لماذا تحرص واشنطن علي تجنيد اليساريين أولاً؟ لاحقني لسنوات سؤال جوهري ومحوري: لماذا يتحول بعض اليساريين والناصريين إلي العمل وفق خطط وبرامج الولاياتالمتحدة.. في حين أنها تمثل لهم خصما أيديولوجيا ومناقضا صارخا ؟.. ومن ثم فإن السؤال التالي هو: كيف ولماذا تقبل الولاياتالمتحدة نفسها أن توظف هؤلاء.. بينما هم يفترض فيهم أنهم يعملون ضد كل ما تمثل من قيم؟.. إلي أن قرأت في الأسبوع الماضي عبارة تقول : «أفضل طريقة لعمل دعاية ناجحة هي ألا يظهر عليك أبدا أنك تعمل شيئا».. ولعلها صدفة أن صاحب هذه العبارة هو ريتشارد كروسمان الأستاذ الراحل واليساري في جامعة أوكسفورد.. وكان من منظري حزب العمال البريطاني. عملية (اللهاث اليساري وراء الدولار الأمريكي)، أو ( الانتماء الناصري التحتي إلي المؤسسة الأمريكية)، عبرت عن أهم صور تجلياتها في مصر قبل وطيلة نحو 20 عاما، وبالتحديد بعيد سقوط الاتحاد السوفيتي.. وانهيار المعسكر الشرقي بنهاية الحرب الباردة.. وهو ما تزامن مع نشوء مجموعة هائلة من المنظمات الانشطارية والجمعيات الأهلية المتكاثرة ذريا (جمعية من قلب جمعية من قلب ثالثة).. من ذلك النوع الذي راح يعمل في إطار أجندة الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات والترويج لمفاهيم سياسية أمريكية.. كان أن تمت بعثرتها في جميع أرجاء الشرق الأوسط.. وخصوصا بكثافة في مصر. تصورت في البداية أن الأمر يتعلق بنوع من الردة السياسية، أو أنه تجسيد لصدمة العمر التي عاشها هؤلاء بعد سقوط الحلم الشيوعي.. وأن تلك هي النتيجة الطبيعية.. وأن الولاياتالمتحدة قد تبنتهم.. وتلقفت الثمار المحبطة.. ووظفتها في اتجاهات بعينها.. تخدم علي الهدف المناقض لما كانوا يؤمنون به.. وفيما بعد تبين أن التواصل بين الولاياتالمتحدة والراديكاليين بشكل عام.. واليساريين بشكل خاص إنما يعود لسنوات أبعد من ذلك بكثير.. ومنذ انتهت الحرب العالمية الثانية.. وبدأ برنامج سري للدعاية الثقافية في أوروبا الغربية.. وكانت أهم الملامح الأساسية لهذا البرنامج هي أن (يبدو كما أنه لا وجود له).. في حين يدار من وكالة المخابرات المركزية. ولكن ما هي أهمية هذا السؤال؟ ولماذا يجب أن ننشغل بموضوع العلاقة بين النخبة اليسارية .. أو التي لديها تلك الملامح.. وبمن في ذلك القوميون العرب الذين يعارضون علنا وعلي مدار الساعة الولاياتالمتحدة ؟.. الإجابة هي: أن علي الساحة الآن في مصر.. نوعا من الصحف التي تتلقي دعما أمريكيا.. رغم أنها تعتمر بعديد من المصنفين علي أنهم راديكاليون يساريون أو ناصريون.. وعلي الساحة كذلك عشرات من الشيوعيين الذين يقودون منظمات وجمعيات.. لاتقوم أنشطتها إلا بتمويل أمريكي معلن وغير خفي.. وفي مصر عديد من الشخصيات التي تصنف علي أنها من النخبة .. وتعلن شعارات مناقضة تماما لكل توجهات واشنطن.. لكنها عمليا تعمل في ذات سياقها.. وتتلقي تمويلاتها.. أو تجد مساحات واسعة في منابر تعيش علي الدعم الأمريكي. - من دفع للزمار ؟ نقطة الإضاءة هنا هي كتاب (من الذي دفع للزمار؟ - الحرب الباردة الثقافية) الذي ألفه (ف.س.سوندرز) وترجمه إلي العربية المثقف المصري المرموق طلعت الشايب.. وصدرت منه حتي الآن أربع طبعات عن المركز القومي للترجمة.. وفيه تأصيل مدقق للعملية شديدة التعقيد التي قامت بها الولاياتالمتحدة بعد الحرب العالمية الثانية في اتجاه المؤسسات الثقافية والصحف والنخب.. لكي تحارب الشيوعية.. وكما يقول الدكتور عاصم الدسوقي في تقديمه للطبعة العربية الصادرة في مصر: (كان لابد من تجميع اليساريين السابقين ودمجهم في المؤسسة التي شكلتها المخابرات المركزية الأمريكية، وهو أمر قد يبدو غير قابل للتصديق.. لكن كانت هناك مصلحة مشتركة حقيقية، وكان هناك اقتناع لدي الوكالة وأولئك المثقفين أنه لابد أن يخوضوا معها الحرب الثقافية حتي وإن لم يعرفوا ذلك). ويضيف الدكتور الدسوقي : (لقد كان من المذهل أن يعتقد مثقفون ذوو أحكام كبيرة جدا أن المخابرات الأمريكية المركزية هي مرفأ لليبرالية ووعاء ذهبي لها).. وأعتقد أن هذا الإيمان الغريب الذي وجد ذلك في جهاز استخباري كان معروفا وقتها بتدبير الانقلابات علي مدار الساعة هو جذر الاقتناع الذي يؤمن به عدد من المثقفين في مصر حتي اليوم إنه لابد من التعاون مع الولاياتالمتحدة.. وقبول هذا المنطق.. لتحقيق الديموقراطية في مصر. تغيرت الأحوال.. وتبدلت الأساليب.. ما بين عالم الحرب الباردة.. وعصر العولمة المفتوحة.. ولكن الواقع الحالي في ضوء قراءتي للكتاب ينتمي بطريقة مباشرة إلي الزمن الذي بدأت فيه الولاياتالمتحدة عمليتها المعقدة والسرية تلك علي المستوي الثقافي ومن خلال (منظمة الحرية الثقافية) التي كان يديرها رجل المخابرات الأمريكية مايكل جوسلسون.. فيما بين 1950 و,1967. وكانت لها مكاتب في 35 دولة.. ويعمل بها عشرات من الموظفين وتصدر أكثر من 20 مجلة ذات نفوذ.. وتنظم المعارض الفنية وتمتلك مؤسسات إعلامية وتعقد مؤتمرات دولية تحضرها شخصيات بارزة، وتكافئ الفنانين والموسيقيين بالجوائز وترعي معارضهم وحفلاتهم. ويقول عاصم الدسوقي في تقديمه للكتاب: (قلة فقط من الكتاب والشعراء والفنانين والعلماء والنقاد في أوروبا بعد الحرب هم الذين لم تكن أسماؤهم مرتبطة علي نحو أو آخر بتلك المؤسسة السرية.. مؤسسة التجسس الأمريكية التي ظلت تلعب دورها دون أن ينكشف أمرها وبدون منافسة من أحد.. وظلت تدير جبهة ثقافية في الغرب ومن أجل الغرب تحت شعارات حرية التعبير.. إنها معركة من أجل الاستيلاء علي عقول البشر). ويضيف: (لقد كانت تقوم كعامل مجهول بتسهيل سلسلة عريضة من النشاط الإبداعي وتضع المثقفين كقطع الشطرنج في اللعبة الكبري.. كانوا جميعا جزءا من عملية دعاية كبري.. وفي قلب حرب نفسية معقدة.. أو كما قال آرثر كويستلر فإن تلك كانت شبكة دعارة أكاديمية دولية بمؤتمراتها الثقافية وندواتها الفكرية). - مؤسسة التجسس الثقافية لايمكنني في هذا السياق، وقد كشف الكتاب عن جذور