عينها تُشرّق وتغرّب... تُرجع رأسها إلى الوراء حيث يرقد المسند الخاص بالسيارة منتشية بما قد حصلت... آخذ نفسًا من سيجارتى وألفظه تباعًا فى وجهها. تستقبله كأنه نسيم مروحة خرْبة فى يوم قيظ. تضحك فى بلاهة غير مصطنعة بالمرة. أحبها.. إذ أفقد معها لغتى وأحدثها بلغة الحوارى التى جاءت منها. تقول إنها لم تصل لقمة النشوة التى تنشدها بعد. أرمقها بطرف عينى ناظرا لنفسى فى مرآة العربة الجانبية، أرى قليلًا من القش اعتلى رأسي، وأسنان لكهْلٍ فى الستين. هالاتى السوداء تصنع لى قناعًا من التعب أرى فى خلفيته الفتاة بينما جسدها المتوهج محاط بهالات زرقاء كما بحقول الطاقة. ثمة الكثير ما يحدث فى حياتي.. وتُحل مشاكلها بين إصبعى السبابة والوسطى حينما يقتربان من الشفاه. أعشق المشى فى الظلام كوطواط يتحسس الأماكن بجسده.. آلاف الحوائط تصدمنى باليوم عدة مرات وأسامحها. والعربة تنهب الأميال حاولت النوم فى الطريق لكنى اصطدمت بحائل صنعته عرضًا من الكافيين. تضحك الفتاة وتقول بأن سيجارتها نفدت.. أشير لها بأن تنتظر قليلاُ، شققت سيجارة محلية لدى وأخرجت بطانتها وأتيت بورقة سوليفان من أدراج العربة، ثم وضعت الخامة السحرية.أسخنها بحرص لكى تُفرك ببطء كيما تنصهر، وخلطتها بالتبغ معًا على اللفافة وفركتها. شكّلتُ الأخيرة على هيئة قرطاس مستفحل ولصقتها بلسانى كخطوة ختامية وقدمتها لها وأنا أقول «.. هنا يحدث السحر» تبتسم ابتسامة تتبعها بضحكة رقيعة.. رفيعة التردد. تستمر ضحكتها الرنانة فى دوامات أذنى لبضع ثوانٍ، أتذكر بعدها أن ليس معى بطاقة فأدور من شارع آخر لا أعرفه. أترجل من العربة، الناس تتخبط بي. من الزحام تزفر سجائرا عوضا عن الهواء وتشْتم رائحة العرق كأنها تصدر عنك، أنسل بنفسى إلى شارع خالٍ إلا من قط أبيض، القط منكّس الرأس يموء فى حزن بالغ يعيد أحداث يومه فى رأسه، فيظهر هو فى أحداثها كثيرا. أدنْدن بمقاطع متعددة من أغانٍ قديمة، ديدن أصبح لدي. الغناء فى الشوارع له طعم آخر. تشعر بروح جديدة غزت الأغاني، الصوت وقتها يصبح ونسا تفقد بحسه صوت الحشد الذى يرقبك.. فمنذ فترة أمشى فى الأسواق، وأغشاها بحثًا عن الأفضل. كرهت التمدن للحظات. الكتل الخرسانية للمبانى تفقدنى شعورى بالحياة وتعوق رؤيتى لذا فمن الحكمة أحيانا أن تغلق عينك حتى لا تفيق وتفتحها على البشر والكذب يطل من عيونهم. تم تصنيفى على أساس أنى ممثل، أنى كاذب وكلما برعت فى التمثيل، كلما برعت فى الكذب. علاقة طردية لتقييم أفعالى، وكأن التمثيل أصبح حكرًا عليَ. كل ما أقوله هو عبارات مكررة.. عبارات تم دهسها آلاف المرات حتى أصبحت مبتذلة تكره نفسها، وأصبحتُ أنا بينها كطفل صغير يكتب قصصًا عن نفسه. الكذب أكبر خطيئة بشرية، فيجب قبلها أن تستشف صدور الناس جيدًا، لتتأكد من صدقهم، حتى تتمكن من البوح بمكنون صدرك، ولن تعرف ذلك إلا إذا تكلمت وتحدثت. دورة غريبة مغلقة لا بد من خوضها والانسياب بمجرى الحديث والدخول فيه بكلْتا ساقيك وإن رفضت الاعتراف بذلك وسبقتك دموع الرُهبان، فلن تقدر على فتح الصفحات الجديدة. وإن يكن وكنت أكذب، هل أنا وحدى أكذب.. هل أخى أدهم حدثنى صدقا حينما قال لزوجته عفاف خارقة الجمال إنه تزوجها من أجل أدبها. هل قريبى طالب الجامعة الذى يقطن معى صدق حين قال على لسانه لكل أساتذة جامعته كعلكة طال مضغها فى فمه «إنكَ أفضل من درس يوما ليَّ» بالرغم من أنه لا يعرف أسماءهم بالكامل.. هل أصدق الحَمال البسيط القولَ حين حمل صخرة سيزيف نفسها من الدور الأرضى إلى الدور السادس، بعدها أعطاه جارى الثري- لا اذكر اسمه حقيقة- خمسة جنيهات فقط بطرف إصبعه، وقال الحمال المحنى الظهر له: «كَثُرَ خيرك».. وحامد عامل النظافة الذى كلما انحنى ظهره ليحمل جيف الشارع نتأ عنه شعر مؤخرته، هل صدق حينما