لم يعقه مرض الربو عن الإبداع، ولم يعرقل مسيرته الأدبية فقده لوالديه، ولكنه واصل مشواره ليحفر بكتاباته اسم مارسيل بروست بحروف من ماء الذهب في تاريخ الأدب الفرنسي بشكل خاص والأوروبي والعالمي بشكل عام. ميلاده ولد مارسيل بروست بالقرب من باريس لأب كاثوليكي وأم يهودية ودرس القانون والأدب، تخرَّج في إحدى مدارس الليسيه الفرنسية المرموقة كما درس في السوربون، وعاش حياة اجتماعية واسعة مختلطًا بالطبقة الراقية التي شكلت مادة خصبة لكتاباته الروائية. عانى من مرض الربو منذ طفولته، وأصبح مبتعدًا عن المجتمع مع حلول عام 1897 بعدما ازدادت حالته الصحية سوء. كما أثرت وفاة والدته في عام 1905 على جعله أكثر انعزالًا. ولكنه علي الرغم من صحته الهشة، واصابته المبكرة بالربو، إلا أنه كان شابا ممتلئا حيوية. بل أنه في سنوات المراهقة أسس مجلة أدبية سماها "المائدة" ولم تكفه المعارف التى حصل عليها بجهده الخاص، بل حصل على شهادات عليا في الفلسفة والقانون. وقد ساعده اهتمامه بالناقد الفنى الانجليزى روسكين على الالمام بأسرار الفنون التشكيلية والموسيقى والفن المعماري. أما ثقافته الواسعة فقد منحته القدرة على كتابة مقالات نقدية من طراز رفيع، حول سانت بوف وفلوبير وميشليه وارنست رنان وآخرين. في بداية 1919، كان مارسيل بروست مريضا، ولم يكن يملك القوة لا لتنقيح وتصحيح عمله "في البحث عن الزمن الضائع"، ولا حتى لفتح الرسائل التي كانت تصله. وكان المجلد الأول من العمل المذكور قد صدر على نفقته الخاصة، وأما الثاني فكان قد صدر عن دار غاليمار التي لم تكن تصدر حسب قوله غير اعمال عدد محدود من الكتاب من أمثال بول سوران وبول كلوديل واندريه جيد وشارل بيغوي، وكانت تلك الفترة صعبة جدا بالنسبة له. فصاحبة المنزل كانت ترغب في بيعه، لذا كان عليه ان يدفع الايجار الذي لم يدفعه منذ ثلاثة اعوام، والا فإن الطرد سيكون مصيره، وبسبب القلق الذي كان يعاني منه، كان يشرب القهوة تلو الأخرى حتى يتجاوز العشرين احيانا. وبدأت تظهر بارقة أمل عندما أعلمه صاحب دار "غاليمار" انه سيصدر المخطوط خلال اسبوعين، غير ان جاك ريفيير الذي كان يدير "المجلة الفرنسية الجديدة" التابعة للدار المذكورة، عرض عليه نشر فقرات من المخطوط في العدد الذي سيصدر أول الصيف. وبما أن ذلك سوف يؤجل إصدار الكتاب، فإن مارسيل بروست رفض العرض بشدة، ثم ازدادت الظروف سوءا عندما اضطر الى ترك بيته القديم ليسكن في شارع صاخب ضاعف من مرضه وخوفه من الموت. بالاضافة الى ذلك كان جيرانه يؤرقونه ليلًا ونهارًا بصراخهم حتى انه كان احيانا يعتقد أن هناك رجالا ونساء "يذبحون من الوريد الى الوريد". وفي العاشر من ديسمبر 1919، منح جائزة "غونكور" الشهيرة، وكتبت عنه وعن عمله عشرات المقالات وهكذا اطمئن مارسيل بروست الذي ظل ينتظر الشهرة، اذ اصبح بين عشية وضحاها من مشاهير الكتاب في فرنسا، مرددا: "على الكتابة أن تكون مفتوحة علي كل الجهات، أن تكون سفرا من دون بداية ونهاية، وعلى الكاتب أن يحلم بمثل هذا السفر دائما". فى أواخر القرن التاسع عشر، كان مارسيل بروست يكتب ملاحظاته الفنية والأدبية في أجندته الخاصة. وكانت هناك ملاحظة عن "الأجيال الصاعدة" وردت في الجزء الثاني من روايته "في البحث عن الزمن الضائع" المسمى "في ظلال ربيع الفتيات" كتب مارسيل بروست في ملاحظته متسائلًا عن مدى تأثير الأعمال الأدبية والفنية في المناخ الأدبي العام من حيث خلق جيل جديد صاعد، هو ابن شرعي لهذه الطفرة الإبداعية، فالعمل الفريد كالقائد الذي يتقدم المسيرة ويفتح الطريق لمن يأتى بعده. يوضح مارسيل بروست: أن الأجيال القادمة أو الصاعدة هي أجيال العمل الإبداعي الفريد، ولكن إذا صدر هذا العمل الفريد وتم تجاهله واختفاؤه وعدم الالتفات إليه مدة طويلة خلال عصره، ثم تم اكتشافه ولفت الأنظار إليه على يد الأجيال الأحدث، فإن هذه الأجيال لن تكون "الأجيال القادمة" بل سيكونون جماعة من المعاصرين توقفت بهم حركة التطور مدة اختفاء أو إهمال ذلك العمل الأدبي حتى وقت الالتفات إليه وإدراك قيمته!. أصدر ميخائيل ماركوفسكي الباحث البولندي المختص بأدب مارسيل بروست كتابا ثمينا حوي تراجم لعدد من نصوص الكاتب الفرنسي التي كان قد كرسها لقضايا الأدب وغيره. وسبقت التراجم مقدمة لماركوفسكي يمكن إعتبارها دراسة مبسطة لبعض أبعاد إرث بروست. يتناول هذا الباحث ظاهرة ما يسمي بالشبحية لدى بروست الذي كان قد أومأ إليها لأكثر من مرة في أعماله، مثلا يكتب في الجزء المعنون "الوقت المستعاد" من مؤلفه الرئيسي: "الأشباح أثارت إهتمامي علي الدوام". ومعروف أيضا قوله بأن اللغة والأدب يملكان بعدا شبحيا، وعامة هناك وصفه للعلاقات بين الناس وفق مراتب الشبحية والطيفية واللاحضور.