هل عشت فقيرا يائسا تعيسا، كل ما يهمك هو أن تلهث خلف لقمة العيش، لعل هذا هو حال المواطن المصري الذي يمر كل شهر بمحنة تدبير نفقاته ومحاولة تغطية الدخل الذي يتحصل عليه ليكفي حاجات الشهر. فالمصري لا يلهث لكي يعيش حياة كريمة بل كي يعيش فقط، وليت أمنيته تتحقق، فبعد اندلاع الثورة المصرية في 25 يناير 2011 والتي كان شعارها الأساسي "عيش .. حرية .. عدالة اجتماعية .. كرامة إنسانية". رافعين العيش فوق حريتهم وكرامتهم، لكنهم على ما يبدو أمسكوا الهواء بأيديهم، حيث تنافست الحكومات المتعاقبة لزيادة تعاستهم وفقرهم، فالمرتب الذي كان يكفي بالكاد من سنتين أصبح لا قيمة له الآن، وبخاصة مع ارتفاع الأسعار والتضخم، لكن المواطن مصري لا يريد التخلي عن أمله أن القادم أحلى، مجيبا برضى بأن "العجلة ماشية ببركة ربنا". متوسط الدخل عند المصريين وعندما نشرت مجلة "فوربس" الأمريكية قائمة بأغنى عشر دول في العالم على أساس نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، جاء متوسط دخل الفرد في قطر نحو 88,222 دولار سنويا، وفي لوكسمبورج بلغ متوسط دخل الفرد 81,466 دولار سنويا، وفي سنغافورة متوسط دخل الفرد 56,694 دولار سنويا، وجاءت النروج في المركز الرابع، حيث بلغ متوسط دخل الفرد 1,959 دولار سنويا، وفي المركز الخامس بروناي، التي بلغ متوسط دخل الفرد فيها الى 48,333 دولار سنويا. وحلت الإمارات في المركز السادس حيث بلغ متوسط دخل الفرد 47,439 دولار سنويا، وتلتها الولاياتالمتحدةالأمريكية، حيث بلغ متوسط دخل الفرد 46,860 دولار سنويا، وجاء في المركز الثامن هونج كونج، وبلغ متوسط دخل الفرد 45,944 دولار سنويا، أما المركز التاسع فكان من نصيب سويسرا وبلغ متوسط دخل الفرد 41,950 دولار سنويا، وحلت هولندا في المركز العاشر بمتوسط دخل للفرد 40,973 دولار سنويا. أما مصر فقد أصدر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء دراسة في أواخر العام 2012 تناولت مستوى الدخول وبيانات الإنفاق والاستهلاك، وقد قسمت الدراسة المجتمع المصري إلى 6 شرائح معيشية حسب مستوى الدخول والتي بدأت من الشريحة الدنيا التي يقل دخلها السنوي عن 10 آلاف جنيه (نحو 1200 دولار) إلى الشريحة السادسة التي يبلغ دخلها 50 ألف جنيه (نحو 7100 دولار) فأكثر سنويا. وأشار الجهاز إلى أن مصادر الدخل تنوعت فكان منها العمل والتحويلات النقدية والقيمة الإيجارية وغيرها من المصادر، وبلغت نسبة الدخل من العمل 70.4% من إجمالي الدخل السنوي للأسرة فقط ، تليها 15.9% من التحويلات النقدية والسلعية، ثم 10.6% من القيمة الإيجارية التقديرية للمسكن الذي تملكه وتشغله الأسرة، بينما يعتبر دخل الممتلكات أقل مصدر للدخل والذي بلغت نسبته 3.1%. . أوضحت الدراسة أن متوسط الدخل السنوي للأسرة خلال (2010 -2011)، بلغ نحو 25 ألفا و353 جنيها (نحو 3500 دولار)، مشيرا إلى أن متوسط دخل الأسرة في الحضر بلغ نحو 30 ألفا (4100 دولار) في مقابل 21 ألف جنيه (3 آلاف دولار) للأسر الريفية. وهذا يعني أن متوسط دخل الأسرة المصرية يبلغ أقل من 4 آلاف دولار بما لا يعادل 10 % من متوسط دخل الفرد مقارنة بقائمة المجلة الأمريكية. أجور المصريين في ذيل القائمة منذ عام 2008 والصحف ووسائل الإعلام بل والشارع المصري يتحدث عن ضرورة زيادة الأجور، وبخاصة مع الارتفاع المتزايد في مستوى الأسعار وقد كانت القضية الشهيرة والتي رفعها المركز المصري للحقوق الاجتماعية والاقتصادية أمام المحكمة الإدارية سندا لهذا المطلب، حيث