ضج قلب الشارع المختنق، الذي اكتسى في غفلة من حزنه، بتعليقات الزينة التي أغرقته وبعض من مظاهر الفرح الكاذبة الخادعة، حتى ظللت ليلة الوخيم بصورة مبهجة مصطنعة، ومن أسفل نافذة تبزع منها سيدة متشحة بالسواد تخفي الدموع بعضا من ملامح وجهها كانت منهمكة فى استدعاء الآلام احتجزتها ذاكرة الوجع، تجمع عدد كبير من الصبية والبنات يرتدون ملابس الوقفة الجديدة بألوانها الزاهية، وكانوا يردّدون بعض الأغاني والأهازيج وهم يمرحون: "بكرة العيد وعانعيد وعا ندبح بقرة الشيخ سيد"، وبينما كان يقوم البعض الآخر منهم بفرقعة البمب وتفجير الصواريخ وهم يتلذذون بسماع صوت الانفجار وتطاير الشرر والألوان الزاهية، فى حين كان يتوالى البعض منهم اللعب مع الخراف وقضاء معظم الساعات الأخيرة معها، وبين جنبات الشارع القديم المتهالك اصطفت البيوت على جانبيه مستندة إلى بعضها البعض في محاولة لاستحكام شداداتها المحطمة وبقايا أحمالها التي انتزعتها مخالب الزمان وقد تناثرت أسفلها عربات سن السكاكين، وفي نهاية الشارع كانت تفترش سيدة طاعنة بالسن إحدى الأرصفة لبيع الرقاق المخبوز. كانت السيدة المطلة من شرفتها المسيجة بالحزن بثوب أسود غطيس لا تعبأ لما يحدث خارج شرفتها بل بقيت تواسي وحدتها بنصل صدى ذكريات قاتلة، حتى دارت عيناها فى كل هذا العبث ليوقفها مشهد رجل ثلاثيني فظ غليظ قاسي القسمات والقبضات مقتطب الجبين قلقًا يبدو من هيئته أنه جزار كان يعقد في معصمه عقدًا غليظا يمططتُ عنق بقرة صفراء كانت تذرف من عينيها ألما بدل الدموع ملفتا كلما تحرك يصدر جلبة ملفتة للنظر ليجوب الشارع في لحظات فخر واعتزاز كفارس من ورق لا تخلو من بعض تشنجات في معصمه. ومن ثم قامت تسدل ستار شرفتها على ضجيج الأطفال، لتسمع صراخ البوابة وهي تغلق، والتفت إلى الساعة الخشبية القديمة المتآكل وجهها والمعلقة على أحد الحوائط الممتعضة من لونها الذي لم تختره، لتجد الساعة تشير إليها هى وليس هو بتوقيت غيابة، التفت إلى صورة "عمر" التي أحاطت بها كومة الغبار من كل جانب، ويبدو أنها قد شعرت بما شعرت بة الصورة المعلقة على الجدار بعد أن رحل صاحبها، كانت ساعات ليلة "الوقفة" هذه الليلة التى تسبق ليلة العيد، قد مرت عليها بطيئة مثقلة بدموع الحنين، كقاتل محترف دون وازع أو ضمير، فكاد صيعر ألسنة الحنين تفتك بما تبقى من قلبها من حياة، بعدما ظل الليل مستمرا في اطلاق توسلاته واستغاثته، انتظارا لتلك اللحظة، التى تدخل لتحمل له مزيدًا من الضى، وبين أصابعها المشغولة بالفجر كانت تحمل زوده الزيارة التى حفظت ترتيبها عن ظهر قلب فى تلك السلة المصنوعة من القش والتى اعتدت على حملها فى زيارتها لقبر "عمر" فوضعت كحك الطلعة فى الاسفل كطبقة أولى وفوقهم بضعة حبيبات من البرتقال والموز والخوخ، ولم تنسى أن تضع فى حافظتها الخالية دائما بضعة قطع من النقود المعدنية الصغيرة والتي اقترضتها من الحاج أنور البقال لتعطيهم للأطفال الذين اعتدتُ رؤيتهم على مدار أحد عشر عامًا خلت من ابنها "عمر" ذو العشرة أعوام بعد إصابته بحمى شديدة أودت بحياته، إلا أنه خلال تلك الاعوام كان ينمو فى ذاكرتها وتبزغ صورته في عينيها كسنبلة قمح تكبر يوما بعد يوم. لم يغمض لها جفن طيلة الليل وقد بدا على وجهها ترتسم علامات التعب والهم، وما أن لاح الصباح ونسج أول خيوطه حتى كانت على أهبة الاستعداد لمغادرة المنزل تراقبًا لموعدها كتوق عتمة السجن إلى فوهة الفجر، فقد همّت مسرعة بحمل السلة على رأسها، ومضيت تشق طريقها وهى تتحركُ ببطء شديد، الشارع الطويل كان يضنّ عليها، وأثناء المسير كانت تلتهم وجوه العابرين وتتأمل ملامح كل ولد يكبر، لعلها تراه إلا أنها لم تره، وما أن حطت قدميها على أرض المقابر حتى وجدت باعة ألعاب الأطفال والحلوى والطبلة والرق والربابة يمشطون المكان، كان الجميع يحتفل مع موتى بالعيد، عدا "عمر" كان وحيدا، هرعت إليه مسرعة وهى تقول بصوت مختنق: "أنا معك يا حبيبى لن تعد لوحدك أبدا حتى آتي إليك"، وأسندت رأسها على حافة شاهد القبر بعدما جلست القرفصاء ودخلت فى نوبة بكاء شديد: "عامل إيه يا عمر وحشتنى قوى ياضنايا" وبين حين وآخر كان يمر عليها أحد الأطفال قائلين لها رحمة ونور كانت تمد يدها المرتعشة وتعطي له إحدى حبيبات الفاكهة أو كعكعة أو قطعة نقدية، فى حين كان يمر عليها رجل طاعن بالسن قائلا: "أقرأ قرآن ياست رحمة ونور" ويبدأ في القراءة بتلعثم شديد وآخرون يقومون بسقي نباتات الصبار المحاطة على قبره بالمياه، وقد خيل إليها أنه يجلس أمامها وأن أذرعها المشرعة قد امتدت إليه لتعانقه حتى يخترق ضلوعها، مضى الوقت سريعا، حتى أذنت الشمس بالمغيب وانصرف جميع زوار المقابر وحتى الباعة ليخيم الليل بستائره، وفى هذة اللحظات كأنها سمعت صوته يهاتفها "امشى يا ما"، فردت لا أستطيع الرحيل، همس لها مجددا: "أمي إنني لم أمت، أنا مازلت أنمو في قلبك وقد صار عمري واحدا وعشرين عامًا فى الصباح ألهو مع الغمام وفى المساء يأوي على صدري الحمام لينام".