تحفز التطورات الحادثة فى السياسة الدولية، على مراجعة كاملة لملف العلاقات العربية الأمريكية بكل تعقيداتها، فقد أصبحت هناك ضرورة لوقفة جادة، يتم من خلالها إعادة صياغة شروط التعامل مع واشنطن، لتحديد شكل العلاقة معها، سواء فى صورة حليف أو شريك نزيه، رغم اليقين بأنه خائن ولم ولن يكن نزيهًا بالمرة،أو البقاء على أرضية الخنوع أمام صديق جامح نحو الغطرسة، فقد بات الخروج من أسر المألوف الذى اعتدنا عليه، أمرًا حتميًا، لانقاذ أنفسنا من الهزائم النفسية، وهى أخطر بكثير من أية هزائم أخرى. لذا أصبح مهمًا استثمار اللحظة الراهنة، والسعى نحو توظيف الرفض الدولى لقرار واشنطن بنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس، بالتوجه نحو استقطاب دوائر سياسية مؤثرة، لصالح القضايا العربية برمتها، وإن كانت هذه المهمة، تبدو صعبة على الأقل فى اللحظة الراهنة، إلا أنها ليست مستحيلة على المدى القصير، فقد كشفت المواقف الدولية المناهضة للقرار الأمريكى،جوانب مهمة، ليس على صعيد دعم القضية الفلسطينية، إنما لأن السياسة الأمريكية تجاه تلك القضية، ضربت فى مقتل كل الأطروحات التى يتغنى بها العالم الحر، وصارت الشعارات المنادية بحرية الشعوب جوفاء، فالانحياز كان أخلاقيا أكثر منه سياسيًا، وهذا لا ينفى أن جهودًا مضنية، بذلتها الدبلوماسية المصرية مع دول عربية محورية، ساهمت جميعها فى خلق أجواء ضاغطة على المنظمة الدولية. هذا لا يعنى أن هناك توافقًا تامًا أو انسجامًا فى سياسات الدول التى تصدت للقرار الأمريكى، بل يوجد أضداد، فهناك من وضع اعتبارات داخلية فى حساباته، وهناك من يرغب فى توظيف الحدث لصالح تقدم صفوف زعامة العالم الاسلامى، وما بين هذا وذاك، ظلت الأزمات تشغل حيزًا فى سياسات الدول الإقليمية، وهذا لا يعنى قطيعة بين الدول التى أيدت الموقف العربى والولايات المتحدةالأمريكية، فهناك علاقات واضحة، حيث تلاقت المصالح الأمريكية فى المنطقة مع تطلعات إمبراطورية لإيرانوتركيا ومطامع قوى أخرى هامشية. ففى هذا السياق المشحون بتعقيدات المصالح الإقليمية والدولية، بات العالم العربى يواجه جملة من التحديات الاستراتيجية، ليس فقط تحدى السياسة الأمريكية الصانعة للخراب، إنما لكونه يواجه تحديات أخرى منها، تنامى التواجد الإيرانى فى المنطقة العربية، عبر أزرعها فى العراقوسوريا و«حزب الله» فى لبنان والحوثيين فى اليمن، حيث أدى التدخل الإيرانى فى اليمن، إلى تهديد مباشر لدولتين محوريتين فى الإقليم، هما المملكة العربية السعودية، ودولة الامارات العربية، غير أن دولاً إقليمية أصبحت بفعل العلاقات السرية مع طهران، ممرًا لتهريب الأسلحة إلى الحوثيين. الحضور الإيرانى المذهبى فى العراقوسورياولبنان واليمن ومناطق أخرى فى شبه الجزيرة العربية، لم يكن وحده مغريًا بلعب دور سياسي إقليمى، بل هناك جوانب أخرى تأهيلية، منها أن «إيران الملكية» كانت حليفًا مهما للغرب، وإن كانت الدوائر السياسية الغربية، باتت تنظر إليها، بعد قيام ثورة الخومينى ورحيل نظام شاه إيران، بأنها دولة خارجة عن السيطرة،غير أن تقارب واشنطن مع طهران فترة إدارة الرئيس الأمريكى السابق » باراك أوباما » من خلال الاتفاق النووى، الذى مكنها من التقارب غير المعلن مع قوى دولية أخرى، وهو نهج تاريخى توارثه آيات الله منذ الدولة الصفوية، التى أقامت تحالفات سرية مع الدول الأوروبية، أثناء حروبها مع الدولة العثمانية. النهج الفارسى فى استثمار الأزمات الإقليمية،،ساهم بصورة أو بأخرى فى تنامى جرأة إيران، لتصبح طرفًا فاعلاً فى الصراعات الدائرة «سورياوالعراقولبنان واليمن»، باعتبارها مركزًا حضاريًا للشيعة، منذ تأسيس الدولة الصفوية، فى القرن السادس عشر الميلادى، والتى كان قيامها مقترنًا بالقضاء على مذهب أهل السُنة، وفرض المذهب الشيعى بالإكراه وبقوة السلاح، فهذه الدولة شملت إيران الفارسية،إضافة إلى أجزاء من تركيا وأذربيجان وأفغانستان ومناطق من الهند، فضلاً عن احتلالها دولة