رصد الكاتب البريطاني جدعون راخمان ظهورا لموجة من"الحنين للقومية" حول العالم، لافتا إلى تعهدات بعض القادة ببناء مستقبل في بلادهم مستعينين في ذلك باستلهام أمجاد الماضي. واستهل راخمان مقاله في (الفاينانشيال تايمز) بأنه إذا كانت أمريكا قد اعتادت ترتيب الاتجاهات العالمية، فإن كلا من الصينوروسياوتركيا قد سبقوا دونالد ترامب في تعهده باستعادة أمجاد أمريكا بوقت طويل عندما دشنوا موضة الحنين إلى القومية. ولفت راخمان إلى أن النسخة الصينية من تعهّد ترامب الشهير تمثلتْ في تعهّد "شي جين بينغ" بقيادة نهضة عظمى للشعب الصيني، والذي صرح به عام 2012 وهو نفس العام الذي عاد فيه فلاديمير بوتين إلى الكرملين كرئيس وبدأ في مشروع قومي عنوانه استعادة أمجاد روسيا؛ وفي تركيا استلهم الرئيس رجب طيب اردوغان أمجاد الامبراطورية العثمانية. ورأى الكاتب أن الأجواء السياسية في كل من الصينوتركياوروسيا تنذر بمخاطر جرّاء الحنين إلى النزعة القومية؛ ثمة تطلعٌ في الدول الثلاث إلى استعادة المجد القومي؛ هذا التطلع مقرون بحملة تدعمها حكوماتها ضد القوات الخارجية المعادية وبتركيز على المناهضين للقومية في الداخل. وأكد راخمان أن مؤسسات أمريكا القوية وصحافتها الحرة ستصعّب الأمر على نزعة حنين ترامب إلى القومية في قمع المعارضة السياسية الداخلية على طريقة كل من بوتين وبينغ واردوغان. واستدرك الكاتب قائلا "لكن فكرة أن الدول الديمقراطية محصنة بشكل ما بحيث تخفف حدة نزعة الحنين إلى القومية – هذه الفكرة خاطئة وليس أدل على ذلك من نماذج اليابانوالهند والمجر وبريطانيا. ونوه راخمان عن قيادة رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي لحملة قومية حماسية مستلهما في ذلك فترة ما يعرف ب "إصلاح ميجي" التي شهدت فيها اليابان في الثلث الثاني من القرن التاسع عشر تحولات جذرية سياسية واجتماعية حتى أصبحت قوة رائدة في آسيا؛ وفي الهند يقود رئيس الوزراء نارندرا مودي حركة قومية هندوسية تستهدف تحديث الهند مستلهما في ذلك مجد الهندوس القديم؛ وفي المجر ينظر رئيس الوزراء القومي فيكتور أوربان بحزن على المناطق التي فقدتها بلاده بعد الحرب العالمية الأولى. وتابع الكاتب متحدثا عن بريطانيا، حيث ظهرت نزعة الحنين إلى القومية بجلاء في حملة خروج البلد من الاتحاد الأوروبي "بريكيست" حيث أكدت حملة الخروج على استلهام أمجاد "بريطانيا العظمى" حينما كانت المملكة المتحدة قوة عالمية مسيطرة وليس فقط مجرد عضو في نادٍ مكون من 28 عضوا أوروبيا. ونبه صاحب المقال إلى أن احتضان كل من روسياوالصين والولايات المتحدة والمملكة المتحدةواليابانوالهند لأشكال من نزعة الحنين إلى القومية – قد يغري باعتبار الظاهرة موجودة في كل مكان ومن ثمّ فهي عادية وغير ملفتة للنظر، لكن هذا خطأ لأن معظم الديمقراطيات الغربية لم تلتحق بعد بقطار نزعة الحنين إلى القومية ومن تلك الدول: كندا واستراليا ومعظم دول الاتحاد الأوروبي التي لم تخضع لسحر القومية. وتابع راخمان قائلا إن فرنسا معرضة للانجراف لموجة النزعة القومية حيث مارين لوبان زعيمة الجبهة الوطنية نموذجٌ كلاسيكي لحزب قومي يستلهم