سألته عن حاله وقال «مستور. يا باشا الحمد لله» كاذبون.. كلهم. ربما ميرنا ارتقت قليلا لمنزلة التابع، من جُب أحلامي. أفضل الأشياء فيها لأنى على طبيعتى معها، أتكلم معها دون تزيين للكلام دون تكلف عرفت عنى الكثير. قالت لى فى بداية معرفتى بها إنها عملت فترة كفتاة إعلانات، ولكنها اكتشفت بعملها أن جمالها وحده غير كافٍ للنجاح. حاول المخرج مضاجعتها بكلامه المعسول، بحجة أن تقديم التنازلات سيفتح لها أبواب النعيم. جاء من ظهرها عديد من المرات وهى مستغرقة على المكتب وطوقها عن قصد. تداركت أن بداية هذا الجو لا تعجبها، بل ويعصف بها تركت العمل دون تأسف، وإنى لأشكر المنتج والمخرج وطاقم الإنتاج بأكمله، شكرا على ما فعلوه من أجلي! فلولا ما فعلوه ما كانت لتقع فى عجلة الظروف ويجمعنا طريق واحد، يا لها من بهجة، مجرد رؤيتها كل يوم، ودون أن نتكلم نترك ما يفعل السحر بنا. يفض مكنون قلوبنا، دون أن يتركنا نلعق جروحنا ويغلقها لفترة لا بأس بها. ثمن رخيص ندفعه من أجل إزالة كل الآلام النفسية، أسرع من حلول فرويد ويونج وغيرهما وأفعل من صداعهما. جنينى الآن أصنعه فى رحمها، سنتفرغ لتربيته بعد أن نجد عملًا جديدًا، بعدما طردت من عملى السابق بحجة اكتشافهم أنى أدخن فى العمل. ليذهبوا إلى الجحيم مدعو الشرف هؤلاء.. أراهم يعبثون بعد انتهاء دوام عملهم مع غير زوجاتهم، الطبيعة المزدوجة تمتلكهم، أنا على الأقل لا أمتلك عناء إخفاء طبيعتي. لكنى أرجع وأقول لنفسى أحيانا أن مشكلتى ليست معهم، مشكلتى مع العمل عامة أنى هوائى جدًا، أنا هوائى أكثر من هوائى معلق فى ليلة عاصفة.. أنا عدو للاستقرار وللروتينية وطبعا البيروقراطية، أريد العمل الخاص، ولكنى لا أمتلك رأسً المال. العمل لدى أحدهم يحولك لدمية فى يد من يحكم، تعبد الطواغيت وتُقبلها عن عَمد. ثم إن أفضل الأيام فى حياتى التى أرجع بها إلى بيتى بلا نقود وأيام أخر لا أذكرها دفنت تحت تراكمات من الحشيش وبركة من أعقاب السجائر، وبقى يوم وحيد ما إن نزلت فيه من عربة أبى الخاصة حتى أطاحت مقطورة بسيارته وقلبتها عدة مرات حتى انكفأت على ظهرها.. حينها عدوت إلى مكان السيارة حتى ترسب دمه تجاه قدمي. كان يوما سيئا بحق، لكنى استخرجت منه حكمة بأن أفضل مَنْ بالحياة من فارقوها، وأنه لا شيء فى نظرى يستحق العناء الكامل. هذه هى الحكمة.. كثر كلامي، واضح أن مفعول اللفافة قد ذهب.. هل حلمت يوما برأسك ثقيلا، لدرجة أنه يقع ويتدحرج بمفرده على الأرض فتقاذفه الأقدام. هكذا شعرت بنفسى ورأسى من الصداع يبدو كخزان مياه، كأنما مؤخرة وحيد قرن تقبع فوقها. أدس يدى بجيبي، وأخرج لفافة جديدة، أشكلها كسابقتها أدسها عند ركن فمي، وأسحق طرفها قليلًا لتنضغط. أتعافى من أحزانى مع أول نفس يدخل إلى رئتى فينفخها وتدًا ينزع كرد فعل لدى دخوله وأطير كبالون مرتفع فوق الأجداث. أنظر إلى البشر لأحكمهم من فوق لا ينقصنى سوى أجنحة للتحليق. أترك النشوة تخنقنى وتؤنبنى على تأخرى عليها كل هذا الوقت. أتحمل التقريع عن حب، لأنى لا أحتمل البعد عنها. القمر يبدو قريبا بالضباب الرمادى ومن شعر ميرنا المَعْقُوص بعضه على رأسها تاركا البعض جديلة يُغزل منه الليل. أرى من موقعى بعض أفراد الحمام تحلق فوقى تتآلف، أرمقهم بحسد لأنهم على وفاق لا يعرفه بشر، النسيم معبأ برائحة المِلح المحببة وآلاف العيون تنظر إلى قِبلة واحدة توحدت معًا، نقاط سوداء تتحرك على خرائط عسكرية لا يتم توجيهها فيها. أرى نهود البنات المتمنعات عنى بوضوح من مسقطى الرأسي، أجد تموجات من غزل البنات وعيدان من الحلوى بأسفلي. أرى قضبان حديدية متدلية من العمائر فى تباه. ألفظ نفسًا ليس بأخير من سيجارتي، وأقول لنفسى بعد أن أهز رأسى موافقة، هكذا إذن يكون العيش على متن طائرة ورقية. قصة قصيرة/ إسلام عشري