الرؤي وأصول التحرك ومنابت الدعايات وحروب الضغوط، أن أستبعد الواقع الحالي عما كان يتم خلال الحرب الباردة.. لاسيما وأن العملية لم تعد سرية.. بل مكشوفة.. وعلي عين التاجر.. وأمام الجميع.. وفي إطار مشروعات معلنة.. تجددت بصراحة.. ولقيت تسويقا هائلا بعد أحداث سبتمبر ,2001. ومنذ قررت الولاياتالمتحدة توفير التمويل اللازم لبرامج مشروع الشرق الأوسط الكبير.. تلك التي توفر تمويلا صريحا ومعلنا للمنظمات والجمعيات والصحف الخاصة.. والتي يعمل الكثير منها في مصر.. وإن أنكر البعض أنه علي علاقة مع الولاياتالمتحدة.. أو ادعي أنه ضد سياستها.. خصوصا اليساريين والناصريين والقوميين. لقد انبني التوجه الأمريكي في السابق علي أساس أن الرسالة التي تريد مؤسسة التجسس الثقافية سوف تحظي بمصداقية أكبر حين تأتي من مثقفين وعقول ذوي ميول يسارية أو لهم تاريخ يساري سابق.. خاصة أن الرسالة موجهة بالأساس لهدم التوجهات الشيوعية.. ويفسر هذا الآن كيف التناقضات الصارخة ما بين توجهات صحف راديكالية مصرية معروفة بأنها علي علاقة وثيقة بالولاياتالمتحدة.. والأفكار التي تروجها محطات تليفزيون فضائية.. تعرف الدول التي تبثها بأنها علي علاقة وثيقة بالولاياتالمتحدة.. لكنها في ذات الوقت تقوم بتسويق رسالتها من خلال تعضيد التوجهات الدينية المتطرفة.. والخطاب اليساري والقومي العنيف شديد التطرف. وفي حين كانت المؤسسة التجسسية فيما مضي سرية.. فإن مواقع السفارات الأمريكية في الشرق الأوسط، ومواقع جهات التمويل علي شبكة الإنترنت، تعلن بوضوح أنها عن تمويلات للصحف المستقلة.. ومشروعات تدريب للكوادر.. وعمليات تطوير تكنولوجي.. وهذا لا تخجل هيئة المعونة الأمريكية من أن تدونه بوضوح في موقعها الإلكتروني بالقاهرة.. فضلا عن مؤسسات أوروبية مختلفة ليست بعيدة الصلة عن الولاياتالمتحدة.. مثل مؤسسة الصوت الحر الهولندية التي تقول إنها تدعم الإعلام المستقل متعدد الأشكال، وتقول إن الصحافة الناقدة شرط لازم من أجل تقدم الأفراد والمجتمعات وأنها تدخل في اتفاقيات شراكة مع مؤسسات إعلامية في الدول النامية تحت شعار (تكريس حرية الصحافة وحماية استقلال العمل). إن التعرف علي هذه الحالة، التي حظيت بدفعة قوية جدا.. خصوصا بعد خطاب وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة في الجامعة الأمريكية في القاهرة قبل سنوات.. يمكن أن يفسر.. في ضوء الخلفية المعقدة عن الحرب الدعائية النفسية الأمريكية في عصر الحرب الباردة.. إلي ماذا تعود مواقف مجموعات هائلة من المثقفين والصحفيين والكُتَّاب.. حتي لو كانوا يعلنون مواقف ضد الولاياتالمتحدة.. وبما في ذلك كتاب من الحجم الثقيل وأسماء لها تاريخ.. حين يتم إخضاع منتوجها إلي التحليل الدقيق بعد حذف حاشيات الهجوم علي الولاياتالمتحدة.. سوف يتبين لنا أنهم إنما يعملون في سياق الأجندة الأمريكية وليس أي شيء آخر. - مواصفات الصحف المرضي عنها ويمكنني في هذا السياق أن أفهم إشادة تقرير