رغم أن الإنسان المعاصر يشهد ثورات علمية وتقنية مذهلة فإن المعتقدات والطقوس والممارسات التي تتعلق بالسحر مازالت حاضرة وتفرض نفسها على اهتمامات وهموم المثقفين سواء في عالم الجنوب أو عالم الشمال الذي يعيش ما يسمى "بزمن ما بعد الحداثة". وها هو الكاتب الروائي والقاص البريطاني فيليب بولمان يتساءل :"لماذا يعتقد البعض في جدوى السحر رغم كل النواهي والتحذيرات من المضي قدما في هذا الطريق" ؟!..فيما طرح هذا السؤال بمناسبة معرض فني افتتح مؤخرا في متحف اشموليان بأكسفورد ويتضمن هذا المعرض الذي يستمر حتى السادس من شهر يناير القادم جوانب متعددة للعلاقة بين الكائن الإنساني والسحر. ومتحف "اشموليان" التابع لجامعة أكسفورد والذي يعد من أقدم المتاحف في بريطانيا والعالم حيث فتح أبوابه للجمهور منذ عام 1683 يحتوي على مقتنيات مصرية ترجع للعصر الحجري الأول فضلا عن مقتنيات للفنون الإسلامية إلى جانب مقتنياته البريطانية والأوروبية والآسيوية فيما يحمل معرضه الجديد العنوان الدال :"مسحور" ليثير اهتمام مثقفين كبار في بريطانيا والغرب مثل فيليب بولمان. ومعرض "مسحور" يضم العديد من الأعمال الفنية التي أبدعها الإنسان في أماكن متعددة عبر مسيرة الزمان لتعبر عن رؤيته لعالم السحر والتمائم والطلاسم الغامضة التي تواجه الزائرين لمعرض في متحف يتبع واحدة من أعرق وأشهر الجامعات في العالم حيث تعود بعض المراجع بتأسيس جامعة أكسفورد الى عام 1096. وبالتأكيد فإن احتضان متحف تاريخي يتبع جامعة من أرقى وأشهر جامعات الغرب لمعرض عن السحر لا يخلو من مفارقة ، كما لاحظ فيليب بولمان ، وكما أبدى مثقفون آخرون في بريطانيا دهشتهم من الإقبال الكبير على معرض "مسحور" فيما يفترض أن الإنسانية والغرب على وجه الخصوص الذي يعيش ما يسمى "بمرحلة مابعد الحداثة" قد تجاوز منذ زمن بعيد السحر وطقوسه وخزعبلاته. وفيليب بولمان الذي ولد في التاسع عشر من أكتوبر عام 1946 ويوصف بأنه أحد أهم الكتاب الإنجليز المعاصرين يقول إن عالم السحر يتحدى التفكير المنطقي والتفسيرات العقلانية ، غير أنه ليس من دواعي المنطق والعقل تجاهل وجود من يعتقد في جدوى السحر أو إنكار حضور هذا العالم مهما كانت أفكاره وممارساته وطقوسه بعيدة عن المنطق والعقل. ويضيف فيليب بولمان صاحب الثلاثية الروائية :"المواد المظلمة" التي ذاع صيتها في الغرب برواياتها الفانتازية الثلاث :"أضواء شمالية" و"السكين البارع" و"منظار الكهرمان" إن الأمر فيما يتعلق بالسحر وهؤلاء الذين ينجذبون لعالمه يمكن مقاربته بنظرة للعلاقة بين الشعر والانسان. ورغم انحياز فيليب بولمان للتفكير المنطقي في الحياة على وجه العموم فهو يرى أن هذا المعرض الجديد حول عالم السحر مفيد في إلقاء أضواء كاشفة لمزيد من جوانب العلاقة المعقدة بين الكائن الإنساني والسحر ناهيك عن استمرار كتل لا يستهان بها حول العالم في الاعتقاد بجدوى السحر وقدرته على حل المشاكل وتحقيق المآرب "مع أن التاريخ حافل بمحاكمات للسحرة الأشرار