تبدأ القصة منذ قرون عدّة، عندما عرف المصريون مزاجًا رمضانيًّا خاصًّا كوّنته لهم تجارب الأجيال وفهمهم للنصوص. ذاك الذى يُعرفه الكُتّاب ب«رمضان المصري»، ربما تبدد أو أجهضته نسبيًّا ظروف الحياة إلا أنه قائم يتجدد، وهكذا أخبرنا العم سعيد، حارس إحدى البنايات بمنطقة الدقى فى محافظة الجيزة. سعيد البالغ من العمر 55 عامًا، وينتمى للطبقة الكادحة منذ قدومه إلى القاهرة قبل 30 سنة، يقول إنه كغيره من معارفه يحاول أن يتمسكَ برمضان كما علّمه والده الأزهرى، من الخشوع واستحضار حب الله فى قلبه. لا ينفى العم الخمسينى انشغاله بأمور الحياة، فيقول إنها تهلكه، تهبط عليه فتُفْقِده كثيرًا من راحة البال، إلى أن تأتى ليالى رمضان التى يحتمى بها - على حدّ قوله - من متاعب الأيام. ويوضح مظاهر احتفاله بالشهر الكريم، قائلًا: إن استعداده له روحى أولًا قبل أن يكون ماديًّا، مشيرًا إلى أنه عقد النيّة على التردّد على مسجد الحسين كل يوم فى موعد العشاء؛ بحثًا عن راحة نفسية هناك. الراحة التى يأملها العم سعيد، هى نفسها التى يسعى إليها غيره من المصريين، الذين يحتشدون يوميًّا قرب عتبات الإمام الحسين، مستحضرين سيرته ونسبه للرسول. وبخلاف مسجد الحسين، تحظى مساجد آل البيت بشكلٍ عام فى القاهرة والمحافظات، باهتمامٍ كبيرٍ من قبل المصريين فى هذا الشهر تحديدًا، ويقول عن ذلك الشيخ أحمد البهى، إمام مسجد السيدة زينب، ل«المرجع»: إن هذا حبّ خاصّ يحمله المصريون فى قلوبهم لآل البيت، مشيرًا إلى أن هذا الحب يتجلى مع قدوم أيّ حدث دينى كشهر رمضان. ويحكى «البهي» عن ليالى رمضان فى مسجد السيدة زينب بالقاهرة، فيقول إنها ليالى من نوعٍ خاصّ، يحتشد فيها يوميًّا آلاف من المُصلين فى مكانٍ واحدٍ، دون تناحرٍ أو شجارٍ، فى مشهدٍ يعكس روحانيةً قَلّما تجدها فى التجمعات. ويتابع: أن وزارة الأوقاف تُعِدّ لهذه المناسبة العظيمة، خطةً كل عام، خاصةً بالبرنامج اليومى لمساجد آل البيت، بحكم أنها الأكثر استقبالًا للمصلين بعد الجامع الأزهر. وإذا كان التردد على مساجد آل البيت سمةً مصريةً يقطع من أجلها المصلون المسافات لإحيائها، فلا يعنى ذلك خواء المساجد الصغيرة أو تلك المترامية على أطراف الأحياء. ويؤكد «البهي» أن شهر رمضان هو شهر انتعاش المساجد بشكل عام؛ إذ يتردد عليها المصلون فى كل الأوقات، وبعضهم يأخذون منها مقرات للابتعاد عن مشاغل الحياة وهمومها. الأمر لا يتوقف عند ذلك وحسب، بل يتجلى ما يعرف ب«رمضان المصري» فى اهتمام شعبى بإطعام الفقراء، حتى إن كيانات غير إسلامية مثل الكنيسة الإنجيلية تحرص فى كل عام على إقامة مائدة إطعام للمارّة والمحتاجين. القرآن الكريم أيضًا هو أهم رفقاء المصريين فى شهر رمضان، ورغم أن البعض يرفض اقتصار اهتمام المسلم فى هذا الشهر على تحقيق أكبر كم من القراءة، مُغَلّبين أهمية التدبر على القراءة الصماء، فإنّ الاهتمام بالقراءة ذاتها يحمل دلالاتٍ على تديّنٍ خاصٍّ ما زال المصريون يحتفظون به. ولا ينفصل رمضان لدى المصريين عن أصوات المنشدين والابتهالات والتواشيح، وفى ظل موروث شعبى مهم فى هذا السياق، تعقد مراكز ثقافية وفرق إنشادية حفلاتٍ يوميةً فى هذا الشهر، أغلب جمهورها من الشباب ومحبى الابتهالات. ويقول صفوان المرعشلى، مدير فرقة الرضوان «المرعشلي» الرفاعية، وهى فرقة إنشاد سورية قدمت إلى مصر منذ بداية الأزمة فى سوريا: إن المصريين أصحاب مزاجٍ خاصّ فى الإنشاد، يختلف عن غيرهم من الجمهور فى المنطقة العربية. ولفت فى تصريح ل«البوابة نيوز» إلى أن فرقته وجدت قبولًا فى مصر، سببه الميل المصرى نحو الدين، معتبرًا أنّ هذا الميل يتزايد مع قدوم شهر رمضان. وأشار إلى أن الشباب الصغار الذين يصعب عليهم فهم بعض معانى القصائد الدينية، نجدهم ينسجمون فى مزاج روحى مع الإنشاد. وإلى جانب ذلك، فثمة مظاهر أخرى يعرفها الشارع المصرى فى شهر رمضان، من سنة الاعتكاف بالمساجد فى أواخر الشهر الكريم، ومتابعة البرامج الدينية، ومساعدة الفقراء المحتاجين، وغيرها من أمور يتقرب بها المصريون إلى الله عز وجل.