حكمت المحكمة في تلك القضية بتحديد حد أدنى للأجور وآخر أقصى على ألا يقل الأدنى عن 1200 جنيه (نحو 160 دولار). وفي الفترة الأخيرة قامت ثلاثة دول بوضع حد أدنى للأجور، وارتفع أجر العامل في كل من الأردنوالجزائرولبنان خلال نهاية العام الماضي 2012 - على الرغم من عدم حدوث انتفاضات وثورات شعبية كما التي حدثت في مصر واليمن والسودان. ففي لبنان قرر مجلس الوزراء اللبناني رفع الحد الأدنى من 500 ألف ليرة لبنانية (تعادل نحو 333 دولارا) إلى 675 ألف ليرة لبنانية (نحو 450 دولارا) بعد اتفاق تم التوصل اليه بين رجال العمال والهيئات النقابية والعمالية. وقد نص مرسوم تصحيح الأجور على زيادة بما يعادل 200 دولار أمريكي على الرواتب التي تزيد على ألف دولار أمريكي و167 دولارا على الأجور التي تتراوح بين 666 دولارا وألف دولار في حين تراوحت الزيادة على الأجور ما دون 666 دولارا ما بين 117 دولارا و134 دولارا أمريكيا. كما نص القرار على زيادة قدرها 100 بالمئة على الأجور التي تصل إلى 266 دولارا. أما في الجزائر فقد ارتفع الأجر الأدنى من 15 ألف دينار (150 يورو) إلى 18 ألف دينار (180 يورو)، بعد اجتماع ثلاثي بين الحكومة واتحاد العمال الجزائريين ومنظمات رجال العمال دام 27 ساعة. وفى الأردن قررت اللجنة الثلاثية الممثلة للعمال وأصحاب العمل والحكومة زيادة الحد الأدنى للأجور ليصبح 190 دينارًا. ويقدر عدد العمال الأردنيين المستفيدين من هذه الزيادة 200 ألف عامل وعاملة في مختلف القطاعات. وفي ظل هذا الوضع فقد قدرت الإحصائيات الرسمية متوسط دخل الأسر المصرية بأقل من 4 آلاف دولار أي قل من معدلات الحد الأدنى في كل من لبنانوالجزائر. جنون الأسعار وعجز والمرتبات لا يوجد أحد في مصر لا يشكو من ارتفاع الأسعار، فالمصريون يرون في تدبير مصاريف يومهم وأسرتهم همًّا يزداد يوما بعد يوم الآن، أما المستقبل فأصبح شيء صعب لا يمكنهم التفكير فيه والا ماتوا من الحسرة. ومؤشر ارتفاع الأسعار لا يقاس إلا في ظل تردي وانخفاض الأجور، فالعلاقة بين الأجور والأسعار هي جوهر العلاقة الاقتصادية بين العاملين بأجر ومؤسساتهم العاملين بها، وهي المؤشر الأهم الذي يتحدد على أساسه نسب التضخم ومؤشراته، ومسألة حركة السوق والتدفق في عملية البيع والشراء أو انخفاضه ومن ثم انكماش وتراجع مؤشرات السوق والحركة الاقتصادية والتي تُسمى ركودا اقتصاديا. وغالبا ما تكون مسألة الأجور مرتبطة بالطريقة التي يتم بها توزيع الدخل القومي والناتج الاجمالي ونسب النمو الاقتصادي والتي تحتاج إلى عدالة التوزيع من أجل استمرار حركة السوق ودوران الدورة الاقتصادية وتحقيق أكبر قدر ممكن من الاستقرار السياسي والأمن الاجتماعي. وقد شهدت السنوات الست الأخيرة عددًا من الموجات العاتية لارتفاع الأسعار، وبخاصة تلك المتعلقة بأسعار الغذاء والنقل والخدمات التعليمية والصحية بل وفي أسعار مستلزمات البناء والتشييد وما ترتب عليها من ارتفاع هائل في مستوى أسعار المساكن سواء كانت تمليك أو إيجار، بحسب قانون الإيجارات 94 المعروفة تحت اسم الإيجارات الجديدة. وأثرت الأزمة الاقتصادية العالمية في 2008 بشكل كبير جدًا في أداء الاقتصاد المصري الذي يمر بصعاب أيضا بسبب اعتماده على مصادر ريعية واقتصاد خدمي يتمثل في السياحة والدخل الناتج عن قناة السويس، والتصدير وبخاصة البترول، إضافةً إلى إغلاق آلاف المصانع. وفى إطار رصد عملية التضخم كشف الجهاز المركزي للتعبية والإحصاء أن معدلات التضخم زادت في الربع الأخير من عام 