سواء فى مصر أو العالم العربي أو على مستوى العالم قاطبة- عاد الحديث بقوة فى الآونة الأخيرة عما يسمى "بالحروب الثقافية" بصورة تعيد للأذهان أجواء عصر الحرب الباردة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتى السابق، فيما باتت هذه الحروب تستخدم ضمن ممارساتها لافتات حقوق الإنسان. وفي مقابلة أجرتها نانسي جالاجر مع المؤرخ البريطاني واللبناني الأصل البرت حوراني ونشرتها هذه الباحثة والأكاديمية ضمن أطروحة بالإنجليزية صدرت بعنوان: "مقاربات لتاريخ الشرق الأوسط" يمكن للقارئ أن يرى بوضوح تجليات "الحروب الثقافية" التي طالت المنطقة العربية. فالمؤرخ الراحل البرت حوراني والذي تخصص في تاريخ العرب والشرق الأوسط يقول في سياق هذه المقابلة التي نشرتها نانسي جالاجر ضمن أطروحتها وهي بدورها باحثة متخصصة في شؤون الشرق الأوسط أن منظمة كانت ناشطة في ستينيات القرن العشرين وتحمل اسم "مؤتمر الكونجرس للحرية الثقافية" قد ثبت فيما بعد أنها "منظمة تعمل كغطاء لأنشطة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية". وإذا كان انهيار الاتحاد السوفيتى ودول المنظومة الشيوعية التى دارت فى فلك موسكو قد افضى لفتح ملفات الارشيف السرى وكشف طرف من الحروب الثقافية التي دارت بين المنظومتين الغربية الرأسمالية والشيوعية واسهمت بقوة في خلخلة الاتحاد السوفييتي السابق فإن هذه الحروب تتجدد الآن بصيغ متعددة يرصدها المحللون في حالات مثل استهداف الغرب للتجربة الاقتصادية الصينية التي اسفرت عن انجازات عملاقة بقدر ماتزعج قوى غربية نافذة بما تنطوي عليه من تهديد لمصالحها. ومن الواضح لكل ذي عينين أن هذه الحروب الثقافية لم تكن بعيدة عن استخدام منظمات غربية ترفع لافتات حقوق الإنسان بينما يفضي التحليل الموضوعي لممارساتها عن كشف نزعة واضحة "لتسييس قضايا حقوق الإنسان بما يخدم مصالح الجهات والأطراف التي تقف وراء هذه المنظمات" وهو مايحدث في الاستهداف الغربي للتجربة الصينية الرائدة كما يحدث مع التجربة الروسية في ظل قيادة الرئيس فلاديمير بوتين وهي تجربة وطنية مغايرة للتجربة السوفييتية ذات التوجه الأممي والتي باتت في ذمة التاريخ منذ بدايات العقد الأخير في القرن الماضي. ومن هنا حق لمثقفين مصريين وعرب أن يتحدثوا الآن عن هذه المنظمات مثل منظمة هيومان رايتس ووتش التي تخلط بصورة ممنهجة مابين الدعاوى الحقوقية والأغراض السياسية لصالح " أجندات تستهدف بعض الدول وترمي لاصطناع ذرائع للتدخل في شؤونها الداخلية وانتهاك سيادة الدولة الوطنية". وكما لاحظ بعض هؤلاء المثقفين في طروحات وتعليقات عبر الصحف ووسائل الاعلام فإن هذه المنظمات الغربية التي ترفع لافتات حقوق الانسان لاتحرك ساكنا أمام قضايا تدخل في صميم الدفاع عن حقوق الإنسان مثل الممارسات الاسرائيلية التي تشكل انهاكا فجا وصارخا لحقوق الإنسان الفلسطيني ومن بينها حقوقه الثقافية وتراثه ومقدساته. وإذا كانت الدورة ال 72 للجمعية العامة للأمم المتحدة التي ستبدأ يوم الثلاثاء المقبل في نيويورك قد اختارت هذا العام الانعقاد تحت عنوان:"التركيز على الشعوب - السعي من أجل السلام والحياة الكريمة على كوكب مستدام" فإن مواجهة الحروب الثقافية والنزعة الواضحة لتسييس حقوق الإنسان لخدمة أجندات أطراف وقوى بعينها تدخل بلا جدال ضمن السعي من أجل السلام والحياة الكريمة على كوكب مستدام يبلغ عدد الجوعى فيه حسب تقرير جديد للأمم المتحدة 815 مليون شخص. وفيما تبعث ظاهرة تجدد الحروب الثقافية على الآسف من منظور أنها تنال من صدقية المثقف على وجه العموم فإن الحروب الثقافية القديمة فى عصر الحرب الباردة يبدو أنها تتجدد الآن بأشكال مغايرة