في التقديم الذي كتبه الروائى وأستاذ الأدب الإنجليزى ماركوس بون للطبعة العربية من كتاب «عن الحشيش» للفيلسوف الألمانى فالتر بنيامين، والصادرة مؤخرا عن دار الكتب خان للنشر والتوزيع، كتب يقول: «لو أن ثمة شخصا أخذ المخدرات بسبب قراءته كتبا عنها، لكان هذا الشخص هو فالتر بنيامين، فبداية من عام 1919 عندما أشار حينها إلى نص بودلير المفتاحى عن الحشيش، الفراديس الاصطناعية، الذي كان قد انتهى توا من قراءته، سيكون من الضرورى تكرار التجربة بمعزل عن هذا الكتاب». في هذا الكتاب يوثق بنيامين لتجارب الحشيش، التي أجريت منذ عام 1927 وحتى 1934، في برلين ومارسيليا وإبيزا، فقد شارك بنيامين في هذه التجارب، في أوقات مختلفة الفيلسوف إرنست بلوخ، والكاتب جان سلز، والأطباء إرنست جويل، وفريتز فرانكل، وإيجون ويسينج، وزوجة إيجون وجيرت، ويسينج، بعد توظيفها في الأصل كموضوع اختبار لجويل وفرانكل، اللذين أجريا أبحاثًا حول المخدرات، جرّب بنيامين عدة مخدرات مختلفة، أكل الحشيش ودخن الأفيون، وسمح بأن يحقن تحت الجلد بالمسكالين وإيوكودال الأفيون. ما يؤكده المؤلف من خلال كتابه «عن الحشيش» الذي ترجمه سماح جعفر وراجعته «هرمس»، أن ظاهرة تدخين الحشيش تعد مظهرا من مظاهر الثقافة المعولمة، ونمطا للحياة في أوساط الفنانين المثقفين، وظاهرة لا تخلو منها المجتمعات المعاصرة، آلاف الكتاب والفلاسفة والرسامين والشّعراء والسينمائيين والمسرحيين والموسيقيين والعلماء وحتى السياسيين في المجتمعات المعاصرة يتعاطون الحشيش، وقد يجاهرون بذلك علنا أمام الرأى العام كجزء من ممارسة الحرية والبحث ربما عن محركات إبداع وابتكار. رائد علم الجمال قبل أن نمضى في التعريف بالكتاب علينا أن نتوقف قليلا للحديث عن المؤلف «فالتر بنيامين»، وهو لمن لا يعرفه أحد المفكرين الفلاسفة الألمان، وهو عالم اجتماع وناقد أدبي ومترجم يحمل أفكارا ماركسية، وهو يهودى الديانة، اعتبر لفترة أحد أعضاء مدرسة فرانكفورت في النظرية النقدية، وخلال نصف القرن الأخير زاد احترام وتأثير أعماله بشكل ملحوظ، حتى اعتبره الجميع أحد أهم مفكرى القرن العشرين في موضوعى الأدب والتجربة الجمالية الحديثة. أدمج «بنيامين» في نقده العلم الاجتماعى والثقافى، مع المادية التاريخية والمثالية الألمانية والأفكار الصوفية اليهودية، مقدما إسهاما جديدا للفلسفة الماركسية الغربية ونظرية «علم الجمال» بصفته باحثا أدبيا كتب مقالات شهيرة حول شارل بودلير، وترجم ديوان بودلير أزهار الشر، إضافة إلى رواية بروست بحثًا عن الزمن المفقود. ولأعماله تأثير كبير في الأبحاث الأكاديمية، وخاصة مقالته رسالة المترجم والأعمال الفنية في عصر إعادة الإنتاج الميكانيكى. في عام 1940، كتب بنيامين أطروحته المعروفة، «أطروحات حول مفهوم التاريخ»، المستوحاة من لوحة «أنجلوس نوفوس» (الملاك الجديد) لبول كيلى، رأى