العراق، إثر تحالف الصفويين مع الدول الأوروبية المتحاربة مع الدولة العثمانية آنذاك، فهذه التحالفات كانت بداية للوجود الأوروبى الاستعمارى فى المنطقة العربية. تسعى ايران للاستفادة من مخططات القوى الدولية تجاه المنطقة لإعادة تشكيل الخريطة الجغرافية من خلال تقسيمها وتفتيتها وفق مشاريع استراتيجية، جرى إعدادها فى المراكز البحثية، وغرف الوكالات الاستخبارية، تتوافق بالأساس مع استراتيجية التمدد الفارسى المغلف بثياب المذهبية، ومن هذه المخططات، مخطط «برنارد لويس» 1979، المرجعية الأصلية لسياسة الفوضى الخلاقة، وأيضًا، أطروحات الجنرال الأمريكى المتقاعد «رالف بيترز» التى رسمت تصورات خارطة «حدود الدم» لمنطقة الشرق الأوسط،، إلى جانب مخططات أخرى، تؤسس لمنطلقات استراتيجية، منها الوثيقة الصهيونية، لتفتيت خرائط اتفاقية «سايكس بيكو »، وهى الوثيقة التى نشرت عام 1982 في مجلة «كيفونيم» العبرية، الصادرة عن المنظمة الصهيونية العالمية، بعنوان «استراتيجية إسرائيلية للثمانينيات»، وغيرها من المخططات والمشاريع التى صيغت لمنطقة الشرق الأوسط. ازدادت وتيرة التنافس بين القوى الإقليمية من أجل السيطرة والهيمنة، وبدا هذا التنافس، واضحًا منذ انهيار النظام العراقى، عام 2003 وترسخت مشاهده على الأرض منذ اندلاع شرارة الفوضى، تحت لافتة ثورات «الربيع العربى» قبل أسبوعين من بداية عام 2011، هذين المتغيرين، شكلا نقطة انطلاق لطموحات وأهداف القوى الدولية الصانعة للأحداث والقوى الإقليمية، المستفيدة منها، ما أدى إلى دخول المنطقة بأسرًا فى دوامات الصراعات والحروب والتدخل من كل القوى،بحجة القضاء على الإرهاب ونشر الأمن والسلم وتحقيق الحرية والعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان فى دول المنطقة، لكن كانت النتائج تدميرًا ممنهجًا لكل مقومات الدولة وتجريدها بشكل تدريجي من قواها السياسية والاقتصادية، بعد أن فرضت القوى الدولية أجندتها وخلقت الصراعات الطائفية والعرقية وزرعت التنظيمات الإرهابية. أدى انهيار النظام العراقي إلى تنامى ظاهرة التنظيمات الإرهابية، كتنظيم القاعدة وطالبان وداعش، إضافة إلى دعم تيارات المعارضة وفق العديد من المنطلقات الطائفية والعرقية وتسخيرها والاستفادة منها، إلى جانب ضغوط تتعلق بالإشكاليات الأخلاقية، مثل المطالبة من قبل القوى الدولية بتنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية فى النظام السياسى وتحقيق مبادئ الديمقراطية والعدالة والمساواة والحرية وحقوق الإنسان، وغير ذلك من الأوراق الضاغطة، فكانت المحصلة لكل هذه التطورات انتشار حالة الفوضى والصراعات والحروب بالوكالة وتدخل مباشر ملموس، خاصة فى الحالة السورية والعراقية واليمنية. هذه الحالة أفرزت عدم الثقة بكل توجهات أى دولة فى المنطقة،وبالتالى تعززت حالة الريبة، بعد انكشاف حقيقة الدور الذى تلعبه فى الخفاء، أنظمة إقليمية هشة، دأبت على اتباع سياسة المغامرة واستغلال الأزمات والتطورات فى المنطقة لصالح أهدافها الخفية، ومصالحها المعلنة، فتبلورت سياساتها على إضعاف الدول الرئيسية فى المنطقة «مصر والإمارات العربية والمملكة العربية السعودية ». بدا جليًا أن إطالة أمد الأزمات، يصب فى صالح القوى الإقليمية، الطامحة فى التوسع الإمبراطورى القائم ظاهريًا على التنافس المذهبى بين «إيرانوتركيا»، فى المشرق، إضافة إلى الدولة العبرية، باعتبارها كيانًا وظيفيًا، يؤدى دورًا أمنيًا لحماية مصالح الغرب التى تنظر للمنطقة العربية،بأنها مناطق نفوذ تاريخية،وبين إيران والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية فى منطقة الخليج العربى، فالأزمات تعمل على تفريغ القوى الرئيسية فى المنطقة، من قواها السياسية وتدمير اقتصادها وقوتها العسكرية، واستنزاف لكل الموارد والطاقات من خلال الحروب، بما يجعلها فى النهاية دويلات ضعيفة، هشة، تابعة للقوى الدولية، التى فرضت أجندتها من ناحية، ويحقق الهيمنة للنفوذ الفارسى من ناحية أخرى.