مصر الآن تشارف عاما جديدا وهي محفوفة بمخاطر "الجهل والمجهول"، أو تلك الجماعات الظلامية التي ترتدي قميص الدين ظلما وعدوانا وترويعا للآمنين وتلك العناصر والتنظيمات الفوضوية التي هان عليها الوطن لحد الرغبة في تحويله لمختبر لأفكار عدمية فوضوية لم تنجح أبدا بأي منظور ثقافي- تاريخي في الواقع الغربي الذي ظهرت تلك الأفكار أول ما ظهرت فيه. ومن هنا تنبع أهمية السؤال: هل تنتج ثورة 30 يونيو ثقافة تحمي مصر من مخاطر الجهل والمجهول؟ وقبل ذلك هل ينتهي الجدل الذي طال أكثر مما يجوز حول توصيف ما حدث في 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013 أم يستمر التشكيك ومحاولات نزع الصفة الثورية عن مجرياتهما معا أو أحدهما؟ وإذا كانت الجماعات الظلامية والعناصر التكفيرية الغارقة في الجهل قد استهوتها جرائم السيارات المفخخة على أمل حاقد بالحاق أكبر قدر من الخسائر بالمصريين، فإن العناصر الفوضوية بتلاوين الطفولة الثورية قد استهوتها جرائم الدفع في اتجاه انهيار الدولة الوطنية في عدوان سافر على قيم العيش المشترك وحقوق وحريات المواطنين ورغبة مجنونة في وضع مصر تحت رحمة المجهول! وفيما يقترب موعد الاستفتاء على الوثيقة الدستورية الجديدة كنقطة فاصلة في تنفيذ خارطة الطريق وبناء مؤسسات النظام السياسي الجديد، فإنه يشكل في الوقت ذاته استفتاء بالمعنى السياسي على ثورة 30 يونيو ذاتها وتأسيس الشرعية الدستورية لهذه الثورة التي أبهرت العالم بحشودها غير المسبوقة. وهذا الاستفتاء يكتسب المزيد من المعاني المتصلة مباشرة بواقع الحياة اليومية وقوت المواطن، فيما بات الاستقرار مسألة مصير لدرء مخاطر الانهيار الاقتصادي وحماية رجل الشارع الذي لابد من الاعتراف صراحة بأن معاناته الاقتصادية زادت منذ ثورة 25 يناير جراء الانفلات المستمر الذي تراهن عليه القوى المعادية للوصول بمصر الى الافلاس. كما أن هذا الاستفتاء يعني اقرار تعديلات دستورية تعلي حقا من الحريات وحماية كرامة المواطن وضمان التوازن الدقيق بين حق المجتمع في العيش بأمان وحق المواطن في الكرامة، والوثيقة الدستورية الجديدة تنص صراحة على أن "كل من يقبض عليه أو يحبس أو تقيد حريته يجب معاملته بما يحفظ كرامته ولا يجوز تعذيبه ولا ترهيبه ولا اكراهه . وبحس وطني وايماني أكد الامام الأكبر شيخ الجامع الأزهر الدكتور أحمد الطيب على أن المشاركة في الاستفتاء واجب وطني وطالب الشعب المصري بالنزول للاستفتاء وعدم الانصياع لدعوات المقاطعة. ومن المثير للتأمل حقا أن تلتقي الجماعات الظلامية والعناصر الفوضوية في تلك اللحظات على العداء للوثيقة الدستورية الجديدة، كما التقت على عداء للجيش الوطني باعتباره في طليعة المؤسسات التي تضمن استمرار الوجود المصري واستمرارية الدولة. وهنا يتوجب القول بأن أحد أبعاد ثورة 30 يونيو الشعبية كان رفض تفكيك الدولة المصرية وانهيارها أو الهيمنة عليها من جماعة تمسك بمفاصلها دون احترام أي اعتبارات للأمن القومي وسيادة الدولة الوطنية. وغني عن البيان أن أي ثورة يكتب لها النجاح انما تسقط شرعية النظام الذي كان قائما فإن سقطت الشرعية تسقط المشروعية ومن المثير للتأمل أيضا في السياقات الثورية المصرية أن الجيش الوطني كان حاضرا أبدا ومنحازا دوما للشعب الذي هو مصدر كل السلطات. ولعله "الكيل بمكيالين"، أو "ازدواجية المعايير"، عندما يعمد البعض لانكار شرعية ثورة يونيو، بينما يعطي الشرعية لثورة يناير، مع أنهما معا شكلا ثورتين قام فيهما الشعب بسحب غطاء الشرعية عن نظامين لتسقط بالتالي مشروعية كل منهما وتنتفي امكانية استمرار أي نظام منهما في الحكم. ومرة أخرى فإن الأمر يدخل في صميم تلك التساؤلات التي ماجت بها الحياة الثقافية المصرية حول التشخيص الحقيقي لما حدث في الخامس والعشرين من يناير 2011 والثلاثين من يونيو 2013 وهل كانت كل منهما ثورة أم انتفاضة أم هبة جماهيرية، او غير ذلك من