤشر جاهزية التحول الرقمي    بحضور عضوي مجلس إدارة الأهلي، محمود بنتايك يحتفل بزفافه على سندس أحمد سليمان    السلفية والسياسة: التيه بين النص والواقع.. قراءة في التحولات الكبرى    شركة العاصمة الإدارية: لا ديون علينا.. وحققنا 80 مليار جنيه أرباحًا خلال 3 سنوات    نيجيريا: تحرير 130 تلميذًا وموظفًا خطفهم مسلحون من مدرسة الشهر الماضي    بوتين يصف اتفاقية الحدود بين دول آسيا الوسطى ب"التاريخية"    تصعيد أمريكي جديد ضد فنزويلا عبر ملاحقة ناقلات النفط    ضبط سورى بجنسية مزورة يعمل داخل وزارة الدفاع الكويتية.. اعرف التفاصيل    ريهام عبد الغفور: خريطة رأس السنة محطة استثنائية في مسيرتي الفنية    أحمد العوضي: مدمنون كثير تعافوا وذهبوا للعلاج من الإدمان بعد مسلسلي «حق عرب»    أحمد العوضي يغلق ملف انفصاله عن ياسمين عبد العزيز: البيت كالقبور ولا أحترم رجلا يتحدث عن علاقة بعد انتهائها    لعبة في الجول – أمم إفريقيا.. شوت في الجول واكسب البطولة بمنتخبك المفضل    رئيس غرفة البترول باتحاد الصناعات: مصر بها 34 معدنًا مدفونًا في باطن الأرض    بيان عاجل من المتحدث العسكري ينفي صحة وثائق متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي| تفاصيل    عماد الدين أديب: ترامب ونتنياهو لا يطيقان بعضهما    اعترافات المتهم بقتل زميله وشطر جثمانه 4 أجزاء في الإسكندرية: فكرت في حرق جثته وخشيت رائحة الدخان    إخلاء عاجل لفندقين عائمين بعد تصادمهما في نهر النيل بإسنا    سائق يقتل زوج شقيقته إثر نزاع عائلي على شقة ميراث بالخانكة    من حقول الطماطم إلى مشرحة زينهم.. جنازة مهيبة لسبعة من ضحايا لقمة العيش    مصرع فتاة إثر تناول قرص غلال سام بالمنيا    رسميا.. إبراهيم دياز رجل مباراة المغرب وجزر القمر فى افتتاح الكان    أبناؤنا أمانة.. أوقاف بورسعيد تطلق خارطة طريق لحماية النشء من (مسجد لطفي)| صور    دوميط كامل: الدول المتقدمة تُقدّم حماية البيئة على المكاسب الاقتصادية مهما بلغت    سفيرة مصر بتايلاند تؤكد التزام القاهرة بدعم الجهود الدولية لمكافحة الجرائم الإلكترونية    أمم إفريقيا - محمود صابر: نهدف الوصول لأبعد نقطة في البطولة    خالد الغندور: توروب رفض التعاقد مع محمد عبد المنعم    "بنتي بتقولي هو أنت كل سنة بتموت"، تصريحات قوية من عمرو زكي عن حالته الصحية    أستاذ بالأزهر يوضح فضائل شهر رجب ومكانته في ميزان الشرع    الصحة توضح آليات التعامل مع المراكز الطبية الخاصة المخالفة    هاني البحيري: يد الله امتدت لتنقذ أمي من أزمتها الصحية    عصام الحضرى: مصر فى مجموعة صعبة.. والشناوى سيكون أساسيا أمام زيمبابوى    تامر النحاس: سعر حامد حمدان لن يقل عن 50 مليونا وصعب ديانج يروح بيراميدز    نجاح عملية معقدة لتشوه شديد بالعمود الفقرى بمستشفى جامعة كفر الشيخ    بدون تدخل جراحى.. استخراج 34 مسمارا من معدة مريضة بمستشفى كفر الشيخ العام    سلوكيات خاطئة تسبب الإصابة بالفشل الكلوي    تكريم الزميل عبد الحميد جمعة خلال المؤتمر السادس لرابطة تجار السيارات 2025    الصحة: إغلاق 11 مركزًا للنساء والتوليد بسبب مخالفات تهدد سلامة الأمهات    الصحة توضح أسباب اعتداء الطلاب على زميلهم في أكتوبر    دعاء أول يوم في شهر رجب.. يزيد البركة والرزق    وزير الإسكان يتابع موقف مشروعات وحدات المبادرة الرئاسية" سكن لكل المصريين" بعددٍ من المدن الجديدة    تعليم الغربية: عقد لجنة القيادات لتدريب 1000 معلم لقيادة المدارس كمديرين    برلمانية المؤتمر: تعديلات قانون الكهرباء خطوة ضرورية لحماية المرفق    مواقيت الصلاه اليوم الأحد 21ديسمبر 2025 فى المنيا    بعد رؤية هلال رجب.. ما هو موعد شهر شعبان ؟    