الماضي؛ لكن على الضفة الأخرى من نهر الراين يصعب رؤية أي حزب يشن حملة بنجاح تحت شعار نحو "استعادة أمجاد ألمانيا". واستطرد الكاتب قائلا إنه حتى في بعض الدول التي شهدت انجرافا للحنين للقومية- فإن هذه الفكرة لا تزال تعتبر قوة ناشئة حديثا هنالك؛ ففي بريطانيا والولايات المتحدة كان معظم الساسة الناجحون حتى وقت قريب يتطلعون للمستقبل وليس للماضي ومنهم بيل كلينتون في حديثه عن بناء "جسر" للقرن الحادي والعشرين، وباراك أوباما الذي اتخذ شعارا لحملته عنوانه "الأمل والتغيير"؛ وفي بريطانيا ثمة توني بلير الذي تحدث عن بريطانيا رائعة فيما اعتبر ديفيد كاميرون نفسه بمثابة محافظ تجديدي؛ حتى روسيا قبل عهد بوتين، بدتْ متطلعة إلى بناء مستقبل جديد أكثر من حنينها إلى استعادة أمجاد الماضي. وتساءل صاحب المقال: "إذن ماذا حدث؟" الجواب الأكثر تبادرا إلى الذهن والأشمل هو "العولمة" وما نتج عن الرأسمالية العالمية من نتائج تفكيكية: من هجرة جماعية وأزمة مالية عالمية عام 2008 الأمور التي ربما زادت إغراء الحنين إلى ماضٍ كان أكثر استقرارا وتجانسا والتفافا حول الوطن؛ ولربما شجع ظهور مدّ قومي في إحدى البلدان على ظهوره في بلدان أخرى على سبيل المحاكاة؛ ولقد استشهد المستر ترامب ب"بريكسيت" في بريطانيا كمثال يحتذى، كما أنه (ترامب) شديد الإعجاب بالمستر بوتين. ونوه الكاتب عن سبب آخر قد يكون كامنا وراء ظهور هذه الموجة من الحنين إلى القومية الماضية هو: تحول القوة السياسية والاقتصادية من الغرب إلى آسيا على نحو جعل المستر ترامب يتعهد باستعادة أمجاد أمريكا؛ وقد ساعد ظهور قوى آسيوية أمثال الصينوالهند على إشعال طموحات لاستعادة أمجاد قومية وثقافية كانت قد خفتتْ أضواؤها تحت سحابات الاستعمار الغربي. ونبه راخمان إلى أن الاستلهام الوطني للماضي هو أحد المكونات الاعتيادية في أي خطاب سياسي حول العالم أجمع؛ لكن نزعة الحنين إلى القومية تصبح خطيرة عندما تنزلق إلى استعداء الأجانب، عندئذ تتزايد فرص الصدام بين الأيديولوجيات القومية المتنافسة – وقد ظهرت إمكانية وقوع مواجهة بين القوميتين الأمريكيةوالصينية في منطقة المحيط الهادئ (الباسيفيكي) بوضوح بعد انتخاب المستر ترامب رئيسا لأمريكا. وقال راخمان إنه دائما ما يكون أسهل على القوميين المتطلعين إلى استعاد أمجاد الماضي أن يركزوا على أخطاء ارتكبها أجانب - أكثر من أن يكونوا أمناء مع أنفسهم بشأن تاريخ أممهم المعقد؛ ولن نجد حرصا من جانب المستر بوتين ولا المستر "بينغ" على مناقشة جرائم عظماء أبطالهم القوميين أمثال "ستالين" و"ماو". وأكد الكاتب أن العصور السابقة التي سادت فيها فكرة الحنين إلى القومية لا تبعث على التشجيع؛ ففي حقبة الثلاثينيات من القرن الماضي استلهم موسوليني في إيطاليا أمجاد روما القديمة، بينما نصّب النازيون أنفسهم ورثة لفرسان "التيوتون" في أوروبا القرون الوسطى. واختتم راخمان بالقول إن "التاريخ يمكن أن يكون مُلهِمًا للمتطلعين إلى استعادة أمجاد الماضي سواء في أمريكا أو غيرها، لكنه (التاريخ) أيضا ينبغي أن يكون "مُحذّرًا" من تبعات هذا التطلع إلى استعادة تلك الأمجاد الماضية.