للاتحاد الأوروبي صدر يوم الخميس الماضي بزيادة عدد الصحف المستقلة في مصر خلال العام الماضي.. لكن أن يضيف نفس التقرير في وصف تلك الصحف عبارة تقول: (تلك التي تتبني عموما نهج انتقاد الحكومة وسياسة الدولة).. فإن هذا يعني أن الإشادة الأولي مشروطة بالوصف التالي. هذه الصحف، الموصوفة بالاستقلال، هي صحف خاصة، مملوكة لأفراد أصحاب مصالح محددة ولديهم أجندات بعينها، ومن المدهش - لكنه لم يعد مفاجئا - أنها اتبعت نهجا يساوي بين ما تقول إنه استقلالها.. وبين إصرارها علي النقد المتواصل للدولة .. ليس فقط سياستها.. ولكن شخوصها ومؤسستها وقيمها وقوانينها.. بحيث يمكن القول أن موجز مضمون الرسالة المتجمعة من مضمون تلك الصحف هي أنه يجب إزالة تلك الدولة.. إذ حتي المطالبة بالإصلاح لم يعد لها أثر.. والحل في عمق المعني المسوق علي نطاق واسع هو: أن تقوم دولة جديدة.. وأن الدولة الحالية هي غير مجدية علي أقل تقدير.. وفاشلة في كل الأحوال. لم يعد مثيرا في هذا الإطار أن تجد أن تلك الصحف المصرية الخاصة هي المصدر الأساسي للاقتباس في الصحف الغربيةوالأمريكية.. ولم يعد مدهشا أن تجدها تستكتب بصفة مستمرة كتابا وأقلاما تحظي بالتشجيع المستمر في محافل أوروبية وأمريكية مختلفة.. تنال جوائز لاتتناسب مع حجم إبداعها وقيمة فكرها.. وتترجم مؤلفاتها علي أنها تعبير عن الثقافة المصرية.. بينما أغلب النقاد يرون أنه ليس فيها مايساوي ذلك اللهاث من الناشرين الأوروبيين خلفها.. وهذا الذي نراه ليس سوي تفسير بسيط لنمو (فقاعات) ثقافية وصحفية .. صارت مفروضة علي الساحة في مصر.. تكتب فتروج لها صحف ممولة أمريكيا.. ثم تحصل علي جوائز من جهات مختلفة مرتبطة بالمؤسسات الثقافية الأمريكية.. وتنال الإشادات من منظمات أمريكية.. ولم يعد مثيرا علي الإطلاق أن تجد أن الصحف الأمريكية تصر بتعمد شديد علي عدم النظر إلي أية مصادر أخري للتفاعل الصحفي والثقافي في مصر.. إلا من أتي عبر تلك الآلية معلنة الأهداف. في (من دفع للزمار؟).. تجد وثائق مدققة تثبت أنه كانت هناك أوامر بحذف كتب بعينها من المكتبات.. كما لو أنها عمليات مصادرة متعمدة وغير معلنة.. ويمكن في المقابل أن تجد في مصر الآن دور نشر لا تنشر إلا لمؤلفين بأعينهم.. وتسوقهم علي نطاق واسع وبأساليب غير اقتصادية علي الإطلاق لايمكن أن تقود إلي ربحية مفترضة في عمليات النشر.. وفي ذات الكتاب ما يفيد بأن الولاياتالمتحدة قد عمدت إلي تعضيد اتجاهات فنية بعينها.. ومنها السريالية.. أو تلك التي تتخلي عن القواعد الفنية المتعارف عليها.. ترسيخا لقيم حرية التعبير وكسر التابوهات.. وتعضيدا للأفكار التي تواجه الشيوعية التي توجه بدورها فنا مخطط الأهداف لتسويق رؤيتها. في التاريخ الثقافي المصري، واقعة مشهورة، كان بطلها الأديب الكبير الراحل يوسف إدريس، الذي قدمت له مجلة (حوار) اللبنانية جائزة كبري في عام 1966، قبلها بداية، ثم رفضها حين تبين له أن المجلة تخضع لتمويل وتوجيه المؤسسة