"إنهم يرتكبون كل الحماقات الممكنة، قبل أن يعرفوا الطريق الصحيح".. قالها محلل سياسي إسرائيلي في سياق سخريته من المعالجة الأمريكية للمسألة النووية الإيرانية، ويمكن لهذه العبارة أن تنسحب على سلوك واشنطن المتخبط حيال دولٍ محورية ومهمة بالشرق الأوسط، طالما وصفت بالصديقة في أوساط السياسة الأمريكية، وفي صدارتها مصر والسعودية. وعلى سبيل المثال لا الحصر لمواقف إدارة أوباما المرتبكة، ففي بضعة أيام قليلة أطلق جون كيري وزير الخارجية الأمريكي تصريحين متناقضين تمامًا لدرجة تُثير الاشمئزاز من هذا السلوك السياسي المرتبك لدولة عظمى كالولاياتالمتحدة، فقبل أيام قال كيري بالنص الحرفي: "إن الإخوان المسلمين سرقوا ثورة الشباب، وإن الإطاحة بمرسي كانت ضرورية لمنع سقوط البلاد في أيدي المتطرّفين الإسلاميين". وبعدها بأيام قال المسئول الأمريكي ذاته: "إن إدارة الرئيس أوباما لا تدرس أو حتى تناقش احتمال تصنيف جماعة الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية". مواقف متناقضة جاء هذا التصريح عقب قرار اتخذته الحكومة المصرية باعتبار جماعة الإخوان "منظمة إرهابية" عقب تفجير انتحاري استهدف مديرية أمن الدقهلية بمدينة المنصورة يوم الثلاثاء 24 ديسمبر 2013م أودى بحياة 16 شخصًا، واتهمت الجماعة بتنفيذه، عبر أحد أدواتها المُسلحة وهي جماعة "أنصار بيت المقدس" التي تبنت أيضًا محاولة اغتيال وزير الداخلية، وهي تنظيم جهادي مسلح كان يتخذ من سيناء مسرحا لعملياته الإرهابية، لكنه عقب عزل الرئيس السابق محمد مرسي ونظام حكم الإخوان، نقل عملياته للقاهرة وعدة مدن مصرية. وبينما تدرج واشنطن أحد فروع "التنظيم الدولي للإخوان" وهي "حركة حماس"، ضمن لائحة المنظمات الإرهابية نراها تتغاضى عن إدراج "الجماعة الأم" ضمن لائحة المنظمات الإرهابية، والجواب ببساطة هو "أمن إسرائيل" الذي تعهدت "حماس" بحمايته بموجب اتفاق الهدنة الذي أبرم في نوفمبر 2012 الذي لعب فيه الرئيس المعزول محمد مرسي دور "الكفيل" الذي يضمن التزام "حماس" ببنود الهدنة التي جعلت حركة المقاومة التي صدعتنا بشعاراتها لمجرد "شرطي" لأمن إسرائيل لأن بنود الاتفاق تُحمّل "حماس" المسئولية عن أي عملية تنطلق من قطاع غزة، سواء ارتكبتها "كتائب القسّام" التابعة لها، أو أي من المنظمات المسلحة التي يعجّ بها القطاع، وقد تحول لساحة مزايدات بين تلك التنظيمات التي حصلت على أسلحة لا تملكها سوى الجيوش النظامية بعدما تم تهريبها من ليبيا عبر سلسلة الأنفاق بين مصر وغزة، والتي دمر الجيش المصري معظمها، ولم يتبق منها سوى بضعة أنفاق لم يُكشف أمرها، وستواصل القوات المسلحة تدميرها تمامًا بدون هوادة. صفقة واشنطن والإخوان في هذا السياق يثور سؤال مشروع عن سرّ هذا التناقض الأمريكي حيال الإخوان، ولعله يؤكد تلك التسريبات التي تحدثت عن (صفقة سرّية) بين واشنطن والجماعة الإرهابية، مفادها دعم أمريكي لمشروع الإخوان الأممي (الخلافة) مقابل إعادة تقسيم دول المنطقة على أسس طائفية ومذهبية وعرقية، بما يصب في نهاية المطاف لصالح "أمن إسرائيل"، بعد تفتيت الدول على غرار ما حدث وسيستمر في السودان، بانفصال الجنوب، والاستقلال الوشيك لدارفور التي أصبحت بالفعل خارج سيطرة نظام البشير الغارق في مؤامراته وألاعيبه، من أجل استمراره في السلطة حتى لو كان الثمن تفتيت السودان لثلاث أو أربع دول. وفي تقرير أعدته منظومة الاستخبارات الأمريكية (التي تضم عدة أجهزة استخبارات وأمنية ومراكز بحوث تابعة لها) خلصت إلى نتيجة مفادها إن السياسات التي اتبعتها واشنطن في مصر اتسمت بالارتباك وسوء تقدير الموقف