هناك جوانب كثيرة مجهولة فى حروب التحرير، من سيطرة تنظيم «داعش» فى مختلف المواقع. ولعل أهمها التكلفة البشرية لدى القوات التى تهاجمه لطرده من مواقعه، فهذه تفسّر إلى حد كبير الوتيرة البطيئة للمعارك والتكتّم على التفاصيل، وكذلك فتح ممرات لخروج أعداد من مقاتليه إلى مناطق يُعتقد أنها تصلح فقط للجوئهم واختبائهم وتسهل فيها لاحقًا مطاردتهم. لكن خسائر التنظيم مجهولة أيضًا، وكل ما يرد عنها يبقى فى إطار التقديرات التى يشير إليها الأمريكيون بما بات يربو على خمسين ألف مقاتل، ولكنه لا يزال يحارب، وإذا كان خسر أجزاء شاسعة من مساحات انتشاره فى العراق، فإن الموصل هى المعركة التى انتظرها ويخوضها بكل شراسته ضد المدنيين أولًا، وضد الجيش العراقى ثانيًا، وفيما يستعدّ لمعركة الرقّة فى سوريا استطاع أن يستخدم المناطق التى تمدّد إليها «منبج، جرابلس، دابق، الباب، تدمر، وأخيرًا دير الزور»، لإبقاء الخطر بعيدًا عن الرقّة ولتأخير الهجوم عليها. كان تطهير شرقى الموصل استغرق نحو أربعة أشهر ونيف، وبخسائر بشرية كبيرة، وقبل أن تبدأ معركة الجزء الغربى من المدينة سجّلت هجمات للتنظيم فى شرقيها وفى مناطق أخرى سبق أن تم تحريرها. ويتفق الخبراء على أن المعركة التالية هى الأكثر صعوبة، بسبب كثافة السكان وصعوبة فتح ممرات لخروجهم، وكذلك لأن دفاعات «داعش» قد تكون أكثر تحصينًا وتعقيدًا بتداخلها الكثيف مع وجود المدنيين، إذ إنه سيفرض على مهاجميه قتالًا من شارع إلى شارع ومن مبنى إلى آخر. فبعض مما هو متوقع فى غربى الموصل، بل أسوأ منه، سبق أن حصل فى سرت حيث دامت المعركة أكثر من سبعة أشهر، ولكن مع فارق أن مهاجمى المدينة الليبية لم يحظوا بغطاء جوى، ولم يُطلب من الطيران الأمريكى التدخّل إلا فى الأسابيع الأخيرة وبضربات محدّدة لتمكين قوات «البنيان المرصوص» من إنهاء مهمّتها. فى كل موقع احتلّه «داعش» تمتّع قادته المتمرّسون عسكريّاً بالوقت الكافى لوضع الخطط الدفاعية. ولم تكن صدفة أنه حيث سعى إلى إرساء قواعد ل«دولته» المزعومة لم تكن هناك «دولة» معنيّة بمواجهته فورًا قبل ترسيخ احتلاله، وبالتالى لم يكن هناك جيش نظامى قادر على التحرّك سريعًا. كانت الأوضاع فى البلدان الثلاثة متشابهة إلى حدٍّ ما، ففى سوريا تلاشى وجود الجيش النظامى منذ منتصف عام 2012 وتغلغل «داعش» بتسهيلات من أجهزة النظام وحلفائه لاستخدامه فى ضرب قوى المعارضة، وأنشأ التنظيم حال سيطرة له فى الرقّة ومحيطها قبل عامين من استيلائه على الموصل وانتشاره فى معظم المحافظات السُّنية. ولا تزال الأسئلة بلا إجابات عن ظروف وأسباب انسحاب أو سحب الجيش العراقى من الموصل وغيرها بين عشية العاشر من يونيو 2014 وضحاه. ولعل الأسئلة نفسها تُطرح فى شأن الظهور المفاجئ ل «داعش» فى ليبيا عمّن موّله وسلّحه ومكّنه من الوصول إلى سرت والتمركز فيها والاستفادة من عدم وجود «دولة» فى عموم البلد. قد يقال إن البحث فى أصول التنظيم استُهلك، وإن الجهد الآن ينصبّ على «إنهائه»، بل على «ما بعد داعش». ولكن غموض البدايات بات يتحكّم بعدم وضوح النهايات، خصوصًا أن الظروف التى أدّت إلى ظهوره لم تتغيّر جوهريًا، بل تفاقمت وزادت تعقيدًا. والأخطر أن العمل لتلبية المتطلّبات السياسية ل«ما بعد داعش» لا يحرز أى تقدّم بعد، بل إنه يعانى من تلكؤ واستعصاء داخليين، سواء فى المصالحات أو فى تطوير توافقات قائمة «العراق وليبيا»، أو لا يزال فى مرحلة البحث عن حل سياسى «سوريا»، ولذا تستمر المخاطر. ففى ليبيا تتعاظم المخاوف من صدام بين «جيش مصراتة» مستقويًا بمعركة سرت، والجيش الوطنى بقيادة المشير خليفة حفتر مستقويًا بالسيطرة على موانئ «الهلال النفطي». وفى العراق يتصاعد التناقض بين الجيش الحكومى الذى يتحمل العبء الأكبر فى الحرب على الإرهاب وبين ميليشيات «الحشد الشعبي» التابعة لإيران والمهيمنة على الدولة، وذلك فى شبه إعادة إنتاج للوضع الذى رجّح ظهور «داعش». وتختلف الحال السورية فى كونها لم تتح إيجاد قوات بريّة لقتال «داعش»، فالدور الذى لعبه النظام فى تأجيج الصراع الداخلى جعل قواته غير مؤهّلة سياسيًا لخوض المعركة، أما الأهداف المبهمة والمتضاربة للقوى الخارجية، فحالت دون استعانة الأمريكيين ب«الجيش السورى الحر» ففضّلوا الاعتماد على الأكراد مقابل دعم أجندتهم الانفصالية مع المجازفة بإثارة مخاوف تركية. وعلى رغم تزايد الحديث عن اقتراب معركة الرقّة، فإن معضلة القوات البريّة لم تحلّ. نقلًا عن «الاتحاد» الإماراتي