اعتراف مبدئي يظل فالتر بنيامين (1892-1940) بالنسبة لي أحد الأسماء التي أجد صعوبة في التعاطي مع منتوجه الفكري، يتحدث عنه بعض الأصدقاء بشيء يقترب من القداسة، ولكن محاولاتي البسيطة في التعامل مع كتاباته لم تعطني حتي الآن مفتاحا يمكنني أن أفهم به منجز الرجل الذي ترجم بودلير وبروست إلي الألمانية ومات منتحرا علي الحدود الأسبانية التي أغلقت في وجهه أثناء محاولاته الهروب من قوات النازي للعبور إلي الولاياتالمتحدة، ولتفتح الحدود مرة أخري في مفارقة قدرية - في اليوم الثاني بعد انتحاره. بنيامين ليس مجرد مترجم إلي الألمانية، ولكنه بحسب وصف راينير روشليتز: "لم يكف عن إلهام مؤلفين من كل الآفاق، نقاد فن، أو فلاسفة، أو نقاد أدبيين...كانت نصوص بنيامين ثرية بالصيغ المدهشة، وتقبل الاستشهاد بها علي نحو رائع، فإنها أفادت ومازلت تفيد في الدفاع عن العديد من القضايا الفلسفية، والدينية، والسياسية، والجمالية، والفنية، والأدبية". لكن اكتشاف نصوص بنيامين لم يحدث في حياته وإنما بعد موته بعقدين تقريبا، عندما صدرت الطبعة الفرنسية لمقالاته في مجلدين 1971 سبقتها طبعة أخري في مجلد واحد 1959- إذ بدأ اعتبار بنيامين وكتاباته منذ الستينات "حافزا لأشد الأبحاث تنوعا، وتم اعتباره رمزا لكل أنواع المقاومة" بحسب روشليتز. تعرف صفحة ويكيبيديا العربية بنيامين بأنه.."كان فيلسوفا، عالم اجتماع، ناقدا أدبيا، مترجما، وكاتب مقالة، ماركسيا يهوديا-ألمانيا. اعتبر لفترة أحد أعضاء مدرسة فرانكفورت في النظرية النقدية...خلال نصف القرن الأخير زاد احترام وتأثير أعماله بشكل ملحوظ، جاعلين بنيامين أحد أهم مفكري القرن العشرين في موضوعي الأدب والتجربة الجمالية الحديثة. أدمج في نقده العلم-الاجتماعي والثقافي، مع المادية التاريخية والمثالية الألمانية والأفكار الصوفية اليهودية ، مقدما إسهاما جديدا للفلسفة الماركسية الغربية ونظرية علم الجمال"... هل يكفي التعريف؟ بالتأكيد لا، فبنيامين يبدو أكثر تعقيدا. "مدخن الأفيون، وآكل الحشيش، يختبران قدرة النظرة علي شفط مائة موقع من مكان واحد" من البروتوكولات بالتأكيد هناك فارق بين تناول المخدرات في عشرينات القرن العشرين، وتعاطيها في أوربا وأمريكا تحديدا بعد 1968، وتعاطيها الآن في بداية القرن الحادي والعشرين. وبالتأكيد أيضا سينفتح أمام مدخن الحشيش خلسة علي ناصية أحد شوارع القاهرة عوالم شديدة الاختلاف عن قبل تدخينه، ولكن يمكن القول إن الحشيش يفتح أمام متعاطيه بشكل عام عوالم جديدة، سواء أكان هذا التعاطي في عشرينات القرن الماضي، أو منتصف العقد الثاني من القرن الحالي، ولكن ماذا عندما يتعاطي الحشيش مفكر بقامة السيد فالتر بنيامين؟ كيف ستكون النتيجة؟ وكيف ستكون تلك العوالم التي انفتحت أمام بنيامين في أوربا العشرينات التي تعاطي فيها الحشيش؟. "عن الحشيش" هو عنوان الكتاب الذي أصدرته مؤخرا دار "الكتب خان" بترجمة سماح جعفر، ومراجعة هرمس، ويضم الكتاب كتابات بنيامين في مراحل زمنية مختلفة عن تجربة تعاطيه المخدرات. بنيامين كان لديه مشروع كتاب كبير عن الحشيش، وقد أسر بهذا المشروع لبعض أصدقائه، لكن القدر لم يمكنه من إتمام هذا المشروع فظلت تلك الكتابات المتناثرة والتي تم جمعها بعد وفاته، وصدرت بالألمانية بنفس العنوان. يضم الكتاب التجارب التي قام فيها بنيامين وبعض أصدقائه بتعاطي المخدرات في الفترة بين 1927 وحتي 1934 في برلين، ومارسليا، وإيبزا، وشارك فيها بجانب بنيامين الفيلسوف إرنست بلوخ، الكاتب جان سلز، الأطباء إرنست جويل، فريتز فرانكل، إيجون ويسينج، وزوجته جيرت ويسينج، وبدا الموضوع كأختبار لجويل وفرانكل اللذين أجريا أبحاثا حول المخدرات. وحفظت سجلات الاختبارات علي شكل بروتوكلات حول المخدر بعضها كتب أثناء التجربة بينما يبدو أن بعضها الآخر قد جمع لاحقا. كما تذكر مقدمة الكتاب الأولي، أيضا أخذ بنيامين الحشيش وحيدا كما تشهد الرويات الثلاث عن أمسية من النشوة في مارسليا. "فرساي لمن أخذ الحشيش ليس كبيرا جدا، ولا الأبدية طويلة" لحن يتردد كثيرا في البروتوكولات يقول ماركوس بون في المقدمة الثانية التي يضمها الكتاب: "لو أن ثمة شخصا أخذ المخدرات بسبب قراءته كتبا عنها، لكان هذا الشخص فالتر بنيامين"، وعلي مايبدو أن بودلير كان مفتاحه لخوض التجربة وخاصة نصه "الفراديس الاصطناعية" فقد أشار بنيامين في 1919 عندما انتهي من قراءة نص بودلير.."