الثقافية التابعة لحلف الأطلنطي، وعوضه عنها الرئيس جمال عبدالناصر.. وفي كتاب (من دفع للزمار؟) يروي الكاتب كيف تم تأسيس مجلة بريطانية معروفة اسمها (انكاونتر) كانت تودع الأموال في حسابها من (إدارة البحث الإعلامي الأمريكية) وبتوجيه من رجل المخابرات الأمريكية جوسلسون، وكانت إدارتها تخضع لنقاش في مضامين التحرير من مسئولين في المخابرات الأمريكية.. وكانت تنشر مقالات لسارتر وسيمون دي فوار.. ويقول المؤلف إن رواية مثل 1948 الأشهر لجورج أوريل كانت تنبع من توجهات هذه المؤسسة الثقافية الأمريكية السرية. - الشبكة المعقدة إن مطابقة الوقائع التاريخية الموثقة، مع الوقائع الآنية المعلنة، يقودنا إلي أننا بصدد منظومة من العملاء.. الذين يدرك بعضهم حقيقة الدور الذي يقوم به.. أو لا يدري البعض الآخر في أي الأمور يتم توظيفه.. ويفسر هذا التراكم المعلوماتي المدهش كثيرا من الأمور الملغزة التي تصادفنا يوميا.. حين تجد كاتبا قد ارتفع نجمه فجأة بدون مبرر موضوعي.. وآخر ينال جوائز غير مفهومة.. وثالثا يمارس عملية انتقاد واسعة النطاق للجوائز والتقديرات الوطنية.. مشككا في قيمتها.. بهدف ترقية قيمة الجوائز التي تأتي من أوعية خارجية.. أو بهدف تبرير لماذا لم يحصل علي التقدير الوطني بالفعل من مؤسسات محلية لم تجد فيه بعد ما يستحق. وهذه الشبكة المعقدة من العلاقات والتربيطات تفسر كثيرا من المواقف علي المستوي السياسي والصحفي.. ومنها علي سبيل المثال ما كان يجري طوال الأسبوع الماضي.. حيث بدت ردود الأفعال علي عملية (التمديد المنقوص) لحالة الطوارئ.. وبما يشبه الإلغاء الكامل لها.. وقصر الأمر علي تدابير مكافحة الإرهاب وتجارة المخدرات فقط.. بدت ردود الأفعال تلك كما لو أنها مرتبة مسبقا.. وظهرت مقالات في الصحف وتصريحات في المحطات.. تجاهلت ما جري من تطوير لعملية التمديد الاضطرارية.. سرعان ما وجدت لها صدي مباشرا ومماثلا في التصريحات الأمريكية الانتقادية الصادرة عن متحدث البيت الأبيض ووزيرة الخارجية الأمريكية.. وكان من المثير أن يسافر في اليوم التالي عدد من الاحتجاجيين المصريين الذين قال أحد مصادر الأخبار أنهم سافروا إلي واشنطن للاحتجاج علي تمديد قانون الطوارئ (!!!) لقد تغيرت أساليب القوي الكبري في التعامل مع مقدرات الدول الأقل حجما، أو القوي الإقليمية المماثلة لمصر، وكما قلت من قبل فإنه ليس شرطا علي الإطلاق أن تكون عملية الاستهداف لمجتمع ما بمثل تلك الأساليب العنيفة التي جرت في العراق منذ عام 2003، أولا لأن العراق كان معقدا ولا يمكن الصبر عليه لفترة طويلة، وثانيا لأن مصر دولة كبيرة لايمكن اقتحامها عسكريا ولايمكن لشعبها أن يقبل أو يحتمل غزوا مماثلا، فضلا عن أنها ليست محكومة بنموذج صدام حسين، وثالثا لأنه لا يمكن التضحية بمقدراتها في ضوء أهمية استقرارها للمنظومة الدولية. ومن ثم كان البديل هو تنفيذ خطة (الاعتمال الداخلي) الذي استثمر مناخ الحراك الذي دشنته الدولة نفسها في