الإفتاء: الدعاء في أول ليلة من رجب مستحب ومرجو القبول    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أسطورة محفوظ التي صنعها الحرافيش
نشر في البوابة يوم 28 - 08 - 2016


إعداد: أحمد صوان
إشراف: سامح قاسم
استحق نجيب محفوظ أن يُصبح أسطورة في الأدب العربي، صنع حكاياتها شيئًا فشيئًا بحكاياته التي نسج بها عالمًا سحريًا، سمعنا فيه اصطدام النبابيت وهرولة الحرافيش.. رأينا القاهرة الثلاثينية بروعتها وفسادها.. اصطدمنا بأحلام الناصرية وروعتنا صرخة انكسارها لتنتهي بثرثرة فوق النيل.. وضعه أولاد حارتنا في أعلى مكانة أدبية في العالم، بينما كانوا أنفسهم من دفعوا الجهلاء لمحاولة اغتياله.
عشر سنوات مرت الآن على رحيل عملاق السرد الروائي، الذي لفت أنظار العالم إلى أن مصر لا تحوي فقط سحر الشرق الذي نقله المستشرقون، وإنما كذلك لديها حكايات أخرى لا تزال العالم يقرأها إلى الآن.
حياته:
وُلد نجيب محفوظ في حي الحسين بالقاهرة عام 1911، وهو ابن الموظف عبدالعزيز إبراهيم أحمد الباشا، الذي لم يكن يقرأ في حياته غير القرآن الكريم، وكان نجيب أصغر أشقائه، وكان الفرق بينه وبين أقرب أشقائه عشرة سنوات، وهو الأمر الذي الذي جعله وحيدًا يتأثر بحكايات الماضي، خاصة أنه عاش في حي الجمالية أول تسع سنوات من عمره، ثم انتقل إلى حي العباسية، وحصل على ليسانس الفلسفة من جامعة القاهرة، وشرع بعدها في إعداد رسالة الماجستير عن الجمال في الفلسفة الإسلامية، لكنه عدل عن قراره وركّز على الأدب، عمل سكرتيرًا برلمانيًا في وزارة الأوقاف، ثم مديرًا لمؤسسة القرض الحسن في الوزارة حتى عام 1954، ثم مديرا لمكتب وزير الإرشاد، ثم انتقل إلى وزارة الثقافة وعمل مديرًا للرقابة على المصنفات الفنية، وآخر منصب حكومي شغله كان رئيس مجلس إدارة المؤسسة العامة للسينما حتى عام 1971، وتقاعد ليصبح أحد كتاب مؤسسة الأهرام.
بدأ محفوظ الكتابة في منتصف الثلاثينيات، وترك حي الجمالية داخله أثرًا كبيرًا، لاختلاط قدسية المكان بالواقع المعاصر المحافظ على ملامحه وتاريخه القديم "وكأنك تعيش أكثر من عصر في زمن واحد"، حسب ما قال في حديثه للإذاعي عمر بطيشه، ويقول عن هذا الحي "منذ مولدي في حي سيدنا الحسين وتحديدًا في يوم الإثنين 11 ديسمبر عام 1911 ميلادية، وهذا المكان يسكن في وجداني، عندما أسير فيه أشعر بنشوة غريبة جدًا أشبه بنشوة العشاق، كنت أشعر دائمًا بالحنين إليه لدرجة الألم، والحقيقة أن الحنين لم يهدأ إلا بالكتابة عن هذا الحي، حتى عندما اضطرتنا الظروف لتركه والانتقال إلى العباسية، كانت متعتي الروحية الكبرى هي أن أذهب لزيارة الحسين، وفي فترة الإجازة الصيفية أيام المدرسة والتلمذة كنت أقضي السهرة مع أصحابي في الحسين، ونقلت عدوى الحب لهذا الحي إلى أصدقائي، فتحت أي ظرف لا بد أن تكون السهرة في الحسين، وحتى لو ذهبنا لسماع أم كلثوم وتأخرنا إلى منتصف الليل لا نعود إلى منازلنا إلا بعد جلسة طويلة في الفيشاوي نشرب الشاي والشيشة ونقضي وقتا في السمر والحديث".