المسميات. غير أن الكاتب الصحفي صلاح منتصر رأى أنه على الرغم من أن "موضوع يناير ويونيو والثورة أو الانقلاب قد اهترأ توضيحا لمن يستعصي عليه الفهم نقول: إن الذي لا يمكن انكاره ان يناير ويونيو كانت كل منهما حركة شعبية ضخمة، وكما انحاز الجيش في يناير الى جانب الشعب لحمايته فإنه كرر ذلك في يونيو". واتساقا مع رؤية طرحها ابداعيا الدكتور عمار علي حسن في رواية "سقوط الصمت"، ولعلها رواية هذا العام في مصر، يقول نادر فرجاني، وهو صوت وازن ثقافيا بشأن ما يسمى بجماعات وأحزاب الإسلام السياسي "لقد أظهرت هذه الأحزاب متحالفة أنها ليست إلا تيارا سياسيا يمينيا يلتحف زورا بالإسلام وكشف عندما قفز على السلطة عن وجه فاشي مقيت" . وأضاف فرجاني: "لولا اليقظة الثورية لشعب مصر العظيم التي تجلت في الموجة الثانية الكبيرة من الثورة، يونيو/ يوليو 2013، بحراسة ومدد قواته المسلحة الباسلةن لكنا خسرنا الثورة والوطن والإسلام جميعا خدمة لأغراض مخططات دولية لا تمت للثورة أو الوطنية المصرية بأي صلة". والأدهى أنهم ردوا على حق الشعب في اسقاط حكمهم الاقصائي المستبد والخائن للثورة- كما يقول نادر فرجاني- بترويع الأبرياء وبالارهاب المسلح الخسيس داعيا "لاستبعاد من حمل السلاح على الشعب من الحياة السياسية والعامة في مصر بعد محاسبتهم بعدل ونزاهة يضمنان حقوقهم الانسانية التي حرموها على أشقائهم في الوطن". وتموج اللحظة المصرية الراهنة بآراء وطروحات يذهب بعضها لضرورة حظر قيام احزاب على اساس ديني من اجل مايصفه مثقف مصري مثل نادر فرجاني "بالحرص على نيل غايات اهداف الثورة الشعبية العظيمة". ويوضح هذا الخبير المتخصص في التنمية البشرية انه يقصد الأحزاب التي "تهدف الى اقامة دولة يغلب عليها طابع السلطة الدينية" فيما يضيف انه يتوجب رفض هذا النوع من التشكيلات الحزبية لسبب مبدئي يتمثل في أن هذه الأحزاب "تناقض غايات الثورة الشعبية العظيمة في اقامة دولة عصرية ومدنية حديثة تساوي بين مواطنيها وتضمن الحرية والعدل والكرامة الانسانية للجميع على ارض مصر", أما السبب الثاني الذي يطرحه نادر فرجاني فيصفه بأنه "عملي" ويقول ان "خبرتنا مع سلطة اليمين المتأسلم اظهرت بمالايقبل الشك ان مثل هذه الأحزاب اتحدت على هدف اجهاض الموجة الأولى من الثورة الشعبية , يناير 2011 لأغراض لاتمت الى الثورة او الوطنية بصلة". غير انه يستدرك قائلا "لكن هذا الموقف لايعني ان تغيب المرجعية الاسلامية عن مستقبل السياسة وحركة المجتمع في مصر ان بقى بين ابناء مصر الأطهار من لم يتلوث بهذا الفهم الرجعي المتشدد والمعسر للاسلام ولم يمارس العنف او يرفع السلاح على بني وطنه". وكما هو حال اكثرية في هذا الوطن فيقين الدكتور نادر فرجاني ان "الاسلام سيبقى مكونا اصيلا للنسيج الوجداني والروحي لشعب مصر" غير ان هناك بسبب مايصفه "بانتشار افكار اليمين المتأسلم وممارساته المتخلفة بين فصيل من الشعب تحديا فكريا يكمن في التوصل لفهم للإسلام يتسق مع منطق العصر الذي نعيش ويناصر غايات الثورة الشعبية، وليس الأمر مستحيلا، فالإسلام نشأ ثوريا وتحرريا في المقام الأول". فالقضية التي يطرحها هذا المثقف المصري "تلمس بدايات للفهم الثوري التحرري للإسلام الذي يعتبر روح الإسلام الحق بما يؤسس لمرجعية إسلامية تحتضن غايات الثورة الشعبية العظيمة وتعمل من اجل نيلها". وإذا كانت الثورات والتجارب التاريخية الواثقة من ذاتها لا تحجر على أي صوت حتى لو كانت أصوات من الماضي أو عبرت عن أنظمة أسقطتها الشعوب بتكاليف فادحة، فلا جدال أن اللحظة المصرية الحرجة تشهد محاولات من بعض رموز وأصوات النظام الأسبق لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء أو القفز على ثورة 30 يونيو، لكنها بحكم التاريخ هي محاولات لا يمكن أن يكتب لها النجاح وإن أثارت الكثير من القلق والجزع في النفوس الطامحة "لقطيعة بائنة مع انظمة الاستبداد والفساد". وها