في مصر فمن المعروف أن مرسي وجماعته "الإخوان المسلمين" ليسوا من أنصار الديمقراطية، فبعد وصولهم للسلطة بعد الانتخابات، كشفت الجماعة عن حقيقة أهدافها، وأن مرسي لم يكن أكثر من "واجهة" لمجموعة متشددة يضمها "مكتب الإرشاد" للجماعة قوضت كل فرص بناء ديمقراطية ناشئة في مصر، ولم يتحقق الوعد ب"حكومة وحدة وطنية" أبدا وبدلا من ذلك، كرّس مرسي وجماعته حالة الانقسام في البلاد التي كانت تعاني أصلا حالة استقطاب بالغة الحدة؛ فألغى سلطة القضاء بمرسوم قائلا إن حكومته لا تخضع لأحكامه، كما تعرضت عشرات الكنائس للحرائق بغض الطرف من جانب جماعة "الإخوان المسلمين" ما لم يكن بتشجيعها. هذه الفقرة وحدها من التقرير الاستخباري كانت كفيلة بأن تتوقف إدارة أوباما لتراجع مواقفها المرتبكة، فبعدما وجدت نفسها في الجانب الخطأ من المشهد المصري، لم تتكيف إدارة أوباما مع الواقع الجديد، وبدا واضحًا عدم اكتراثها بالعنف المستمر في مصر والذي تمارسه الجماعة الإرهابية، وبدلاً من تصحيح مواقفها اتخذت قرارات صبيانية بتقليص المساعدات لمصر بما يمثل خطوة أخرى تنمُّ عن الارتباك والغموض حيال نوايا واشنطن. وبدا واضحًا أن النطاق المحسوب للسياسية الأمريكية لم يدُرس بعناية لتجنب تعرض الأمن الداخلي المصري لعرقلة التزاماته في إطار اتفاقية السلام مع إسرائيل، غير أنه إذا كانت ثمة رسالة في سلوك واشنطن السياسي فمن الصعب فهمه في إطار الارتباك فحسب، بل يصل لحد تأكيد "نظرية المؤامرة" التي يبدو أن الجيش المصري بمساندته الثورة الشعبية في 30 يونيو أفسد مخططات كثيرة ليس لجماعة الإخوان الإرهابية فحسب، بل أيضًا لإدارة أوباما المخترقة من قبل التنظيم الدولي للإخوان، كما أشارت معلومات رصدتها أجهزة سيادية ليس في مصر وحدها، بل في عدة دول عربية ساندت المسار السياسي المتمثل في (خريطة الطريق) ليس حبًا في عيون مصر والمصريين فحسب، بل لتماهي المصالح والمخاطر المشتركة بالطبع. الحسابات الخاطئة ومثلا يأتي التقليص الذي أُعلن عنه مؤخرا في المساعدات الأمريكية لمصر ليضفي غموضًا وضبابية على سياسة واشنطن في المنطقة وستأتي بنتائج سلبية، وقد حان الأوان لمساعدة مصر على التحرر من قبضة الإرهابيين واستعادة حليف مهم لأمريكا في المنطقة؛ غير أنه في اللحظة التي يفترض أن تعمل فيها السياسة الأمريكية على تعزيز وتشجيع خطوات الحكومة المؤقتة نحو الديمقراطية، يأتي التقليص الجزئي للمساعدات، ليثبت مزاعم أعداء واشنطن ويساعد "الإخوان المسلمين"، بشكل خاص، على التشبث بما تبقى لديهم من أوهام، وعليه، فلا شك أن كثيرًا من المصريين، وكذلك أيضًا من الأمريكيين، يتساءلون: إلى أي صف تقف واشنطن؟ تبقى في النهاية نصيحة صريحة بأن أمريكا بحاجة ملحة لاستعادة مصداقيتها لدى دول (محور الاعتدال) ولديها فرصة للبدء بذلك مع مصر، لكن واشنطن حتى الآن لم تقم بشيء لذلك يجب على أوباما أن يضع دعم إدارته الكامل خلف إرادة الشعب المصري، التي تتجه لبناء دولة مدنية عصرية قوامها "المواطنة" واحترام منظومة الحقوق والحريات العامة والشخصية. والأكيد أنه إذا قامت الإدارة الحالية بترتيب أهدافها وفق منطق الأولوية دعم استقرار منطقة الشرق الأوسط عبر تحديد موقف منسجم وثابت يمكن الاعتماد عليه في الصراع الدولي ضد الإرهابيين والمتطرفين واعترفت الولاياتالمتحدة بأن حكم جماعة الإخوان كان سوء تقدير لمواقفها، فإن هناك فرصة حقيقية في مصر لترسيخ الديمقراطية، لكن لو لم يحدث ذلك وبسرعة، فإن العلاقات بين القاهرةوواشنطن ستتجه صوب مسار سلبي، على الصعيدين الشعبي والرسمي. والله المُستعان [email protected]