أدبه:
كانت قصص محفوظ تنشر في مجلة الرسالة عام 1939، وجاءت روايته الأولى لتحمل اسم "عبث الأقدار"، وجاءت كتاباته الأولى كالقاهرة الجديدة وزقاق المدق وخان الخليلي وبداية ونهاية والثلاثية، معبرة عن الفترة الزمنية التى عاشت فيها مصر بعد الحرب العالمية الأولى وما قبل ثورة 1952، وتنبأ بالسقوط والانهيار في رواية "ثرثرة فوق النيل"، وجاءت "ملحمة الحرافيش"، وهي أحد أهم أعماله غير محدّدة الزمان ولا المكان بدقة، فأصبحت مادة رائعة للسينما والدراما التليفزيونية على حد سواء، حيث تمثلت في أكثر من فيلم سينمائي منها "الحرافيش، والمطارد، وشهد الملكة، والجوع، والتوت والنبوت"، إلى جانب مسلسل الحرافيش في أجزائه الثلاثة، كما لم تبتعد رواية الحرافيش كثيرًا عن منحى الوجودية الذي انتحاه نجيب محفوظ في الكثير من رواياته رغم اكتسائها الطابع الاجتماعي.
كان العنوان عند نجيب محفوظ هو أهم هذه العتبات في دائرة البدايات الأولى لمحور النص وخطوطه الأساسية، وهو أيضًا رأس النص ومفتاحه الأساسي، ومن ثم فهو يرتبط بباقي جسم النص، وداخل النص تجد أن الروح والوجدان لصاحب نوبل تشرّبت بروح القاهرة القديمة وحي الحسين بالحواري والأزقة والمساجد والأضرحة، بأناسه رجالًا ونساء، ومجاذيب وشحاذين، ويظهر تعلق نجيب محفوظ بالمكان في أعماله الأدبية بداية من عنوان العمل، مثل زقاق المدق، رادوبيس، كفاح طيبة، القاهرة الجديدة، خان الخليلي، ثلاثية القاهرة: بين القصرين، قصر الشوق، السكرية، قشتمر، وكانت أفضل كتاباته عن الحارة المصرية، حتى حين اختار مكانًا بديلًا للدنيا في رواية "أولاد حارتنا"، كانت الحارة أيضًا، والفتوة من أبرز رموز الحارة، الذي استعمله نجيب محفوظ كغطاء لمعان أخرى مثل الحاكم أو الغازي، أما الحرافيش في أعمال نجيب محفوظ كانت البذرة التي يخرج منها الفتوة، أي حين يفسد الحرافيش يفسد معها الفتوة والعكس صحيح.
اتجه محفوظ إلى الرمزية في روايته الأشهر "أولاد حارتنا"، التي سببت ردود فعلٍ قوية، وكانت بداية نشرها مسلسلة في جريدة الأهرام عام 1950، ثم توقف النشر في 25 ديسمبر من العام نفسه، بسبب اعتراضات هيئات دينية، ولم تُنشر الرواية كاملة في مصر في تلك الفترة، واقتضى الأمر ثماني سنوات أخرى حتى تظهر كاملة في طبعة دار الآداب اللبنانية التي طبعت في بيروت عام 1967، التي لم يكن ينوي طبعها في مصر إلا بعد الحصول على تصريح من الأزهر بنشرها، إلا أنها طبعت في لبنان وهُرّبت منها بعض النسخ إلى مصر، وفي أكتوبر 1995، طُعن نجيب محفوظ في عنقه على يد شابٍ كان يريد اغتياله لاتهامه بالكفر والخروج عن الملة بسبب هذه الرواية، ولم يُتوفّ نجيب محفوظ إثر تلك المحاولة، وأعيد نشر الرواية في مصر عام 2006 عن طريق دار الشروق.