2013 نحو 11% قياساً بالربع الثالث من العام بل أن معدلات التضخم – ارتفاع الاسعار – زادت منذ 2011 وحتى الآن بنسبة تعدت 40 % الأمر الذي يعني أنه إذا كانت هناك أسرة تعتمد على صرف ميزانية تقدر ب1000 جنيه في 2011، فلن يكفيها هذا المبلغ في 2013 إلا إذا وصل إلى 1400 جنيه على الأقل لكى تشترى ما كانت تسطيع شرائه ب1000 جنيه منذ ثلاث سنوات، وقد سبقت تلك الموجة من ارتفاع الأسعار موجة أخرى في أعوام 2007 /2008 وما تلاها من سنوات اعقبت الأزمة الاقتصادية العالمية وأثرت في الاقتصاد المصري الذي تراجعت فيه نسب النمو الإجمالي الحقيقي في 2007 إلى 6.9 بعدما تجاوزت 7 % في سنتين سابقتين عن 2006/2007 ثم تراجع معدل النمو حتى وصل إلى 6% في عام 2012/2013. ومع كل هذه العوامل السابقة من طبيعة أزمة الاقتصاد المصري وعدم اعتماده على الإنتاج، ما يزيد السلع إضافة إلى ارتفاع نسب ارتفاع الأسعار في ظل انخفاض دخول وأجور الأسر المصرية التي تصل في المتوسط نحو 30 ألف جنيه سنويًّا. لقمة العيش و"الآلام الشهرية" عم محمد بقدر الخطوط التي رسمها الزمن على وجهه كانت معاناته في الشارع، فهو يفترش الأرض بقفص من الموز والبرتقال، يحكي لنا أنه يتقاضى معاشا من وزارة التضامن يبلغ 240 جنيه بينما يدفع إيجار 225 جنيهًا. ويكمل: "أدفع إيجاري ومصاريف الكهرباء والمياه من المعاش، بينما أعتمد على بيع الفاكهة في الشارع حتى نستطيع إيجاد اللقمة ، وتابع أبلغ من العمر 72 عامًا واذا مرضت لن أجد ما أنفق به على مرضي أو مرض زوجتي". وأنهى كلامه أنه يعتمد على بركة ربنا لاستكمال شهره ومعيشته. حكاية أخرى يرويها بكر أحمد عامل نظافة في أحد الجاليريهات، يقول أنه ترك زوجته وعائلته في الشرقية بحثًا عن لقمة العيش في القاهرة ، حيث يتقاضى 900 جنيه بينما يدفع إيجار 250 جنيها للغرفة التي يسكنها بجوار عمله . بكر على رغم بؤسه فإن الرضى لم يفارقه حتى وهو يحكي لنا كيف يستكمل شهره من دون زوجة ولا عائلة ويضطر للسلف حتى يستطيع أن يبعث لزوجته بالمال القليل. أما حسن علي، فكان غاضباً جدا وهو يحكي لنا عن ارتفاع الأسعار وتأثره بها، يجلس بفرشة في ميدان عبد المنعم رياض يبيع العسلية والملبن والحلويات، يقول إن بضاعته ارتفعت أسعارها أكثر من 20%، وأضاف أن الأحوال الاقتصادية السيئة جعلت المصريين عازفين عن اشتراء بضاعته، وأضاف أنه كان يتحصل على مكسب يصل أحياناً إلى 500 جنيه لكنه الآن اضطر لإخراج ابنه من المدرسة ليعينه على المعيشة. ويقول إنه لولا القروض الصغيرة وقطعة أرض يستأجرها في بلدتهم لجاع وتشرد هو وأولاده. ويروي صابر جمال، بائع ملابس مستعملة على الرصيف، كيف يقضي اليوم بيومه، ويعتمد على "بركة ربنا" كما يقول لييسر له الرزق حتى يستطيع العيش هو وأسرته. أما تهاني يحيى، معلمة في مدرسة خاصة، فراتبها 400 جنيه شهرياً ولديها ثلاثة أطفال وتدفع قيمة إيجار 200 جنيه، تقول إن زوجها هو الآخر يعمل واضطرت هي أيضا للخروج للعمل حتى لا يستدينوا من أحد. في حين تؤكد أمينة أيمن أنها كانت تعمل في إحدى الفضائيات وكانت تتقاضى راتبًا كبيرًا جدا يصل إلى 4000 جنيه لكن في الوقت نفسه أضافت أنه كان لا يكفيها، حيث إن المرتب الكبير يقتضي متطلبات معيشة عالية على حد قولها. حلم الميري "إن جالك الميري اتمرمغ في ترابه" ، مثل قديم ابتدعه المصريون تقديرا للوظائف الحكومية، التي تركوها بإرادتهم مع بداية عهد الانفتاح، ودخول الاستثمارات مصر، لكن الدولة ألغت ما يعرف بالتكليف من كل الكليات تقريبا