إطار عملية تطوير وإصلاح وطنية.. هذه الخطة انبنت علي استهداف (تفوير) لايصل إلي حد (التثوير).. بتوظيف مجموعة من الأدوات الثقافية والسياسية والصحفية والحقوقية.. الممولة علنا وسرا من منابع الولاياتالمتحدة أو وسطاء أوروبيين. وقد تزامن هذا مع خطة أوسع نطاقا علي مستوي الإقليم.. وعلي مستوي العالم الإسلامي.. تنطوي علي السعي نحو توجيه تلك المجتمعات العربية والإسلامية إلي ما يوصف بأنه تطوير فكري وثقافي وسياسي.. يؤدي إلي وأد التطرف في منابعه.. والقضاء علي ما وصف بأنه (الخطر الأخضر) أو الخطر الإسلامي.. التالي تاريخيا في مواجهة الولاياتالمتحدة مع (الخطر الأحمر ) أو الخطر الشيوعي. لقد ترتبت هذه العملية بدقة شديدة، وعلانية صريحة، وفي بعض الأحيان كان المسئولون الأمريكيون يتعمدون بوضوح أن يسربوا إلي وسائل الإعلام علاقاتهم المرتبة مع من يقومون بالأدوار المتطلبة في إطار تطبيق (خطة الاعتمال الداخلي) تلك.. وأزعم أن ديفيد وولش السفير الأمريكي الأسبق كان من الفظاظة بحيث إنه كان يسرب تفاصيل اجتماعاته مع عدد من المسئولين عن صحف مصرية خاصة.. بقصد أن يوثق ارتباطها بالولاياتالمتحدة.. وبقصد منعها من الخروج من المنظومة.. أو كما قال أحد الأصدقاء: من أجل مزيد من الإذلال.. وتأكيد العبودية. - الفوائد المتبادلة إن معضلة هذه التفاعلات التي تتخذ شكلا تآمريا، ولها صيغ مخابراتية، وصفقات سرية، هي أن مصر دولة حليفة للولايات المتحدة وبينهما شراكة ممتدة تعود جذورها إلي عام 1974، وفي يوم الثلاثاء الماضي، وفي روزاليوسف اليومية، كتبت مقالا بعنوان: (الصحافة والمخابرات)، حيث حاولت أن أجد تفسيرا للمعضلة.. وقلت ما يلي: «أصحاب الأغراض الأساسية من صدور بعض الصحف لا يقصدون مباشرة الوصول إلي حالة الهدم والفوضي.. لأن لهم مصلحة في استقرار مصر.. يمكنني القول إن أهدافهم هي: اختبار قوة الأوضاع في مصر من خلال تأليب مستمر وانتهاز للحراك.. وإتاحة الفرصة التي يعتقدون أنها غير متاحة للكشف عن قدرات متنوعة وشخصيات مختلفة في المجتمع يعتقدون أن النظام يحجبها.. وممارسة الضغوط المطلوبة علي النظام.. لأن الدولة المصرية، حتي وهي حليفة للدول التي لها تلك الأغراض، ينبغي إخضاعها للضغوط استجابة لشروط لا تقبلها في التحالف من حين لآخر.. والتعرف علي مدي قوة الأطراف السياسية التي تتصل بالدول خارج مصر.. ولا توجد لديها آلية لاكتشاف حجمها.. والأهم: نشر أفكار معينة.. تخدم علي أجندات معقدة جدا .. تتعلق مثلا بالأقليات والتعامل مع الآخرين وغير ذلك. «لكن أصحاب الأغراض الذين يقدمون التمويل ليسوا جميعا من اتجاه واحد.. فيهم أيضا أنصار خصومنا المعروفون.. وهؤلاء يعنيهم أن تضعف مصر.. أو تقترب من الفوضي بدون أن تصل إليها.. جيران نعرفهم جميعا.. لهم جماعات ضغط في مختلف أنحاء العالم. «كما أن التمويلات تتاح لفئة من البشر ليس شرطا أن يكون لديهم غرض واحد.. أو منتمون أيديولوجيا لصاحب التمويل.. هم مرتبطون به