نوبل:
نتيجة إسهاماته البارزة تحصّل نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب عام 1988، ويعدّ الأديب العربي الوحيد الحائز عليها، ولكن بسبب حالته الصحية لم يقوَ على السفر لاستلام الجائزة، فأرسل ابنتيه فاطمة وأم كلثوم بدلًا منه، وأرفق معهما خطابا كان نصه:
"سيداتى، سادتى
في البدء أشكر الأكاديمية السويدية ولجنة نوبل التابعة لها على التفاتها الكريم الاجتهادى المثابر الطويل وأرجو أن تتقبلوا بسعة صدر حديثى إليكم بلغة غير معروفة لدى الكثيرين منكم، ولكنها هي الفائز الحقيقى بالجائزة، فمن الواجب أن تسبح أنغامها في واحتكم الحضارية لأول مرة. وإنى كبير الأمل ألا تكون المرة الأخيرة، وأن يسعد الأدباء من قومى بالجلوس بكل جدارة بين أدبائكم العالميين الذين نشروا أريج البهجة والحكمة في دنيانا المليئة بالشجن.
سادتى
أخبرنى مندوب جريدة أجنبية في القاهرة بأن لحظة إعلان اسمى مقرونًا بالجائزة ساد الصمت وتساءل كثيرون عمن أكون فاسمحوا لى أن أقدم لكم نفسى بالموضوعية التي تتيحها الطبيعة البشرية. أنا ابن حضارتين تزوجتا في عصر من عصور التاريخ زواجا موفقا، أولاهما عمرها سبعة آلاف سنة وهى الحضارة الفرعونية، وثانيتهما عمرها ألف وأربعمائة سنة وهى الحضارة الإسلامية. ولعلى لست في حاجة إلى تعريف بأى من الحضارتين لأحد منكم، وأنتم من أهل الصفوة والعلم، ولكن لا بأس من التذكير ونحن في مقام النجوى والتعارف.
وعن الحضارة الفرعونية لن أتحدث عن الغزوات وبناء الإمبراطوريات فقد أصبح ذلك من المفاخر البالية التي لا ترتاح لذكرها الضمائر الحديثة والحمد لله. ولن أتحدث عن اهتدائها لأول مرة إلى الله سبحانه وتعالى وكشفها عن فجر الضمير البشرى. فلذلك مجال طويل فضلا عن أنه لا يوجد بينكم من لم يلم بسيرة الملك النبى أخناتون. بل لن أتحدث عن انجازاتها في الفن والأدب ومعجزاتها الشهيرة الأهرام وأبو الهول والكرنك. فمن لم يسعده الحظ بمشاهدة تلك الآثار فقد قرأ عنها وتأمل صورها. دعونى أقدمها الحضارة الفرعونية بما يشبه القصة طالما أن الظروف الخاصة بى قضت بأن أكون قصاصا، فتفضلوا بسماع هذه الواقعة التاريخية المسجلة.
تقول أوراق البردى: إن أحد الفراعنة قد نما إليه أن علاقة آثمة نشأت بين بعض نساء الحريم وبعض رجال الحاشية. وكان المتوقع أن يجهز على الجميع فلا يشذ في تصرفه عن مناخ زمانه. ولكنه دعا إلى حضرته نخبة من رجال القانون. وطالبهم بالتحقيق فيما نما إلى علمه، وقال لهم إنه يريد الحقيقة ليحكم بالعدل. ذلك السلوك في رأيي أعظم من بناء إمبراطورية وتشييد الأهرامات وأدل على تفوق الحضارة من أي أبهة أو ثراء.
وقد زالت الإمبراطورية وأمست خبرًا من أخبار الماضى. وسوف يتلاشى الأهرام ذات يوم ولكن الحقيقة والعدل سيبقيان مادام في البشرية عقل يتطلع أو ضمير ينبض.