نحن نرى في نهاية عام ليس ككل الأعوام أصواتا لا تعرف الحياء وهي تهتف برقاعة لابن رأس النظام الأسبق و"بطل مهزلة التوريث" في قاعة محكمة تنظر واحدة من قضايا عدة في انتظاره ويصل ابتذالها وانفصالها عن الواقع إلى حد الحديث عن رئاسة مصر التي تنتظره! والذاكرة التاريخية تحفل بمحاولات لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء في مجتمعات شهدت ثورات، كما حدث في قصة البوربون والثورة الفرنسية، لكن التاريخ يؤكد أن إعادة إنتاج الماضي محكوم عليها بالفشل، فيما أجيال جديدة لديها أشواق عارمة للتغيير وصنع المستقبل المغاير. ولئن كانت اللحظة المصرية الراهنة استدعت تأكيد الحاجة إلى جهد لرصد وتوثيق اهم التطورات التي شهدتها مصر منذ اندلاع ثورتها الشعبية، فقد أصدر الرئيس عدلي منصور قرارا جمهوريا بتشكيل "لجنة قومية مستقلة لجمع المعلومات والأدلة وتقصي الحقائق التي واكبت ثورة 30 يونيو وما أعقبها من أحداث وتوثيقها وتأريخها"، على أن تكون هذه اللجنة برئاسة الدكتور فؤاد عبد المنعم رياض القاضي الدولي السابق وأستاذ القانون. وفيما أوضح الرئيس عدلي منصور أن العالم ينقسم إلى فريقين بشأن مصر، أحدهما يريدها أن تصعد والآخر لا يريدها أن تصعد"وأن تظل هكذا معلقة"، فها هو المفكر سمير مرقس يطالب باستجابات مبدعة غير نمطية حيال التحولات الكبرى الجارية الآن في العالم وما يسميه ب"الحروب الهادئة" كمفهوم مستحدث لوصف راهن العلاقات الدولية. وفيما تعني الحرب الهادئة باختصار "التعاون الاقتصادي الشامل والتنافس الحاد في مجال الجغرافيا السياسية"، أي انها حرب تسمح بالشراكة الاقتصادية بين المتناقضين كما هو الحال بين الولاياتالمتحدة والصين مع وجود خصومة في مجال الاستراتيجية الجيبوليتيكية، فإن ثمة حاجة للتواصل مع ميكانزمات "الحرب الهادئة" بخاصة في بعدها الاقتصادي. ويحق لسمير مرقس القول في هذا السياق إن "تعظيم الفائدة لن يكون إلا بتعاظم الذات الوطنية، أي برفع قدراتنا وقوانا الذاتية في اطار مشروع وطني يضعنا في الموقع الصحيح". ثمة حاجة لخيال ثقافي واسع وآفاق فكرية رحبة، ولعل من المناسب استعادة ما قاله أحد أهم فلاسفة العلم في القرن العشرين، وهو كارل بوبر الذي اعتبر التعصب الديني والأيديولوجي أهم عقبة تعترض التقدم العلمي لأن هذا التعصب يحول دون البحث عن بدائل علمية جديدة للنظريات القديمة، بقدر ما حذر من تحول أي نظرية علمية إلى أيديولوجيا لها قداستها أو حصانتها. فليتحمل شعب مصر وصاحب الحق الأصيل في وطنه مسؤولياته التاريخية حيال ثورته ويصل بها الى بر الأمان بتحقيق أهدافها وتجسيد شعارها على امتداد مصر المحروسة، ولو كره الكارهون ووكلاء الماضي الاستبدادي. وإذا كان السؤال يتردد الآن بقوة: "مصر.. إلى أين؟"، فمصر الى مستقبل عليها ان تنتصر فيه على مخاطر الجهل والمجهول وتلبية مطالب "الثوري المجهول"، أو الكتل الشعبية الهائلة التي هي وحدها صانعة ثورتي 25 يناير و30 يونيو. نعم صدقية ثورة 30 يونيو مرهونة بإنتاج ثقافة تضمن حياة انسانية لهؤلاء الذين خرجوا للمرة الثانية من البيوت الخفيضة وسهاد الفقر والضيم ليصنعوا الثورة الثانية وأساس الدولة الحديثة بنظامها الديموقراطي وحكومتها المدنية وبميزان العدل والحرية. إن مصر لن تعيش أياما مظلمة، كما تنعق صحف غربية أمست معادية بوضوح لثورة 30 يونيو ولن تستسلم أبدا للإرهاب الظلامي مهما بلغت ضرباته الحاقدة لترويع الآمنين في ربوع الكنانة، كما أنها لا يمكن أن تتحول الى مختبر لنفر من مراهقي الفوضوية. لكن يبدو أن هناك حاجة لتوازن عقلاني، كما أننا بحاجة للنقاء الثوري والتأكيد على انه لا فكاك أبدا بين العدل والحرية في رحلة ليست بالسهلة بين مخاطر الجهل والمجهول.. ورغم نزف الجراح ستنتصر مصر بعزم الشهداء وصدور الثائرين الصامدين.. رأسها المرفوع بالحق والعدل والحرية لن ينحني أبدا أمام غلظة الجهل ونزق المجهول.