وبمصالحه.. ولكن لا يشترط أن يكونوا علي نفس التوجه الفكري.. وبالتالي فإن التمويلات تستخدم في أغراض أخري.. إلي جانب الأغراض الأصلية.. فبدلا من أن يكون الهدف هو اختبار قوي سياسية ومدي قوتها.. يتحول إلي أداة من أجل دعم تلك القوي.. وبدلا من أن يكون غرض الممول هو التلويح بالضغط علي مصر.. فإن الصحف تحول هذا إلي ضغط مباشر.. وعوضا عن إضعاف مصر.. فإن الأسباب الشخصية المحلية تحول الهدف إلي نشر الفوضي». انتهي الاقتباس.. وأضيف: إن لدي الولاياتالمتحدة، وحليفتها إسرائيل.. ولهذا الحليف تواجد مؤثر في إدارة الولاياتالمتحدة، لديها هاجس متجذر يخشي أن تسقط مصر في قبضة التطرف.. ومن ثم فإنها تعتقد أنه من الممكن تطوير مصر بالأسلوب الأمريكي لمنع ذلك الاحتمال.. أو علي أقل تقدير لكي تستفيد من العملية المعقدة التي تتم الآن عبر الصحافة والثقافة والتفاعلات السياسية في أن تضمن أن يكون لها وجود وتواصل مع القوي المتطرفة التي تقول بعض السيناريوهات أنها قد تصل إلي الحكم ذات يوم. وفي ذات السياق فإنه لابد من أن تتوافر في مصر، في ضوء بعض الاحتمالات، وتلك السيناريوهات، عوامل تفتيت.. وشرذمة.. فإذا ما جرت الأمور وفق ما يتسق ومصالح الولاياتالمتحدة.. كان بها.. وإذا سارت عكس هذا.. كان أن تم تفجير البلد اجتماعيا وطائفيا وعرقيا.. بحيث لا تبقي له قيمة استراتيجية كتلك التي وصف بها علي مدي التاريخ فيكون مجزءا أو متفجرا وغير مستقر.. ولا يمثل خطرا علي الخصم الحضاري الأول إسرائيل.. أو علي المصالح الأمريكية في وجهها الأشمل. - أبعد من التحذيرات وقد لا يكون هذا التفسير مضاءً أمام كثير من (العرائس) المحركة دون علم منها، وقد تكون مقتنعة تماما بأنها إنما تقوم بنضال ديموقراطي هدفه تطوير البلد عن حق وبنوايا مخلصة، وقد يكونون علي علم.. لكنهم يستفيدون من توهم التذاكي الأمريكي لتحقيق أغراض أخري أكثر تعقيدا وتخدم علي مصالح لا علاقة لها بمصالح الولاياتالمتحدة وبتمويلات الولاياتالمتحدة.. لكننا بالفعل أمام حالة لايمكن نكرانها.. وتتطور يوما تلو آخر.. في مرحلة مفصلية في تاريخ مصر. وإذا كانت الدولة، من الناحية الرسمية، لديها انتباه حقيقي إلي طبيعة الأمور، وهي في خطابها المعلن تحذر من الانفلات إلي الفوضي، وتقبض بالقانون علي الحراك بحيث لايتحول إلي كوارث تهدد الاستقرار، فإن هناك مسئوليات ضميرية تفرض علي النخب الواعية أن تقوم بواجبات محددة.. في ضوء الملاحظات التالية: - الانتباه المستمر إلي الخطاب التي تروجه (شبكة المصالح الأمريكية) في الصحافة والثقافة.. خصوصا هذا الذي ينطوي علي عملية هدم متواصلة لقيمة مؤسسات الدولة.. وينقل عملية الانتقاد الحر والبناء الضرورية في حراك الإصلاح.. إلي مرحلة الهدم المتعمد لقيمة المؤسسات كما لو أنه تتم عملية إخلاء معنوي وقيمي لها من الساحة.. وهي الهادفة إلي إفقاد الناس للثقة في الدولة والإيحاء بأنها غير موجودة وغير فعالة وغير قادرة علي أن تقوم بدورها. - هذا العمل