وعن الحضارة الإسلامية، فلن أحدثكم عن دعوتها إلى إقامة وحدة بشرية في رحاب الخالق تنهض على الحرية والمساواة والتسامح، ولا عن عظمة رسولها، فمن مفكريكم من كرمه كأعظم رجل في تاريخ البشرية. ولا عن فتوحاتها التي غرست آلاف المآذن الداعية للعبادة والتقوى والخير على امتداد أرض مترامية ما بين مشارف الهند والصين وحدود فرنسا. ولا عن المآخاة التي تحققت في حضنها بين الأديان والعناصر في تسامح لم تعرفه الإنسانية من قبل ولا من بعد. ولكنى سأقدمها في موقف درامى مؤثر يلخص سمة من أبرز سماتها. ففى إحدى معاركها الظافرة مع الدولة البيزنطية ردت الأسرى في مقابل عدد من كتب الفلسفة والطب والرياضة من التراث الإغريقى العتيد. وهى شهادة قيمة للروح الإنسانى في طموحه إلى العلم والمعرفة. رغم أن الطالب يعتنق دينًا سماويًا، والمطلوب ثمرة حضارة وثنية.
قدر لى يا سادة أن أولد في حضن هاتين الحضارتين. وأن أرضع لبنهما وأتغذى على آدابهما وفنونهما. ثم ارتويت من رحيق ثقافتكم الثرية الفاتنة. ومن وحى ذلك كله إضافة إلى شجونى الخاصة ندت عنى كلمات- أسعدها الحظ باستحقاق تقدير أكاديميتكم الموقرة، فتوجت اجتهادى بجائزة نوبل الكبرى. فالشكر أقدمه لها باسمى وباسم البناة العظام الراحلين من مؤسسى الحضارتين.
سادتى..
لعلكم تتساءلون: هذا الرجل القادم من العالم الثالث كيف وجد من فراغ البال ما أتاح له أن يكتب القصص؟!
وهو تساؤل في محله.. فأنا قادم من عالم ينوء تحت أثقال الديون حتى ليهدده سدادها بالمجاعة أو ما يقاربها. يهلك منه أقوام في آسيا من الفيضانات. ويهلك آخرون في أفريقيا من المجاعة. وهناك في جنوب أفريقيا ملايين المواطنين قضى عليهم بالنبذ والحرمان من أي من حقوق الإنسان في عصر حقوق الإنسان، وكأنهم غير معدودين من البشر. وفى الضفة وغزة أقوام ضائعون رغم أنهم يعيشون فوق أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم. هبوا يطالبون بأول مطلب حققه الإنسان البدائى وهو أن يكون لهم موضع مناسب يعترف لهم به. فكان جزاء هبتهم الباسلة النبيلة رجالا ونساء وشبابا وأطفالا تكسيرًا للعظام وقتلا بالرصاص وهدمًا للمنازل وتعذيبًا في السجون والمعتقلات. ومن حولهم مائة وخمسون مليونا من العرب. يتابعون ما يحدث بغضب وأسى مما يهدد المنطقة بكارثة إن لم تتداركها حكمة الراغبين في السلام الشامل العادل.
أجل كيف وجد الرجل القادم من العالم الثالث فراغ البال ليكتب قصصًا؟ ولكن من حسن الحظ أن الفن كريم عطوف. وكما أنه يعايش السعداء، فإنه لا يتخلى عن التعساء. ويهب كل فريق وسيلة مناسبة للتعبير عما يجيش به صدره.
وفى هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ الحضارة لا يعقل ولا يقبل أن تتلاشى أنات البشر في الفراغ.
لا شك أن الإنسانية قد بلغت على الأقل سن الرشد. وزماننا يبشر بالوفاق بين العمالقة ويتصدى العقل للقضاء على جميع عوامل الفناء والخراب. وكما ينشط العلماء لتطهير البيئة من التلوث الصناعى فعلى المثقفين أن ينشطوا لتطهير البشرية من التلوث الأخلاقى. فمن حقنا وواجبنا أن نطالب القادة الكبار في دول الحضارة، كما نطالب رجال اقتصادها، بوثبة حقيقية تضعهم في بؤرة العصر.
