عندما يذكر تاريخ المقاهي الثقافية في مصر تكون "ريش" من أبرز المقاهي في تاريخ الحركة الثقافية المصرية الحديثة، كمنتدى وملتقى لألمع الأسماء من المثقفين والمبدعين والفنانين. "ريش" ليس مقهى عاديا كبقية المقاهي التي تعج بها المدن العربية، فعلى "ريش" جلس واجتمع المبدعون والمثقفون من عدة أجيال في تاريخ مصر المعاصر بدءا من توفيق الحكيم، ويوسف إدريس، ونجيب محفوظ، وأمل دنقل، ونجيب سرور، ويحيى الطاهر عبد الله، وخيري منصور، ولويس عوض، إلى جانب الفنانين المصريين: رشدي أباظة، ومحمد عبد القدوس، وفاطمة اليوسف، وعادل إمام، كما كانت القبلة التي يحج إليها المبدعون العرب: غالب هلسا، وعبد الوهاب البياتي، والناقد الفلسطينى خيري منصور وحسن إبراهيم. شهد "ريش" الكثير من الأمسيات الشعرية والندوات الثقافية التي كان من أشهرها، ليس في مصر وحدها، بل في العالم العربي كله، ندوة نجيب محفوظ الأسبوعية، والتي كان يعقدها كل يوم جمعة من الأسبوع، وظل منتظما وبشكل دائم في عقدها إلا في حالات الإغلاق التي يتعرض لها "ريش" بسبب الإصلاحات أو التجديدات. ومن بين جدران "ريش" وفاعلياته وأنشطته خرج بيان المثقفين عام 1981 عقب الاعتقالات وقرارات سجن الآلاف من مثقفي مصر في عهد الرئيس الأسبق السادات، هذا البيان الذي أدرجه محمد حسنين هيكل في كتابه "خريف الغضب" بتعقيب ورد ممهور باسم "توفيق الحكيم". لم يكن "ريش" ملتقى ومنتدى ثقافيا فقط، بل لعب "ريش" دورا في الحركة الوطنية المصرية الحديثة، فعلى مطبعتها "الرينو" طبعت المنشورات والبيانات الثورية منذ ثورة 1919 بقيادة سعد زغلول، حتى ثورتى 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013. تبدأ حكاية "ريش" بقصر محمد علي باشا، والذي باعه إلى باغوص باشا نوبار، الذي قام بتقسيمه حتى آلت ملكيته إلى الشركة العقارية المصرية، والتي قامت بدورها بتأجير وبيع هذه الأراضى التي كان من ضمنها قطعة الأرض التي أنشئ عليها مقهى "ريش". وإذا تتبعنا التسلسل الزمني لمالكي أو مَن قاموا بتأجير المقهى نجد أن أول من قام بتأجيره هو الهنغاري برنارد ستنيبرج وذلك في الفترة من 1908 إلى الفترة 1913. أما ثاني من مر على "ريش"، وقام بنقل الإدارة وعقد الإيجار إليه هو الفرنسي "بيير ريسنييه" في الفترة من 1914 إلى 1916. أما اليوناني ميشيل أو مخالي بوليتيس فهو ثالث من قام بتأجير المقهى، وفي فترة إدراته للمقهى شهد أزهى فتراته ونشاطاته الثقافية، وذلك في الفترة من 1916 إلى 1932، وقد بدأ بولاتيس نشاطه الثقافي على مسرح وحديقة مقهى "ريش"، حيث صدحت أم كلثوم بأعذب الألحان، وقدمت فاطمة اليوسف عدة مسرحيات بمصاحبة صوت المطرب محمد عبد القدوس، وقد تعارفا وتزوجا في هذه الفترة وأنجبا الروائي إحسان عبد القدوس. تذكر لنا الوثائق الخاصة بالمقهى أن ميشيل بوليتيس قام بالتقدم بأكثر من طلب إلى الجهات الأمنية المختصة "الحكمدارية" وقتها للتصريح بالسماح له باستقدام أوركسترا وتقديم قطع فنية موسيقية، جاوزت هذه الطلبات التسعة قوبلت جميعها بالرفض، غير أنه تجاوز التصريح وقدم فقراته الموسيقية بعد حصوله على موافقة ساكني الجوار ويذكر الروائي فتحي غانم، في مذكراته أن والده كان يستمتع بهذه الموسيقى والنشاط الفني الذي يقدمه مقهى "ريش". ونصل إلى اليونانى واسيلى مانولاكيس، وهو المالك الرابع للمقهى في الفترة من 1932 إلى 1942، ويعقبه جورج واسيلي، والذي بدأ حياته طاهيا خاصا باللورد كليرن المندوب السامي الإنجليزي في مصر في الفترة من 1942 إلى سنة 1960. إلى أن يقوم المصري عبد الملاك ميخائيل صليب، ذو الأصول الصعيدية، فهو مواليد محافظ أسيوط، والد مجدي وميشيل مالكي ريش الحاليين، بشراء المقهى من الإنجليزى جورج واسيلي، وهو أول مصري يقوم بإدارته وملكيته. "ريش" لا يقل في الأهمية بمكان عن أي من صروح الثقافة والفن المصرية كالمسرح القومي أو الأوبرا المصرية أو هيئة الكتاب في تاريخ الثقافة المصرية الحديثة. "ريش" ملتقى المثقفين والمبدعين، شهدت مولد مواهب مبدعة، وكانت موضوعا لإبدعاتهم ولعل من أشهر الأعمال الأدبية التي تناولت "ريش": ديوان الشاعر نجيب سرور "بروتوكلات حكماء ريش". ويستمر "ريش" في دوره الثقافي ما بين ندوات ثقافية وأمسيات شعرية وعروض سينمائية، ملتقى وقبلة للمثقفين والمبدعين المصريين والعرب والأجانب أيضا.