رجال الكنيسة يعتبرون التفجيرات «عقابا من الله» نتيجة الإهمال فى التوبة والاعتراف والتناول بعد أن هدأت الآثار النفسية الصعبة التى أحدثتها جريمة تفجير الكنيسة البطرسية، يمكن القول بأن رد الفعل الكنسى تجاه هذا الحادث وغيره، ينم عن أن الخطاب الدينى المسيحى بحاجة إلى التجديد، إذ تبين أنه يتبنى ثقافة الاضطهاد، نتيجة ميراث كبير وضخم مبنى على ما كتبه الرهبان فى عصر الاستشهاد، ويتنافى مع معطيات العصر وفكر المواطنة. ثقافة الاضطهاد هذا الميراث الروحى يتضمن مثلا التعامل مع لقب «كنيسة الشهداء» على أنه سمة مميزة لا نتيجة لفعل الاضطهاد، مع العلم أن الذين نقلوا الديانة المسيحية هم الأجداد الذين قاوموا الاضطهاد أيام الدولة الرومانية، ودفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون أيام الخلافة الأموية والعباسية، وليسوا الذين استشهدوا، فالشجاعة الحقيقية هى مواجهة الحياة بكل ما فيها وليس الترحاب بالموت الذى حول المسيحية فى الشرق إلى أقلية وأدى إلى اندثارها فى مناطق وبلدان كثيرة. ويطلق على الكنيسة القبطية لقب «كنيسة الشهداء»، لما قدمته من شهداء يقدرون بالآلاف على مدار تاريخها الممتد، فيما يعرف ب«عصر الاستشهاد»، وهو العصر الذى بدأ تاريخيا عندما أصدر الإمبراطور الرومانى دقلديانوس، مع زميله غاليروس، منشورًا بهدم كل الكنائِس المسيحية وإحراق الكتب الكنسية، واعتبار المسيحيين خارجين عن القانون. وفى 25 نوفمبر عام 311م، وبأمر الإمبراطور مكسيميان الذى كان يملُك على الشرق، استُشهِد البابا بطرس، البطريرك السابِع عشر فى خلافِة مارمرقُس الرسول. ويقول يوسابيوس المؤرِخ الكنسي، إنَّ فى مصر كان يوجد جمع غفير لا يُحصى من المؤمنين مع زوجاتِهِم وأطفالِهِم، ممن عانوا من كل أنواع العذابات والموت من أجل الإيمان. التبرير التبرير أيضا أحد أمراض خطاب رجال الدين المسيحي، الذين يعمدون إلى تحميل نفسية الأقباط ذنب ما جرى من الناحية الروحية، من قبيل أن الرب يؤدبهم لأنهم يهملون الإنجيل ولا يمارسون وسائط الخلاص وأهمها التوبة والاعتراف والتناول، كما يهملون الكرازة بالإنجيل، وهى وصية المسيح الأخيرة «اذْهَبُوا إلى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا». (إنجيل مرقس 16: 15). وفى المقابل فإن رجال الدين هؤلاء أنفسهم، لا يقبلون النقد الموجه لهم وللكنيسة التى أصبحت مؤسسة خاضعة لأى نظام حاكم، ويتمتع رجالها بكل النعم الأرضية، فليس هناك أسقف فقير ولا رجل دين إلا ويملك السلطان والصولجان، كما أن البابا نفسه لم يهتم بشرح عقيدة المسيحيين حتى يرفع عنهم تهمة «الكفر» ويكتفى بترديد تأملات روحية ضعيفة مطعمة بآيات سلوكية. حرمة الغضب وفى الوقت الذى يقول فيه الإنجيل «اِغْضَبُوا وَلاَ تُخْطِئُوا. لاَ تَغْرُبِ الشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ»، (رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس 4: 26) يعتبر رجال الدين المسيحى أن التعبير عن الغضب يتنافى مع المحبة والتسامح، وهو تسامح يسير فى اتجاه واحد، عن طريق اجتزاء أنصاف الآيات من سياقاتها، مثل «المسيح قال فى العالم سيكون لكم ضيق»، «المسيح قال احمل صليبك واتبعني» و«الإنجيل قال تأتى ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله»، «المسيح قال من ضربك على خدك الأيمن حول له الآخر»، حتى يصل إلى «مع المسيح ذاك أفضل جدا»، ويردد «حقنا فى السماء». غير أن المسيحية لا تدعو للخنوع وغياب الكرامة، بل ذكر الكتاب المقدس مواقف أنبياء طلبوا الانتقام من الظالمين، فقال دواد النبى «خاصم يا رب مخاصمى وليلبس خصمائى خجلا وليتعطفوا بخزيهم كالرداء» (مزمور 109)، كما أن الآيات الناقصة التى يرددها البعض إذا اكتملت قدمت معنى مهما ومغاير، فمثلا المسيح قال لتلاميذه ورسله: «فِى الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ». والمثير والواضح عند الأقباط أنهم يملأون الكنائس فى أسبوع الآلام، ولا يفرحون بفداء المسيح لهم بل يبكون عليه وعلى آلامه، وكذلك لا يهتمون بعيد كبير ومهم فى المسار الروحى المسيحى وهو عيد حلول الروح القدس على تلاميذ المسيح، فقوة وفرح الروح القدس غائبة تماما عندهم، بينما يكتفون بالنواح وارتداء الأسود. ومن الآيات التى لا يرددها الأقباط القول المقدس «وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ»، وبالتأكيد «الأفضل» ليس الخنوع للاضطهاد، وأيضا قول المسيح «لست أسال أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير»، وكذلك يتم تجاهل استخدام بولس الرسول لجنسيته الرومانية ليوقف حكم صدر بجلده، لأن صاحب هذه الجنسية لا يجلد، بل إنه رفع شكواه لقيصر، أى أن استخدام القانون والحق فى منع الأذى عن النفس أمر طبيعي، وحق استخدمه رسول فى حجم بولس. يوحنا المعمدان، نبى الحق، كذلك ظل يفضح هيرودس فى كل مكان، لأنه تزوج زوجة أخيه، ونطق بالحق وجال به حتى لو كان الثمن حياته، أما الكنيسة القبطية فتتباهى بأنها أم الشهداء، رغم أن كل كنائس العالم قدمت شهداء، ورغم أن بقاء الأقباط يدل على أن الجدود القدامى استخدموا كل الحيل لتحدى الاضطهادات الرومانية والعربية، سواء بالتخفى وإنشاء كنائس تحت الأرض ودفع جزية، ومع ذلك فإن الخطاب الدينى الحالى لا يحث على اتباعهم فى وسائلهم للحفاظ على الحياة المسيحية، بقدر ما يحث على امتصاص روح الآلام والخضوع والانكسار وتمنى نيل إكليل الشهادة، وهو ما يعبر عن فجوة كبيرة فى الميراث الروحى يجب الوقوف عنده طويلا.