قديما كان كل قائد يعمل لخير أمته وحدها معتبرًا بقية الأمم خصومًا أو مواقع للاستغلال. دونما أي اكتراث لقيمة غير قيمة التفوق والمجد الذاتى. وفى سبيل ذلك أهدرت أخلاق ومبادئ وقيم. وبرزت وسائل غير لائقة. وأزهقت أرواح لا تحصى. فكان الكذب والمكر والغدر والقسوة من آيات الفطنة، ودلائل العظمة. اليوم يجب أنت تتغير الرؤية من جذورها. اليوم يجب أن تقاس عظمة القائد المتحضر بمقدار شمول نظرته وشعوره لمسئولية نحو البشرية جميعا. وما العالم المتقدم والثالث إلا أسرة واحدة، يتحمل كل إنسان مسئوليتة نحوها بنسبة ما حصل من علم وحكمة وحضارة. ولعلي لا أتجاوز واجبي إذا قلت لهم باسم العالم الثالث: لا تكونوا متفرجين على مآسينا ولكن عليكم أن تلعبوا فيها دورا نبيلا يناسب أقداركم. إنكم من موقع تفوقكم مسئولون عن أي انحراف يصيب أي نبات أو حيوان فضلا عن الإنسان في أي ركن من أركان المعمورة. وقد ضقنا بالكلام وآن أوان العمل. آن الأوان لإلغاء عصر قطاع الطرق والمرابين. نحن في عصر القادة المسئولين عن الكرة الأرضية. أنقذوا المستبعدين في الجنوب الإفريقى. أنقذوا الجائعين في أفريقيا. أنقذوا الفلسطينيين من الرصاص والعذاب، بل أنقذوا الإسرائيليين من تلويث تراثهم الروحى العظيم. أنقذوا المديونين من قوانين الاقتصاد الجامدة. والفتوا أنظارهم إلى أن مسئوليتهم عن البشر يجب أن تقدم على التزامهم بقواعد علم لعل الزمن قد تجاوزه.
سادتى..
معذرة. أشعر بأنى كدرت شيئًا من صفوكم؛ ولكن ماذا تتوقعون من قادم من العالم الثالث. أليس إن كل إناء بما فيه ينضح؟
ثم أين تجد أنات البشر مكانًا تتردد فيه إذا لم تجده في واحتكم الحضارية التي غرسها مؤسسها العظيم لخدمة العلم والأدب والقيم الإنسانية الرفيعة؟ وكما فعل ذات يوم برصد ثروته للخير والعلم طلبًا للمغفرة فنحن- أبناء العالم الثالث- نطالب القادرين المتحضرين باحتذاء مثاله واستيعاب سلوكه ورؤيته.
سادتى..
رغم كل ما يجرى حولنا فإننى ملتزم بالتفاؤل حتى النهاية. لا أقول مع الفيلسوف "كانت": إن الخير سينتصر في العالم الآخر. فإنه يحرز نصرًا كل يوم. بل لعل الشر أضعف مما نتصور بكثير. وأمامنا الدليل الذي لا يجحد. فلولا النصر الغالب للخير ما استطاعت شراذم من البشر الهائمة على وجهها عرضة للوحوش والحشرات والكوارث الطبيعية والأوبئة والخوف والأنانية. أقول: لولا النصر الغالب للخير ما استطاعت البشرية أن تنمو وتتكاثر وتكون الأمم وتكتشف وتبدع وتخترع وتغزو الفضاء وتعلن حقوق الإنسان، غاية ما في الأمر أن الشر عربيد ذو صخب ومرتفع الصوت وأن الإنسان يتذكر ما يؤلمه أكثر مما يسره. وقد صدق شاعرنا أبو العلاء عندما قال
إن حزنا ساعة الموت أضعاف سرور ساعة الميلاد
سادتى..
أكرر الشكر وأسألكم العفو".
اغتياله:
"كنت يوم الاعتداء عليه أنتظره بسيارتي أمام منزله في العجوزة في الصباح الباكر كعادتى اليومية تنفيذًا لاقتراحي بأن أصحبه متطوعًا كل يوم.. كعادته خرج الأديب الكبير من شقته بالدور الأرضي، وركب السيارة في المقعد الخلفي، وكان دائمًا يفتح زجاج السيارة حتى يرى مصر من خلال نظره لما يحيط بنا؛ وأنا متجه إلى السيارة للركوب سمعت صرخة عالية من محفوظ فنظرت إليه سريعًا، ورأيت شابًا يجري، فأسرعت إلى الأديب العالمي لأخرج سن السكين من رقبته وهو يصرخ، ولم يُعرف حينها من الذي اعتدى عليه، وأسرعت به إلى مستشفى الشرطة، وتم إسعافه وإجراء الإسعافات السريعة، ولولا عناية الله ولطفه لكانت هذه الحادثة أودت بحياته في الحال".