المضاد لشبكة المصالح الأمريكية لا ينفي علي الإطلاق السعي بكل السبل إلي إصلاح وتطوير المؤسسات الثقافية والصحفية الوطنية المختلفة.. بحيث تكون أكثر قدرة علي تلبية احتياجات النخبة.. ورفع مستوي الطلب عليها.. وبما يؤدي إلي إفقاد شبكة المصالح الأخري أحد أهم أدوات انتشارها وهي قدرتها علي اجتذاب المعوزين وغير القادرين علي التحقق عبر الآليات الوطنية.. ومن ثم يسعون إلي آليات أخري توفر تمويلات طائلة وتمنح الفرص في الشهرة والتحقق بدون اجتهاد وفي لمحة من بصر. - التحليل النقدي المستمر لخطاب رموز شبكة المصالح المعلنين.. وهم كثيرون جدا.. وصريحون للغاية.. وكشف مضامينه وخطورته.. وعدم التستر عليه.. أو الخوف من بطش تلك الشبكة.. في ضوء سيطرتها علي المناخ الإعلامي والثقافي بمنطق (الشلة).. والتربيطات المسوقة لبعضها البعض عبر آليات إعلامية معروفة.. بعضها قد لا يكون واقعا في أسر الشبكة ولكنه سقط في شهوة تلبية معاييرها والإيمان بأن ما تقدمه من قيم هو الصحيح وهو ليس كذلك. - الكشف المستمر، القانوني والمعنوي، لعمليات التربح والفساد المالي، المنتشرة فيما بين أعضاء تلك الشبكة.. خصوصا أولئك الذين يقبضون تمويلات معلنة ولايقومون بتنفيذ ماتم الاتفاق عليه بمقتضاها.. إذ يسعون إلي تكوين ثروات.. أكثر من كونهم منفذي خطط.. وفي الآليات الأمريكية عشرات من أساليب الكشف عن هذه المهازل.. التي تثبت أن هناك من حصل علي ألوف الدولارات من أموال دافع الضرائب الأمريكي دون أن يقوم بما خططت له حتي الولاياتالمتحدة.. ومن المدهش أن عددا من هؤلاء هم الذين يتصدرون منابر الحرب علي الفساد والدعوة إلي الشفافية، بينما تقول تقارير أمريكية أنهم فاسدون ومتربحون.. قبضوا ولم ينفذوا المطلوب. -- إن هذا النوع من العملاء، الذين يعرفون أو لا يعرفون، لا يمكن التعامل معهم بنفس الطريقة التي تتم بها مكافحة أنشطة التجسس والتخابر، حتي لو كانت تنطبق عليهم مواصفات تلك الجريمة القانونية، ولكن المواجهة المطلوبة من الدولة يجب أن تقوم علي تفكير مبدع يتجاوز حدود السيطرة علي الأمور من الانفلات والتحذير من الفوضي.. ومن ثم فإننا نحتاج إلي (مشروع ثقافي وصحفي) موازٍ وجذاب.. قادر علي اجتذاب قطاعات مهولة من النخبة التي تركتها الدولة بعد سنوات الرعاية والاحتضان في الستينيات.. وبحيث توفر البديل الذي يجعل علي الأقل هؤلاء المنجرفين يفكرون مرتين قبل أن يسقطوا في حبائل خطة معلنة وصريحة لتحويل الصحافة والثقافة إلي ساحة عبث مخابراتي وتجسسي لايخجل من التعبير عن نفسه.
واقرأ أيضاً : - طلعت الشايب : الحرب الثقافية الباردة مازالت مستمرة ص تحقيقات - جابر عصفور : الأسواني لا يمثل قيمة أدبية وتشبيعهه بالغيطاني تدليس نقدي ص تحقيقات
عبد الله كمال يمكنكم مناقشة الكاتب وطرح الآراء المتنوعة على موقعه الشخصى www.abkamal.net www.rosaonline.net أو على المدونة على العنوان التالى: http//alsiasy.blospot.com Email:[email protected]