وتكدست الشركات الخاصة فأصبح الملايين من الشباب عاطلون هكذا بكل بساطة، وهو ما أثر على المرتبات وشروط قبول الموظفين في القطاع الخاص فتدنت المرتبات وقلت التأمينات بل واختفت في أماكن كثيرة. وتفرض الدولة المصرية شريحة تأمينات على القطاع الخاص بنسبة 40% بينما تبلغ هذه النسبة في أمريكا نحو 7% وفي كندا 4%، وهذا ما يجعل صاحب العمل يفرض رواتب قليلة حتى لا يدفع تأمينات كبيرة للدولة كما تقول بعض التقارير الاقتصادية. هذه الظروف السيئة للعمل داخل القطاع الخاص جعلت الكثيرين يتوجهون مرة أخرى للقطاع الحكومي، لما له من ميزات تتعلق بالتأمينات الاجتماعية والصحية والمعاش، مما دفع البعض لدفع رشاوي حتى يجدوا لهم مكانا داخل أي مؤسسة حكومية. ويرى عبد المنعم السيد مدير مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية أن هناك أسباب أخرى تتعلق بتفضيل المصريين الآن الوظيفة في القطاع العام عن القطاع الخاص تتعلق بالفساد الكبير الموجود داخل مؤسسات الدولة ، والتي تبلغ نسبة المرتبات التي تخصصها الدولة نحو 182 مليار جنيه بعد الثورة ويتحصل على 60% منها نحو 32% من العاملين فقط. هذا كله ضافة إلى الفساد المقنع من خلال البدلات الحوافز التي تبلغ نحو 64 نوعًا، تصل في بعض الأحيان الى الآلاف من الجنيهات، وغياب المعايير والأسس التي تفرض على أساسها هذه الحوافز أو المرتبات من الأساس. الجريمة تولد من رحم الفقر كشف تقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن أن نسبة الفقراء على مستوى الجمهورية بلغت 25.2% خلال العام 2010-2011 ، وبعيدًا عن مدى صحة هذه الإحصائية وإغراقها في التفاؤل، فهناك بعض التقارير غير الحكومية التي تقدر نسبة الفقراء في مصر بأكثر من 40% ، وبسبب نسب الفقر المتزايدة مع الانفلات الأمني الموجود بعد الثورة فمن الملاحظ أن معدلات الجريمة قد ازدادت بشكل كبير جدا. وقد أشارت وكالة "أسوشييتد برس" الى ارتفاع معدل الجريمة في مصر يأتي في وقت يتدهور فيه اقتصاد البلاد وتنزلق سياسات مصر إلى فوضى شديدة، يشوبها احتجاجات عنيفة على نحو متزايد وحملات أمنية حكومية. ولقد شغلت الظروف الاقتصادية والاجتماعية للأفراد والجماعات وعدم المساواة الاجتماعية اهتمام من العلماء والمفكرين والمصلحين الاجتماعيين ونسبوا إليها كثيرًا من الأمراض والعلل الاجتماعية وفي مقدمتها ممارسة الجريمة وقد اعتقد بعضهم أن الأمراض الاقتصادية والاجتماعية في بعض البلدان المتطورة كأمريكا مثلاً هي المسؤولة إلى حد كبير عن الجريمة وعن تزايد معدلاتها. وقد أسهم عدد كبير من علماء الاقتصاد وآخرون غيرهم بمن فيهم علماء الاجتماع بدراسات متعددة لتوضيح أثر العوامل الاقتصادية وعدم المساواة الاجتماعية في تشكيل العوامل الأساسية للانحراف والجريمة. وفي إطار هذا الاتجاه فقد أكد روبرت ودسن، أنه حيث تكون معدلات الجريمة مرتفعة تكون البنية الاقتصادية ضعيفة ويتمثل هذا الضعف في إهمال المشاريع الاقتصادية الحيوية ونمو البطالة وتزايد معدلات الخراب وتدمير الأشياء والممتلكات بسبب الافتقار إلى الخدمات العامة والدعم المالي. فالجريمة المتمثلة في السرقة ازدادت كثيرا بسبب العوز والحاجة ، لكن كانت أشد أنواع الجريمة بشاعة هي قتل أب لأبنائه بسبب فقره فرمى منهم ثلاثة في النيل في محافظة بني سويف خوفاً عليهم من الجوع . والأم التي قتلت ابنتها فاطمة منذ شهر تقريباً بسبب فقدانها خمسين جنيهًا، تزداد الجريمة في مصر كل يوم ولكن ستظل الجريمة الأكبر هي الفقر والجوع.