هكذا روى الأديب فتحى هاشم، الصديق الحميم لأديب نوبل، والذي كان ملازمًا له لحظة محاولة اغتياله على أيدي المتطرفين، والتي حدثت في 14 أكتوبر عام 1995، وأكمل هاشم روايته قائلًا "علمنا بعد ذلك أن الشخص الذي اعتدى على نجيب محفوظ هو من دعاة الظلام وكان ينتظره عند باب منزله، وكان من المقرر حضور ثلاثة معه ومعهم عبوة ديناميت ناسفة كان مقررًا وضعها أسفل السيارة، وبمجرد أن تدور السيارة تنفجر العبوة وتنسف من في السيارة، لكن عناية الله جعلتنا نبدأ الحركة قبل موعدنا المعتاد، فوجد الجاني أن شركاءه لم يحضروا وأنه أصبح وحيدًا، فقرر إنهاء العملية وأخرج سكينًا من جيبه ونفّذ الاعتداء بنفسه دون انتظارهم، وتم القبض على الجناة بعد ذلك وقدموا إلى المحاكمة".
كان الشاب الذي نفّذ محاولة الاغتيال جاهلًا، قيل له إن نجيب محفوظ مرتد ومن ثم يستحق القتل، لم يقرأ حرفًا واحدًا من أعماله كما أقر في التحقيقات التي أجرتها النيابة، ولكنه مع ذلك قام بتنفيذ ما طُلب منه، وكان تأثير شيوخ الجهل قويًا، حتى أنه لم يندم على ما فعل لا هو ولا شركاؤه في تنفيذ الجريمة التي جعلت محفوظ غير قادر على استخدام يده في الكتابة.
أشعل خيط القنبلة التي كادت تُطيح بمحفوظ شيوخ كانوا ينتمون إلى الأزهر -والذين عادة ما يوصفون تلقائيا بالاعتدال- عندما قرروا منع روايته "أولاد حارتنا"، وضغطوا من أجل وقف نشرها مسلسلة في جريدة الأهرام في خمسينيات القرن الماضي، كان منهم القيادي الإخواني سيد قطب، الذي بدأ حياته أديبًا وناقدًا -وهو بلا شك أحد الآباء الروحيين للشاب الذي نفذ محاولة الاغتيال بتكليف من الجماعة الإسلامية- ومن تلك الشخصيات أيضا الشيخ عبد الحميد كشك والشيخ محمد الغزالي والشيخ عمر عبد الرحمن، الذين أقاموا الدنيا ضد رواية محفوظ؛ وقد قال القاتل الذي يُدعى محمد ناجي محمد مصطفى -وكان يعمل فني إصلاح أجهزة إلكترونية وحصل على شهادة متوسطة- في حوار غير مباشر مع محفوظ إدارة الكاتب محمد سلماوي أنه "اتجه إلى الله" حسب قوله قبل حادثة الاغتيال بأربع سنوات "وقرأت كتبًا كثيرة خاصة بالجماعة الإسلامية إلى أن قابلوني"؛ واعترف الشاب لسلماوي بأنه لم يقرأ شيئا لمحفوظ وعقب قائلا "استغفر الله"، وشدد أنه لم يكن يحتاج إلى قراءة أعمال محفوظ، وأنه حاول اغتيال محفوظ لأنه "ينفذ أوامر أمير الجماعة، والتي صدرت بناء على فتاوى الشيخ عمر عبد الرحمن".
وذكر سلماوي في كتابه "في حضرة نجيب محفوظ" أنه أبلغ الشاب بأن محفوظ سامحه على جريمته فقال "هذا لا يعنيني ولا يغير من الأمر شيئًا، لقد هاجم نجيب محفوظ الإسلام في كتبه لذا أهدر دمه، وقد شرفتني الجماعة بأن عهدت إلى بتنفيذ الحكم فيه فأطعت الأمر".
وفي أغسطس 2006، بعد أحد عشر عامًا من محاولة الاغتيال الفاشلة، تُوفي نجيب إثر قرحة نازفة بعد عشرين يومًا من دخوله مستشفى الشرطة في حي العجوزة، بعد أن أثرى الحياة الأدبية ب39 رواية، و19 مجموعة قصصية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.