الشخص في اللوحة «ملاك التاريخ» الذي يتذكر ماضى البشرية ويخاف على مستقبلها، انتحر بنيامين بجرعة مخدرات زائدة في «بورت بو» على الحدود الإسبانية الفرنسية، بينما كان يحاول الهرب من قوات النازي، للعبور إلى الولاياتالمتحدة، عندما أدرك أن المجموعة التي يحاول الهرب معها لن تتمكن من عبور الحدود، تم السماح لباقى أعضاء المجموعة بعبور الحدود في اليوم التالى. ويشير الشاعر «أحمد شافعي» إلى أنه: «غالبا ما يوصف فالتر بنيامين بالفيلسوف، لكنكم لن تجدوا أعماله ضمن المقررات الدراسية مدروسة أو مدرَّسة في أقسام الفلسفة في كثير من الجامعات البريطانية والأمريكية، ربما في أقسام اللغة الإنجليزية، والدراسات السينمائية والإعلامية، أما في أقسام الفلسفة فلا. في عام 1999، تلقى الفيلسوف الأمريكى ستانلى كافيل Stanley Cavell (الذي ألَّف كتابا عن أفلام هوليود الكوميدية في ثلاثينيات القرن الماضى وأربعينياته، وهو شيء يصعب أن تتوقعوه من فيلسوف تحليلى أن يفعله) دعوة لحضور مؤتمر في جامعة ييل احتفالا بنشر جامعة هارفرد الجزء الأول من «مختارات» بنيامين، وقد طلب منه خطاب الدعوة من المدعوين المنتظرين أن يقيِّموا إسهام بنيامين كلا في مجاله المعرفى، فأعلن كافيل قوله: «إن الإجابة الأمينة على مسألة إسهام بنيامين الفعلى في مجالى هي تقريبا صفر». الحشيش خيار عقلي الانغماس الفلسفى الذي وفرته هذه المخدرات لبنيامين بحسب ماركوس بون لم يكن تشويشا رمزيا للحواس، بل كان تحولا في العقل، ومثل السرياليين، الذي كان متورطا بشكل نقدى مع أعمالهم في عام 1920، ابتغى بنيامين نفخ التفكير بطاقة الأحلام، ولكن في مصلحة أحلام اليقظة، في حالة من النشوة، فإن خيط الاستنتاج المنطقى يكون سائبا منحلا غير ذائب، ومع تفريغ الشخصية هناك تعميم للمنظور. يشير بون إلى تدخين الحشيش كظاهرة شرقية انتقلت إلى الغرب قائلا: «كلمة حشيش لها معنيان مختلفان على الأقل تاريخيا، كانت مصطلحا عاما يصف مستحضرات ذات تأثير نفسى تصنع من نبات القنب، في يومنا هذا تشير الكلمة بشكل شائع إلى المادة الصمغية المأخوذة من البراعم من النبتة المضغوطة في كعكات ذات لون بنى فاتح أو أسود، معرفة التأثير النفسى للقنب ربما تعود إلى أيام العصر الحجرى الحديث، بينما بدأت الإشارة الأدبية إلى المخدر بتنويعة من قصائد باطنية، وأخرى مثيرة للجدل نشرت في شمال أفريقيا والشرق الأوسط في العصور الوسطي، في وقت احتدام النقاش حول ما إذا كان الحشيش محرما أم لا بالنسبة للمسلمين. ورغم أن خلاصات نبات القنب كانت تشكل جزءا من وسائل المعالجة الشعبية في أوروبا لعدة قرون، فإن الحشيش لم يصبح معروفا بشكل كبير في أوروبا إلا في القرن التاسع عشر، كجزء من الاستشراق الذي كان رائجا في ذلك الوقت، قيل إن جيوش نابليون أحضرت الحشيش إلى أوروبا عندما عادت من الحملة على مصر في الأعوام 1798 /1801. في 