سيكون من الضروري تكرار التجربة بمعزل عن هذا الكتاب". وتتابع المقدمة أن اتجاه بنيامين في تجربة الحشيش كان مشابها لذلك الموجود في استكشافه للبواكي الباريسية، والذي كان غرضه تشكيل قاعدة لنوع جديد من علم آثار/التاريخ الخاص للقرن التاسع عشر. وعلي الرغم من أن بودلير كان عدائيا تجاه الحشيش، مقارنة ب"خمر الشعب" الذي ربطه بالوعي الثوري، وربط بين الحشيش وبين الشر، ولكن بنيامين فكر أن الحشيش يوفر مدخلا أفضل لفهم بودلير. تجدر الإشارة إلي أن الفترة التي تعاطي فيها بنيامين المخدرات هي الفترة التي شهدت بداية نشأة نظام معقد متزايد التقنين بخصوص استعمال المخدرات مازال ساريا حتي اليوم، وكان استخدام المخدر في بيئة بنيامين المثقفة لم يكن أمرا يستحق الاحتفال، وبغض النظر عن رغبة بنيامين في كتابة كتاب حول هذه المواد إلا أن قلقه علي سمعته كان واضحا، بما يكفي ليطلب من صديقه شولم التكتم حول خطط الكتاب، ولكن أيضا لم يكن حذر بنيامين كبيرا إذ نشر تجربته الشخصية مع الحشيش بضمير المتكلم في صحفية فرانكفورت عام 1932 . لكن يمكن القول أيضا كما يخبرنا ماركوس بون- أن مجموعة الكتاب الذين كانوا متهمين باستخدام المخدرات في الفترة ما بين الحربين ومنهم بنيامين- تم تجاهل كتاباتهم أو لم تنشر، وهو ما يراه بون علامة علي فشل مشروع بنيامين لسياسة يسارية للنشوة، بينما ارتبطت المخدرات بعد الحرب العالمية الثانية بالكتاب اليمينيين، وكما يصف الأمر بأنه "حتي يومنا هذا، أي تقارب بين الماركسية والنشوة، خارج نطاق تكريم الملذات البروليتارية للكحول، هو أمر نادر". "العالم نفسه دائما، رغما من ذلك لدي المرء صبر" من البروتوكولات يقول بون: " الكلمتان "مخدرات"و"أدب" بمعنيهما الحديثين قد ظهرتا في نفس الفترة (حوالي 1800 مع الرومانسيين) والاثنتان معنيتان بالتجلي التام لقدرة الخيال البشري، بالوعي بمعناه الموسع، في وقت تتزايد فيه النفعية المتعنتة، وكلاهما يصبح مكبا للقمامة المفاهيمية، وإليه تحول فائضات المخيلة الخطيرة للتخلص منها. مكانان ممتلئان بغواية السبب في شدتها هو الحس بالمحرم، أو الإثم وانتهاك الحرمات". لكن هل يمكن كتابة النشوة؟ يري بون أنه يمكن اعتبار كتابات بنيامين حول الحشيش وأنواع المخدرات الأخري جزءا من استكشاف فلسفي شخصي لأثر ومعني تجارب المخدر النفسانية، خاصة أن مونتاج النصوص والملاحظات يميل إلي تضبيب الحدود بين أنواع المخدرات المختلفة، ولكن يري أفيتال رونيل أن محاولة وضع سؤال التجربة المنتشية داخل الفلسفة أو علم النفس أو أي نسق آخر محكوم عليها بالفشل. "يحلو لي أن أقتنع أن الحشيش يملك القدرة علي إقناع الطبيعة بإعادة التبديد العظيم لوجودنا الخاص، الذي نستمتع به عندما نكون في حالة حب" من البروتوكولات بعد تجربته مع الحشيش طور بنيامين مفهومه الأساسي "الهالة" والتي عرفها: بالحضور التاريخي أو الأصالة الخاصة بالموضوع خارج علامات وجوده القابلة لإعادة الإنتاج. من ناحية أخري من الأفكار الشائعة في أدب المخدرات، أن الأشياء والبيئات تشع معاني سرية وغير مرئية، وأن إدراك المرء للزمن والمكان يمكن تبديله. ولكن إسهام بنيامين الفريد هو أنه رأي هذا الإدراك علي أنه كشف الموضوع لهالته/كيانه التاريخي. وتحت كل "الحجب" و"الأقنعة" التي ترتديها المواضيع اليومية، ذلك التبصر ب"تماثل" يشير إلي حضور قوي متعالية وسرية ينطوي عليها التاريخ. وظاهرة التماثل هذه تولد شعورا بالبهجة. يري بنيامين أنه ليس هناك ممر سهل بالنسبة لمستخدم المخدرات لما وراء جدلية العقل والمادة، الروح والتاريخ. الموت يلوح في أفق المتاهة. جدير بالذكر أن فالتر بنيامين قد انتحر بجرعة مخدرات زائدة.