وتتجه للمنطقة العربية بقوة فى سياق المشهد العالمى المعاصر. ويبدو أن أحد أسباب القلق الظاهر فى كتابات هنا وهناك حول الحروب الثقافية غير بعيدة عما يتردد حول محاولات قوى خارجية تفجير المنطقة وإعادة رسم خرائطها بما يخدم المزيد من مصالح هذه القوى، فيما لم يتورع نظام الحكم في قطر عن استخدام منابره ووسائطه الإعلامية والدعائية لخدمة مصالح هذه القوى التي لا تنشد خيرا للأمة. وإذ عقدت المعارضة القطرية مؤتمرا بدأ امس الأول "الخميس" في لندن تكشف شهادات معارضين وعناصر منشقة عن النظام الحاكم في قطر أن هذا النظام يستخدم منابره ووسائطه الإعلامية والدعائية لخوض حروب ثقافية لا تخدم سوى أعداء الأمة العربية فيما شرع في حملة جديدة لتهجير وإبعاد قبائل عربية من مواطني قطر الرافضين لسياسات هذا النظام ومضى في تجريد مواطنين من جنسيتهم بما يشكل انتهاكا صارخا لحقوق الإنسان. ولعل الدور الذي يقوم به هذا النظام في الحقل الثقافي العربي وتبنيه لجوائز ذات قيمة مادية كبيرة لاستقطاب مثقفين بحاجة لدراسة موضوعية ومتعمقة لكشف حقيقة الدور التخريبي لنظام الحكم القطري في فضاء الثقافة العربية وقيامه بدور الوكيل المحلي لأطراف خارجية في الحرب الثقافية الجديدة. وللكاتبة والباحثة البريطانية فرانسيس ستونر سوندرز كتاب بعنوان:" من دفع للزمار:الحرب الباردة الثقافية" ويتضمن معلومات مثيرة حول تلك المنطقة الرمادية التى تستخدم فيها اجهزة المخابرات مجال الثقافة فى لعبة الأمم والحروب السرية وتشكيل العقول وتفجير الدول من الداخل. وحسب هذا الكتاب فإن بعض أصحاب القامات الفكرية العالية فى الغرب شاركوا فى "حروب كسب العقول والقلوب" التى قادتها المخابرات الأمريكية وكانت تصب فى نهاية المطاف فى خدمة الهيمنة الثقافية الأمريكية والتلاعب والسيطرة على منابر الكتب والفن والسينما والموسيقى. ومع أن من الخطأ الإسراف فى نظريات المؤامرة والتشكك المرضى فى كل مايأتى من الخارج وتحميل الأمور اكثر مما تحتمل والافراط فى الحديث عن "الغزو الثقافى" فإن المشهد الراهن يثير في السنوات الأخيرة قلق ومخاوف مثقفين عرب يرون ان منطقتهم باتت مستهدفة ثقافيا بقوة. وعلى سبيل المثال ففى الدورة السابعة والعشرين لمهرجان جرش الأردنى للثقافة والفنون - تحدث الباحث والناقد الدكتور محمد عبيد الله عن "الحرب الثقافية الباردة" وتأثيرها على المشهد الثقافى سواء فى العالم العربى أو على مستوى العالم قاطبة. وذهب عبيد الله إلى أن المخابرات الأمريكية أسست منظمات كانت مهمتها انتاج نوع محدد من الثقافة ودعمه والترويج له مثل "الشكلانية" وتهميش كل مايتعارض مع السياسة الأمريكية فى الحياة الثقافية. وأضاف أن هذه المنظمات أسست 120 مجلة ثقافية كانت ممولة من المخابرات الأمريكية وتقود التشويه فى العملية الثقافية وأن "الحرب الثقافية الباردة تحول مسارات النقد إلى ما يخدم أهداف من يقف ورائها ويضع سدا فاصلا بين السياسي والثقافي". وإذا كان كتاب: "من دفع للزمار" يتناول باستفاضة دور المخابرات الأمريكية فى صياغة الحياة الثقافية والفنية فى الغرب ابان عصر الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتى السابق واستخدام الأساليب الثقافية والقوى الناعمة والجوائز بل وتجنيد شخصيات من النخب الثقافية ذات الثقل العالمى لمناوئة الفكر الشيوعى فان الأمر بحاجة لاكتشاف ودراسة الصيغ المغايرة والجديدة للحروب الثقافية المتجددة والتي طالت العالم العربي. إن كل مثقف عربي حقيقي يدافع عن حرية الابداع بقدر مايرفض الحروب التي تتخفى وراء لافتات ثقافية لتنفيذ مخطط آثم يحلم بتحلل المدائن العربية وسقوط دول العرب في ركام وخيوط من غبار وجراح.