والمنخرطين في ممارسات السحر الأسود" . ولعل ملاحظة فيليب بولمان حول اعتقاد أناس نالوا حظا كبيرا من التعليم ويمكن وصفهم بالأذكياء في جدوى السحر وطرق أبواب هذا العالم الغريب لحل مشاكلهم أو تحقيق آمالهم هي ملاحظة عامة ليست قاصرة على بريطانيا وحدها وكذلك ملاحظته بشأن مطالبة بعض المثقفين بإنزال عقوبات رادعة بالمنخرطين في طقوس وممارسات السحر. وكمثقف غربي كبير وكاتب تنصت له الصحافة الثقافية الغربية يقول فيليب بولمان إن المهم في سياق كهذا ملاحظة الآثار الناجمة عن اعتقاد البعض في جدوى السحر بصرف النظر عن تعقيدات الخوض في مقاربات منطقية تتعارض بصورة صارخة مع سياقات أبعد ما تكون عن المنطق حتى أنه يشبه الأمر بمن يريد التقاط قطعة خشب بمغناطيس !. ويمضي بولمان قائلا إن عالم السحر "عالم كبير يترامى ما بين ظواهر بسيطة مثل التمائم وكتابة الأحجبة الجالبة للحظ السعيد ومنظومات معقدة من المعتقدات والممارسات في التنجيم والخيمياء" لافتا إلى أن الظاهرة "قادمة من أماكن متعددة منذ ما قبل التاريخ ومازالت مزدهرة حتى اليوم". وفي تشريحه الثقافي للسحر يقول فيليب بولمان إن "أفكار وعناوين وموضوعات السحر تكاد تكون بلا حدود " وهذا العالم بغرائبيته لا يمكن إلا أن يجذب الأدباء فيما سعى المعرض الحالي في متحف اشموليان "لإظهار جوانب من هذا العالم غير المرئي" وهو عالم غير بعيد عن حلم الإنسان بتجاوز المستحيل بسبل متعددة من بينها العلم والسحر. ومع ذلك فهذا العالم الغرائبي للسحر يزود الكتاب والأدباء مثل فيليب بولمان بأفكار إبداعية للكتابة بل إنه يقترن بمذاهب ومدارس في الأدب لعل أشهرها "الواقعية السحرية" ناهيك عن قصص الأشباح وأدب الرعب وهي مسألة لم تغب عن أذهان منظمي معرض "مسحور" في متحف اشموليان والذي يتضمن بانوراما دالة على معتقدات البشر بشأن السحر في شتى أنحاء العالم وعبر عصور متوالية. وإن حق القول بأن السحر يشكل هما عالميا لا يفرق بين مثقفين في عالم الشمال ومثقفين في عالم الجنوب فإن الكثير من الكتاب والأدباء يحق لهم أيضا الشعور بالجزع والكمد حيال المعدلات العالية لمبيعات كتب السحر والشعوذة بالمقارنة مع محدودية التوزيع والبيع لكتبهم ورواياتهم حتى أن المقارنة قد تفضي أحيانا لنتائج مضحكة. ولئن تحولت هذه المقارنة أحيانا إلى مادة لموضوعات طريفة في الصحف ووسائل الإعلام فإن ما يثير القلق بحق تبني بعض القنوات الفضائية التلفزيونية لبرامج وإعلانات حول السحر غالبا ما تقترن بالدجل والترويج لتفكير أبعد ما يكون عن التفكير العلمي المطلوب في الدول النامية على وجه الخصوص. وهكذا فإن مثقفا مصريا كبيرا مثل الشاعر والكاتب فاروق جويدة حذر غير مرة من استشراء هذا النوع من المحتوى التلفزيوني الذي يروج لألوان الدجل والشعوذة فيما كان قد تساءل بطرافة عن سر إحجام قنوات التلفزة المصرية عن بث ما يكفي من روائع كوكب الشرق وسيدة الغناءالعربي ام كلثوم في حين تكتفي "ببرامج العفاريت والجن والأشباح التي تظهر