أعمال يحيى حقي الأدبية، وضعته في مكانة مرموقة وسط جيله من عمالقة القصة والرواية؛ وكانت آراؤه الفكرية والموضوعات التي طرحها من خلال أعماله الروائية كانت سابقة لتفكير الكثير من مُعاصريه؛ كما أن تعدد عوالمه والوظائف التي شغلها من النيابة إلى المحاماة إلى السلك الدبلوماسي أثرى من تجاربه. جاء كتاب حقي "هموم ثقافية" ليتصدى لقضايا هامة ومتجددة منها الثقافة والمثقف وتعريفهما ودورهما في المجتمع ودور اللغة كوعاء للفكر ومعنى كلمتي الأدب والأديب وعلاقة الحاضر بالماضي واشكاليات الترجمة؛ وكان يحلم بمحو الأمية بمصر، وكان يرى -وهو الذي ارتاد افاق الثقافة الغربية مع ارتباط وثيق بثقافته العربية- أنه ينبغي أن يكون لكل كاتب لمسة فنية تميزه وهي لمسة خاصة تخطر عن ذاته وتهمس بحضوره المميز عمن سواه؛ وكذلك أن الكاتب الحقيقي هو الذي يشعر أن جميع الفاظ اللغة تناديه لتظهر للوجود على يديه، وكان يرى أنه لا عشق للقصة والشعر الا بعشق أهم هو عشق اللغة الطيعة كاللون للرسام والحجر للنحات. كان حقي، الذي رحل عن عمر ناهز 87 عامًا، صاحب أطروحات نقدية عميقة دون تعقيد، ومستنيرة بلا شطط، وساخرة وصريحة دون أن تدمي أوتجرح، بجانب القدرة على تحليل العمل نقديًا من داخله لتصير أعماله النقدية "أنشودة البساطة"، وهو عنوان الكتاب الذي حوى مقالاته النقدية عن القصة القصيرة في ستينيات القرن العشرين؛ كذلك له كتاب نقدي هام هو "فجر القصة المصرية"، وهو بمثابة تأصيل مبكر للأسس الفنية للنقد الأدبي لفن القصة. أما في الأدب، فجاءت روايته الأشهر "قنديل أم هاشم" لتصير إحدى أيقونات الرواية العربية -وتحولت إلى فيلم سينمائي من إخراج كمال عطية وبطولة شكري سرحان- والتي تحكي قصة إسماعيل الطالب الذي يعيش في حى السيدة زينب مع أمه وأبيه، ثم يسافر لاستكمال دراسة الطب في ألمانيا، حيث يحتك بالحضارة الأوروبية وهناك يتعرف على فتاة ألمانية تعلمه كيف تكون الحياة، ثم يعود طبيبًا للعيون ويفتح عيادة في نفس الحي، ليكتشف أن سبب زيادة مدة المرض عند مرضاه هو استخدامهم قطرات من زيت قنديل المسجد، وعندما يكتشف أيضًا أن خطيبته تعالج بنفس الأسلوب يحطم قنديل المسجد، وينفض عنه مرضاه وأهله لاعتقادهم أنه يهاجم ويتحدى معتقداتهم الدينية. ولا يجد بدًا من عقد مصالحة بين العلم والمعتقدات فيعود لعلاج ابنة خالته فاطمة مستخدمًا الإيمان والعلم معًا. ويكتشف إسماعيل أنه من الأهمية اكتساب حب الناس وأسرته. أم قصته "سارق الكحل"، فتحكي القصة عن رجل يعيش وحيدًا في بيت من طابقين، والطابق الثاني لم يستأجره أحد نظرًا لإرتفاع ثمن الإيجار، إلى أن يأتي "مصطفى" والذي يسنأجر الدور الثاني ليتزوج به، وبالفعل يحضر مصطفى عروسه وجيهة، وسرعان ما يصبح الزوجان جزءًا من حياة راوي القصة؛ وتعكس القصة تفاصيل حب مصطفى ووجيهة، ثم تأخذ منعطفًا آخر بعد موتها المفاجئ. في هذه القصة ركز حقي على ذكر تفاصيل علاقة الزوجين وعنفوان الحب بينهما، فيذكر عمق النظرات بينهما في قوله "الأعمى يتبين أنهما واقعان في حب عنيف، إنه يكاد يأكلها بنظراته"، وأيضًا في إيضاح كيف أن ما يسعده يسعدها،وما يشقيها يشقيه في قوله "فمن أجله وحده إبتسامتها". في مجموعته القصصية "أم العواجز" يجد قارئه ذكريات الصبا والشباب التي عايش بعضها من خلال اختلاطه وقربه من الإنسان البسيط والحياة الشعبية والأصالة التاريخية مستعرضًا العادات والتقاليد التي استقرت في شخوص عبرت عن الظروف الاجتماعية الصعبة التي يعيشونها ودور إرادتهم وقدرتهم على تخطي صعوبات الحياة، متناولًا هذه الأفكار بأسلوبه الشيق الذي يحمل الكثير من عبق التاريخ من خلال ست عشرة قصة، على رأسها قصة "أم العواجز" التي تعرض معاناة بطل نشأ يتيمًا ليعيش حياة بلا ثقافة أو أسرة أو مال، يواجه الحياة بإرادة لا تجد نصيرًا أو معينًا وإنما تقوده أحكام المسئولية الفردية؛ فالبطل في صراع دائم لإرادة تبحث عن الإنسانية الحقة، حتى لا يكون ضحية اجتماعية. أما السينما، فقد قطع يحيى حقي في علاقته بهاشوطًا بعيدًا، وتنوعت اتجاهات تلك العلاقة وأوجهها، فهو متفرج من داخل صالة السينما، وقد ظل حريصًا على تلك العادة حتى نهاية حياته؛ كما أنه ناقد متابع للأفلام وله بعض الآراء المهمة المقدرة التي تمتلك إلى جانب الذوق الشخصي خبرة ذاتية كبيرة اكتسبها من جولاتها في المعاقل السينمائية الكبرى في أوروبا، ثم توجت السينما المصرية عام 1968 علاقتها بيحيى حقي بالالتفات إلى أعماله الأدبية والاستقاء منها، فأنتجت أربعة من الأعمال السينمائية المميزة التي رسخت في وجدان المشاهدين ومن أبرزها "البوسطجي"، ثم "قنديل أم هاشم"، وهما أهم ما أنتجت السينما المصرية بعامة، وقد سبقهما من أعمال يحيى حقي فيلم "إفلاس خاطبة"، ووليهما فيلم "امرأة ورجل".