1809 قدم المستشرق الفرنسى العظيم «سيلفستر دو ساسي» مذكرة في باريس حول استخدام الحشيش من قبل جماعة الحشاشين (assassins) في العصور الوسطي، وهى مجموعة راديكالية إسماعيلية كانت تعيش فيما يعرف الآن بالحدود التركية الإيرانية. أول ناد للحشاشين ورغم من أن الاشتقاق الذي يربط كلمة قاتل (assassin) بالحشيش هو اشتقاق زائف في الأغلب، فإن هذا الارتباط أثار خيال البوهيميين الباريسيين، ما أدى إلى إنشاء نادي الحشاشين في باريس عام 1845، وهو صالون في الفندق القديم في جزيرة «سان لوي» الصغيرة، الذي كان عدد من الكتاب والفنانين الباريسيين البارزين بما فيهم بودلير، وبلزاك، جوتييه، ديلاكروا، دوميه، وآخرون يأكلون فيه الحشيش على هيئة معجون، ممزوجا باللوز، ويشربون وراءه القليل من الحساء على وقع رباعى وتريات. خلد النادي في قصة جوتييه القوطية القصيرة الساحرة نادي الحشاشين» نطق الكلمة «الحشيش» ومرادفاتها كان متنوعا كما هي التأثيرات المزعومة للمخدر، شلال الهلوسات الموجود في هذه القصة، وفى أعمال أخرى مثل: «آكل الحشيش» 1857 التي كتبها الأمريكى «فيتز هيوز لودلو»، ربما يبدو بعيد الاحتمال للقراء المعاصرين الذين استنشقوا الحشيش. لم تكن فقط أعراف الأدب الخاصة بالقوطية هي المسئولة عن هذا الإسراف، فجرعات الحشيش التي ابتلعها كتاب القرن التاسع عشر بدت أيضا قوية بما يكفى لجعل المخدر يعمل كمثير للهلوسة، وليس كسيجارة ما بعد العشاء.»، كتب بودلير نصين يتعلقان بالحشيش، كل منهما لاذع يقترب إلى العدائية في مقال نشر عام 1851، قارن الحشيش سلبا ب«خمر الشعب» الذي ربطه بالوعى الثورى، وفى عام 1860 كرس نصف كتابه «الفراديس الاصطناعية لمناقشة الحشيش»، وكرس النصف الآخر لترجمة مهلهلة لكتاب توماس دى كوينسى «اعترافات آكل أفيون إنجليزي»، الذي يعتبر عموما أول نقاش أدبى حول المخدرات، وكان بودلير يقول إن الحشيش شيء شيطانى بحق. مع أن بودلير أظهر بهمة تلك الحقيقة، فإن ذلك لم يوقف أجيالا من الشباب الفرنسيين أو الأوروبيين المتهتكين الرمزيين وآخرين من اكتشاف وإعادة اكتشاف المخدر كمحفز محتمل لتوليد رؤى بودلير وبنيامين أيضا، من خلال تشكيلة المراجع الموجودة في مشروع «البواكي»، بالتأكيد فكر أن الحشيش يوفر مدخلا أفضل لفهم بودلير، خاصة فطنته المبكرة بشكل السلعة بوصفها هلوسة مشابهة لتأثير المخدر، الوضع المحيط بالمخدرات كان يتغير سريعا خلال الفترة التي كان بنيامين يكتب فيها، خلال فترة الحرب العالمية الأولى، تم إقرار أولى الأعراف الوطنية والدولية لتقنين استخدام المخدرات، ونظام تداول المواد المخدرة الذي كان حرا بشكل أو آخر، والذي ساد طوال القرن التاسع عشر، تم استبداله بنظام معقد متزايد التقنين استمر حتى أيامنا هذه، في البدء كانت هذه الضوابط موجهة بشكل أساسى إلى المواد التي لها علاقة بالأفيون (الأفيون، المورفين، الهيروين)، لكن في ألمانيا كان القنب الهندى واحدا من المواد التي تم تنظيم استخدامها بقانون المخدرات، الذي مرر في 18 ديسمبر 1929م. حشيش في مرسيليا كتب بنيامين ملاحظة مبدئية عن أولى علامات تأثير الحشيش عليه، ورصد تلك التجربة خلال البروتوكول، الذي نشر لأول مرة في صحيفة فرانكفورت 1932:«مرسيليا، 29 يوليو، في الحادية عشرة مساء، تعاطيت الحشيش بعد طول تردد، كنت في آيكس نهارا، وبيقين تام أنه في هذه المدينة التي يقطنها مئات الآلاف، حيث لا يعرفنى فيها أي شخص لن يزعجنى أحد، أستلقى فوق السرير، ومع ذلك يزعجنى صوت طفل يبكى، أعتقد أن ثلاثة أرباع ساعة قد تمر بالفعل، لكن ما مر لا يتعدى عشرين دقيقة، فأرقد في السرير، أقرأ وأدخن، أمامى دائما مشهد أحشاء مرسيليا. الشارع الذي رأيته كثيرا يشبه جرح سكين. أخيرا تركت الفندق، التأثير يبدو إما معدوما أو ضعيفا جدا، أو ربما كان الأثر خفيفا لدرجة أن الحرص على البقاء في الغرفة لم يعد له أي أهمية. زيارتى الأولى كانت لمقهى على ناصية كانبيير وكور بلسانس، بالنظر من جهة الميناء، يقع المقهى على اليمين؛ أي أنه لم يكن مقهاى المعتاد. ماذا الآن؟ فقط شعور بالطمأنينة، توقع أن يستقبلنى الناس ببشاشة، يتلاشى سريعا جدًا الشعور بالوحدة، تبدأ عصا المشى التي معى في إعطائى متعة خاصة. يصبح الواحد رقيقًا جدًا، حتى ليخشى أن ظلًا يسقط فوق ورقة قد يؤلمها. يختفى الشعور بالغثيان، يقرأ الواحد الملاحظات المدونة على المباول، لن أندهش إن دنا منى هذا الشخص أو ذاك، وبدأ في تجاذب أطراف الحديث معى. لا أحزن حينما لا يفعل ذلك أي شخص، لكن الضجيج هنا أكثر مما أحتمل. الآن تكتسب الشروط التي يفرضها متعاطو الحشيش على الوقت والمكان بعض القوة، كما هو معروف، تلك اشتراطات ملوكية، قصر فرساى، لمتعاطى الحشيش، ليس أكبر مما يلزم، وليست الأبدية أطول، تصاحب تلك الأبعاد الهائلة للتجربة الداخلية، للزمن المطلق والفضاء اللامتناهى، حس فكاهة رائع وبهيج، يتركز على احتمالات عالمى الزمان والمكان، أشعر بتلك الفكاهة تملأنى تمامًا حين يقولون لى في مطعم باسو إن المطبخ أغلق توًا، بينما أنا قد جلست كى أتناول وليمة نحو الأبد بعدها، رغم ذلك، يأتى شعور بأن كل ذلك براق، ومألوف، ومفعم بالحيوية، وأنه سوف يظل كذلك. علىَّ أن أذكر كيف وجدت مقعدى، ما همنى هو مشهد الميناء القديم الذي يراه الواحد من الأدوار العليا في مرورى بجوار المطعم، كنت قد لمحت منضدة خالية في شرفة الطابق الثانى، لكن في النهاية وصلت فقط للطابق الأول، وكانت أغلب المناضد الموجودة بجوار الشبابيك مشغولة، لهذا ذهبت لواحدة كبيرة جدا تم إخلاؤها منذ قليل، وبينما أجلس، شعرت بالعار من عدم التناسب الذي سببه جلوسى على منضدة بذلك الحجم، وهو ما جعلنى أعبر الدور بأكمله إلى الناحية الأخرى كى أجلس على منضدة أصغر رأيتها فقط حين وصلت إليها.