كل ليلة". ولئن طرح المثقف البريطاني فيليب بولمان سؤاله حول السحر الذي قد يتحول أحيانا إلى مصدر إبداع في عالم الشمال فإن المثقف المصري فاروق جويدة الذي يجزع مثل غيره من المثقفين بشأن مخاطر استشراء الخرافات التي تكرس التخلف كان قد طرح من قبل سؤالا كبيرا وطريفا :"من يعيد المصريين إلى عالم الحقيقة وينقذهم من دنيا العفاريت"؟!. وقال الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة :"وبدلا من أن ينام أطفالنا في راحة وهدوء فإن العفاريت تطاردهم حتى في المنام" فيما يسدي النصح لقارئه بقوله :"حاول أن تبحث عن صوت أم كلثوم قبل أن تنام لأن صوتها سوف يذكرك بأزمنة الشموخ والذوق الرفيع والفن الراقي وسوف تنجو من أشباح العفاريت التي تنقلها الفضائيات كل ليلة ..وقانا الله شر عفاريت الفضائيات". وهذه الظاهرة لها أن تثير بالفعل قلق واستياء المثقفين فيما تناولها فاروق جويدة مستنكرا ما يردده البعض على شاشات الفضائيات وفي بعض وسائل الإعلام حول "حرائق الجن والنيران التي تنتقل من بيت الى بيت.. وعلى كل شاشة سيدة تقرأ البخت وتنتقل بنا ما بين زحل والمشتري والزهرة وهناك من يخرج العفاريت من المصابين"!. ويمضي هذا المثقف الوطني المصري ليقول :"مساحة رهيبة من الجهل والتخلف تطل علينا كل ليلة في عشرات الفضائيات والمهم الوجبة الدسمة من الخزعبلات وأكبر عدد من العفاريت والجن" فيما يخاطب القاريء بقوله :"لك أن تتصور واقعا بهذه الصورة هرب من الحياة تماما واتجه إلى عالم الأرواح والجن والعفاريت"!. ورأى أساتذة وخبراء في الإعلام أن الحل يكمن في "وجود تشريع قانوني وقاعدة فكرية وتدريب وتثقيف ومحاسبة وتقييم ومتابعة" فيما لاحظ أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة الدكتور صفوت العالمان أن هناك برامج تسعى لهذه الموضوعات وتستضيف من يكرس للدجل والشعوذة. وكما لاحظ البعض فالأمر لم يعد يقتصر على أصحاب المستويات التعليمية البسيطة وإنما امتد ليشمل مستويات تعليمية عالية وبات ظاهرة عابرة لكل المستويات الاجتماعية والتعليمية بشكل لافت للنظر ومثير للانتباه كما تؤكد دراسات المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية. و أفادت دراسات منشورة للمركز القومي للبحوث الاجتماعية بأن عدد الدجالين المنتشرين في ربوع الريف المصري يصل لنحو 300 ألف شخص يستنزفون من جيوب المواطنين ما يصل إلى 15 مليار جنيه سنويا. وتعكس هذه الأرقام اعتقادا خاطئا بقدرة الدجالين على حل المشاكل فيما تبين الدراسات التي أجراها المركز القومي للبحوث الاجتماعية أن من بين من يؤمنون بالقدرات الخاصة لهؤلاء الدجالين عناصر تنتمي لما يمكن وصفه بالنخب مثل بعض الفنانين فضلا عن الرياضيين. وواقع الحال أن بعض البشر في زمن الانترنت وثورة الاتصالات يبدون أحيانا وكأنهم لا يختلفون كثيرا عن الإنسان في العصور القديمة عندما كان مهووسا بالسحر وتوظيفه لأغراضه !..غريب هذا الإنسان سواء في العصر الحجري أو في العصر الرقمي!.