لا أظن أن كاتبًا مهما كانت مكانته، أو ناقدًا مهما كانت أدواته، استطاع أن يضع تعريفًا واحدًا وواضحا للرواية، إذ إن الرواية ستظل لعبة حكاية تستطيع غمر القارئ فى متعتها التى يمنحها الكاتب بمحبة شديدة ودونما ادعاء للقراء. وهنا أسأل.. هل كانت هناك محبة أكثر من تلك التى كتب بها «كافكا» رسائله إلى ملينا، والتى ضمنها عشرات الحكايات الخالصة والصادقة التى راقت لملينا للدرجة التى أوقعتها فى غرامه، وجعلت القراء بعد إزاحة الستار عنها- أى الرسائل- مفتونين بهذا الكاتب المعذب؟.. هذه القدرة على الحكى الصافى المجرد والممتع حد الغواية هل تخرج رسائل «كافكا» من دائرة الرواية لمجرد أنها خالفت كل شرط من الشروط الخاصة بالشكل الروائي؟. فى الواقع لن أجيب عن هذا التساؤل، ولكن دعونا نترك الإجابة لكل الأعمال السردية، التى التزمت بكل شروط الشكل الروائى، ولم تخل من أى عنصر من عناصر الرواية، التى حددها ورسمها بعناية نقاد فائقون، إلا أنها لم يكن لديها القدرة على أن تفتن الجمهور أو تأسرهم إلى الأبد (راجع قراءتك لعشرات الروايات التى أجازها النقاد فى ظروف غامضة؛ لكنها لم ترق لك ولم تعلق بروحك عبارة واحدة من عباراتها، ولم تقابل أيا من شخوصها فى واقعك المكتظ بالشخصيات). إلى جوار رسائل «كافكا» هناك العشرات من الأعمال التى ارتقت فوق الرواية لما بها من متعة جامحة، وابتكار أشكال جديدة من فنون السرد والحكى الشجى، منها مثلا كتاب يوميات القراءة لألبرتو منجويل، الذى يحتوى على حكايات عن الأماكن والشخصيات التى يلتقيها المؤلف، وكذلك الشخصيات التى تمتلئ بها الكتب التى تحدث عنها وعن أصحابها.. هل وضع كلمة (يوميات) على غلاف كتاب «منجويل» يخرجه من تصنيفات الرواية؟ لا أعرف. ولكنى كقارئ اعتبرته رواية.. ورواية رائعة الجمال وبالغة الإمتاع إذ فتح ألبرتو منجويل أمام قارئه عالمًا فسيحًا من الحكايات عن أسفاره، والكتب التى كانت برفقته فى هذه الأسفار، وحكى بطريقته فائقة الجمال عن هذه الكتب. تعريفات الرواية ليست دائما فى صالح القراء، إذ لو التزم بها ناشر أعمال إدوارد غاليانو، لما كنا وقعنا فى غواية رواياته البعيدة عن السرد الطويل والمعروف. استخدم «غاليانو» الشذرات فى «أبناء الأيام» كما فى «ثلاثية النار» لكن هذه الشذرات كان لها وقع السحر.. السحر الذى فشلت فى منحه للقراء روايات التزم أصحابها كرهبان بكل شروط الرواية وأنساقها المعدة سلفا. المتمردون كثيرون وهم وحدهم القادرون على منحنا المتعة الخالصة عندما نجلس بين أيديهم ليروا لنا الحكايا، وهى فى الواقع ما نبحث عنها بصرف النظر عن القوالب التى ستقدم لنا من خلالها. كان الدكتور طه حسين واحدا من هؤلاء المتمردين ليس على الشكل فقط، ولكن على كثير من المضامين، فمن منا ينسى تمرده الهادر فى الشعر الجاهلى أو الأدب الجاهلى الذى كاد أن يفتح عليه بابا من أبواب الجحيم. عاش طه حسين متمردًا كبيرًا على كل الأنماط السائدة فى الثقافة لذا جاءت روايته (خطبة الشيخ) الذى كتبها فى بدايات القرن المنصرم رائدة فى إزاحة كل محاولات التنميط للفن الروائى، إذ نسجها عبر مجموعة من الرسائل التى لم تخل من الحكايات الدالة على ثورة صاحبها وتمرده ضد كل راسخ بوقاحة فى الفن وقبل كل شيء وبعده فى العقل والوجدان.