تراجعت مؤخرا ملفّات الحلّ النهائي للقضية الفلسطينية، مثل القدس واللاجئين والمستوطنات وغيرها، لصالح ملف جديد هو الإدارة الأمنية الإسرائيلية ل "غور الأردن" الواقع على الحدود الشرقية لدولة فلسطين المنتظرة. وتؤكد إسرائيل تمسكها بأن يكون لها تواجد عسكري في "غور الأردن" ضمن أيّ اتفاق مستقبلي مع الجانب الفلسطيني، بحجة الحفاظ على أمنها ومنع وصول أيّة أسلحة إلى داخل الدولة الفلسطينية، كما رفضت إسرائيل أيضا مقترحات الولاياتالمتحدة الخاصة بنشر أيّة قوات دولية هناك، لكن واقع الأمر الذي يستتر وراء ذريعة الحفاظ على الأمن - وكما أكد الكثيرون من المحللين الفلسطينيين والإسرائيليين - هو أن تل أبيب تتمسّك بالبقاء في غور الأردن لأسباب اقتصادية وليست أمنية، ف "غور الأردن" منطقة خصبة غنية بالثروات وقد تدر على إسرائيل أموالا طائلة إذا استغلت هذه الموارد بصورة صحيحة. وتمتد منطقة غور الأردن على مساحة تصل إلى أكثر من 800 ألف فدان، واحتلتها إسرائيل عام 1967 ولا تزال تسيطر عليها عسكريا وإداريًا، وحتى عام 2009 بلغ عدد سكانها من الفلسطينيين 58 ألفا، يقطن معظمهم في مدينة "أريحا" والمناطق الواقعة إلى جوارها، بينما جرى هناك بناء أكثر من 30 مستوطنة تجاوز عدد سكانها 10 آلاف نسمة حتى عام 2011، وتشير التقديرات إلى أن هذه المنطقة تمتلك إمكانات اقتصادية عظيمة، إذ يمكن تطوير مراكز عمرانية بها لاستيعاب تزايد السكان، فضلا عن أراضيها شديدة الخصوبة بفعل الطقس الذي يكون دافئا في الشتاء وشديد الحرارة في الصيف، مما يسمح بنمو الكثير من المحاصيل الزراعية، ويوفر اكتفاء ذاتيّاً من الناحية الغذائية للسكان، وفي الوقت نفسه يدرّ أرباحا طائلة جراء تصدير المنتجات الزراعية، وعلاوة على كل ذلك يمكن لمساحات الأراضي الشاغرة أن تحوّل "غور الأردن" إلى منطقة تتمتع بإمكانات كبيرة للتطوير في مجالات الطاقة والبُنى التحتية وإلى قوة صناعية أيضا. بينما يرى اقتصاديون أنه من أجل ضمان وجود دولة فلسطينية مستقبلية قادرة على البقاء، يجب على إسرائيل أن تفتح "غور الأردن" أمام الفلسطينيين، لأن استغلال إمكانات التطور الاقتصادي الموجودة هناك ستعمل على قيام اقتصاد فلسطيني قوي، وبحسب تقرير أصدره مؤخرًا البنك الدولي، يمكن تعزيز الاقتصاد الفلسطيني بنحو 918 مليون دولار سنويا إذا سمح للفلسطينيين باستغلال الثروات المعدنية الكائنة في الجزء الجنوبي من الغور. وأضاف التقرير أنه يمكن أيضا تعزيز الاقتصاد الفلسطينيي بنحو 704 ملايين دولار أخرى إذا أتيح للفلسطينيين استخدام الأراضي الزراعية والموارد المائية الموجودة في أجزاء من الضفة الغربية التي تسيطر عليها إسرائيل، ويشكل "غور الأردن" الجزء الأكبر مما يعرف بالمنطقة "ج" المنصوص عليها في اتفاق أوسلو عام 1993، وهي تخضع للسيطرة الإسرائيلية لحين التوصّل إلى اتفاق سلام شامل بين الطرفين. وتشير التقديرات إلى أن زراعة مئة ألف دونم من أراضي "غور الأردن" يمكن أن توفّر ما يصل إلى 200 ألف فرصة عمل، فضلا عن زيادة المحاصيل الزراعية ما بين خمسة وعشرة أضعاف، وهو أمر مرهون بتخصيص مساحات من الأراضي ومصادر مياه محدّدة للفلسطينيين من خلال التعاون مع إسرائيل، غير أن تقارير حقوقية أوضحت أن سياسة إسرائيل في "غور الأردن" تستهدف - بشكل خاص - إبعاد السكان الفلسطينيين، فهي ترفض تخطيط القرى الموجودة في هذه المنطقة، وتفرض قيودا على استخدام أراضي الغور ومصادر المياه هناك رغم غزارتها. وتعتبر منطقة غور الأردن من المناطق الغزيرة بمصادر المياه الطبيعية في الضفة الغربية، وقد سيطرت إسرائيل على معظم هذه المصادر، كما أن الحفريات التي تقوم بها تقلّص كميات المياه التي يمكن للفلسطينيين أن يضخّوها من آبار المياه التابعة لهم، كما أنها تمسّ جودة هذه المياه وتؤدي إلى انحدار في تدفق الجداول المائية الطبيعية في أرجاء "غور الأردن". ويبدو أن مسألة "غور الأردن" ستكون محلّ نزاع خلال الأيام القادمة في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية أكثر من القضايا الرئيسية كالقدس والسيادة الوطنية واللاجئين وغيرها، ف "غور الأردن" هو "الكنز الاستراتيجي" الذي ترفض إسرائيل التخلي عنه، حسبما ذكرت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، وهو ما يعني أن إسرائيل يمكن أن تنتهج سياسة تتمثّل في السيطرة على المنطقة بشكل كامل عبر استغلال مواردها وتقليص التواجد الفلسطيني بها لأقصى درجة، والسؤال المطروح الآن هو ما إذا كانت مشكلة "غور الأردن" ستكون سببا في انهيار المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وليس قضايا الحل النهائي المعروفة والمتنازع عليها منذ سنوات، لا سيّما مع رفض السلطة الفلسطينية لفكرة بقاء أي جندي اسرائيلي ب "غور الأردن"، لمعرفتها الكاملة برغبة إسرائيل في التواجد هناك لدواع اقتصادية بحتة وليست أمنية.