تنفرد "البوابة القبطية"، بنشر فصول كتاب "المسيحيون بين الوطن والمقدس" للدكتور إكرام لمعي أستاذ مقارنة الأديان، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب: الفصل الثالث: المسيحيون والعصر العباسي. في عام 750 م جاءت الخلافة العباسية على أنقاض الخلافة الأموية (23) وذلك لأن العباسيين كانوا من بلاد فارس ومركزها خراسان، وكان المسلم الفارسي مواطن من الدرجة الثانية في خلافة الدولة الأموية؛ لأن العربى المسلم كان مواطنا من الدرجة الأولى، وفي الحرب التي قامت بينهما كانت ترفع الشعارات من المسلمين العرب: أيها السادة، أدبوا عبيدكم، ومن الناحية الأخرى: ثوروا لكرامتكم، وهكذا وصل العباسيون للحكم وكان التأثير الفارسى واضحا على خلافتهم، قام الخليفة المنصور (754 م -775 م) ببناء مدينة جديدة على نهر دجلة وجعلها عاصمة للخلافة العباسية وأسماها بغداد، وقد استمرت الخلافة العباسية حتى غزو المغول لها في القرن الثالث عشر. ولكى نستطيع أن نحدد وضع المسيحيين في بدايات الخلافة العباسية نجد شهادة المفكر الإسلامي أبى عثمان عمر بن بحر الجاحظ (775 م - 869 م) وهو يروى كيف تمتع المسيحيون بالحرية إلى حد ما في أيامه يقول الجاحظ: ومما عظمهم (يقصد المسيحيين) في قلوب العوام وحببهم إلى الطغام (الطبقة العليا) أن منهم كتاب السلاطين، وفراشي الملوك (24) وأطباء الأشراف (ص 33-34 من كتاب العربية المسيحية)، ويوضح هذا النص أن المسيحيين المحكومين بقوانين معينة صاروا من صفوة المجتمع وأنهم استطاعوا أن يتجاوزوا القوانين الموضوعة لهم فقد شغلوا وظائف هامة وحيوية في خدمة الخلفاء على طريقة يوحنا الدمشقي في الخلافة الأموية. وهناك مصادر تاريخية تؤكد أنهم وظفوا مكانتهم الاجتماعية في وضع سياسات للأديرة المسيحية، فضلًا عن أن معظم المسيحيين منذ بدء الفتح الإسلامي (25) وعلى طول التاريخ كانوا يتخصصون في مجال المال والصرافة لحرفيتهم في هذا الأمر فضلا عن أمانتهم وهو ما نراه حتى اليوم في البنوك والمصارف العربية خاصة في مصر وأيضا تخصص المسيحيون في مهنة الطب ومعظم الأطباء في مصر كانوا من المسيحيين حتى الستينات من القرن الماضى ومازالت نسبتهم مرتفعة حتى اليوم، ومن أشهرهم في الدولة العباسية كانت أسرة بكاملها متخصصة في الطب تدعى أسرة بختيشوع وقد عملوا لسنين عدة وتوارثوها أبا عن جد وكانوا ضامنين (صحيا) للخلافة العباسية كلها، وذلك لإحترافهم وأمانتهم، والملاحظ أن توارث الحرف والوظائف من الآباء للأبناء ليست وليدة اليوم في بلادنا وإن كانت في الدولة العباسية لها أسباب أخرى وهي إمكانية ضياع الوظيفة منهم. أما أروع ما ميز المسيحيون في الخلافة العباسية فقد كانت ثقافتهم العالية وتجلت في هضمهم للفلسفة اليونانية الرومانية وتمكنهم من اللغة العالمية (لغة الثقافة) في ذلك الوقت وهي اللغة اليونانية وقد كان المواطن العالمى الذي يمكن أن يقبل في أي دولة يسافر إليها هو من يتكلم اليونانية ويحمل الجنسية العربية ويدين بالمسيحية أو الإسلام، وكان المسيحيون العرب يتميزون بالجنسية العربية واللغة اليونانية، مما جعل المسلمون إما يقدرونهم أو يشعرون بالغيرة منهم وكانت نتيجة ذلك أن الأمير العباسي المأمون أسند إليهم ترجمة ونقلالعديد من الكتب اليونانية والسريانية للعربية، وقد استمر ذلك طوال القرنين الثامن والتاسع. فقاموا بترجمة كتب الفلسفة والفلك والطب والحساب مما فتح للعرب غير المجيدين للغات الأجنبية بابا متسعا للثقافة وقد لمع نجم حنين بن إسحق وابنه إسحق بن حنين، وكان الخليفة يعطيهما وزن الكتاب المترجم ذهبا تقديرا لهذه الخدمة الجليلة والفريدة في ذلك الوقت. ويذكر الجاحظ (26) أن بعض المسيحيين بسبب مناصبهم المرموقة تمردوا على القوانين التي تحد من حريتهم مثل الملبس الخاص بهم ومبدأ دفع الجزية، ورفض الإثنين، فقد كانوا أرستقراطيين يمارسون الرياضة ويرتدون الملابس الفاخرة ويتسموا بأسماء مسلمين لكى يظهروا حجم الحرية التي يتمتعون بها داخل المجتمع الإسلامي والسؤال المطروح لأى محلل سياسي أو ثقافى: هل كان هذا السلوك رد فعل طبيعى ومتوقع من أقلية كبيرة العدد نسبيا شعرت بأنها تتميز سلبيا عن الأكثرية فحاولت الإندماج في المجتمع عن طريق تجاهل علامات التمييز المفروضة عليهم؟ أو كانوا يريدون التأكيد على هويتهم الخاصة عن طريق مناصبهم المتميزة متجاهلين القوانين والقيود؟ بالطبع نحن لا نستطيع الإجابة على مثل هذا السؤال رغم أن هذه الظاهرة تكررت كثيرا في الدول العربية التي بها أقليات مسيحية وتحتاج إلى دراسة رغم أنه لا يوجد الآن ما يسمى بعهد الذمة وإن كانت هناك قوانين غير معلنة مثل "شروط بناء الكنائس" المجحفة لوكيل الداخلية محمد العزبى 1936وقوانين معلنة وحديثة مثل قانون ازدراء الأديان وما بينهما. إلخلكننا نستطيع القول أن هذه التصرفات تخرج من دول لا تقر أو تحترم مبدأ المواطنة وحقوق الإنسان ومثلهذه النوعية من الدول تضعف وتنقرض إن لم تتغير إلى الأفضل. خلاصة القول أن المسيحيين كانوا يتمتعون بحرية حركة كبيرة داخل مجتمع الدولة العباسية غير أنهم لم يكونوا معتبرين كاملى المواطنة وهذه المواقف تختلف من زمن لآخر ومن مكان لآخر. و قد لخص هذا الأمر المفكر المصرى غالى شكرى (27) في سلسلة مقالاته تحت عنوان-حصان طروادة المسيحى في مصر - ردا على كتاب -المسيحية السياسية في مصر"لرفيق حبيب -يقول:- منذ دخول الإسلام إلى مصرو فرض التعددية الدينية الكتابية لم يوجد أبدا في مصر ما يسمى بالوحدة أو بالوطنية، وإنما وجدت دائما دولة قوية أو دولة ضعيفة، وفي الحالة الثانية كانت الفتنة هي القاعدة -و هو هنا يقول -أن الدولة القوية منذ دخول الإسلام هي التي كانت تعطى الحرية للأقليات أو تسمح لهم بالتعبير عن ذواتهم بطريقتهم في حماية الدولة (دولة المواطنة) أما الدولة الضعيفة فتستمد بقاءها من إثارة الفتن بين الأغلبية والأقليات، وكان هنا يتحدث عن حكام مصر بعد ثورة 23 يوليو خاصة السادات ومبارك. و بالعودة إلى العصر العباسي وتطبيق هذا المبدأ (الدولة القوية والدولة الضعيفة) نجد أن الخلافة العباسية كانت قوية لذلك أفرزت حالة واحد من أهم بطاركة الكنيسة في الشرق وهو البطريرك تيمثاوس الأول (728 م - 823 م) وقد جلس على كرسى الباباوية 40 عاما منذ رسم بابا في بلادنا عام 780م وقد كتب عدة رسائل مهمة فيها يتحدث عن العمل التبشيرى في بلاد فارس وأشور والهند والصين والتبت وفي إحدى خطاباته أظهر تعاطفا مع موقف زوجات المبشرين واللواتى يعشن في مناطق نائية لفترات طويلة بعيدا عن عائلاتهم ويطلب البطريرك تيموثاوس الأول من قادة الكنيسة أن يقوموا برعاية تلك الأسر، ولقد كانت كنيسة البطريرك كنيسة ضخمة كبيرة تمتد بطول طريق الحرير مما أعطى له وللمسيحيين قوة ونفوذا وبسبب قدرات البطريرك الإدارية والمالية تمتع بكثير من التوقير والاحترام وتقديرا واضحا من السلطات الإسلامية باعتباره رئيسا لكل مسيحى الدولة العباسية، وقد كان له الحق في الدخول الفوري لمحضر الخليفة، وكان الخلفاء العباسيون يعشقون المناظرات والحوارات الإسلامية المسيحية ويقيمونها في قصورهم، وقد دعا الخليفة العباسى أبو عبد الله المنصور بن محمد بن على المهدى (745 م - 785 م) البطريرك تيموثاوس الأول لمناظرة دينية استمرت لمدة 48 ساعة حول الخلاف العقائدى بين المسيحية والإسلام وبالطبع كان موقف البطريرك دفاعيا عن المسيحية أمام أسئلة الخليفة الهجومية، وكانت ردود البطريرك دبلوماسية وواضحة وجلية وقوية ولم ينكر عقيدته في الوقت الذي فيه لم يكن قادرا على توجيه أي نقد للإسلام، وقد كان هذا أمرا طبيعيا ومنطقيا فالبطريرك أحد رعايا الخليفة وقد أعطاه الخليفة الأمان لكى يتحدث بحرية ويعبر عن ذاته وإيمانه بكل طلاقة والواضح من الحوار أن الخليفة كان دارسا جيدا للإسلام والمسيحية ويعرف بوضوح الفروق الرئيسية بينهما والأسئلة التي وجهها للبطريرك توضح أن الخليفة كان واعيا بالاعتراضات القرآنية على المسيحية وكان الخليفة يحض البطريرك على أن يقدم برهانا عقليا على صحة العقائد المسيحية ولعلنا نلاحظ أن الفقهاء المسلمين الأوائل كانوا يدافعون عن الإسلام باستخدام نصوص القرآن أمام من لا يؤمنون بالقرآن، لكن بعد اختلاط المسلمين بأتباع الديانات الأخرى اليهودية والمسيحية والذين كانوا يدافعون عن إيمانهم بالمنطق العقلى لأن الآخرين لا يؤمنون بنصوص الكتاب المقدس بدأ الفقهاء المسلمون يدافعون عن إيمانهم من خلال الفلسفة والمنطق لأول مرة في التاريخ إسوة باللاهوتيين المسيحيين، وقد تم ذلك على طول العصر العباسى وكان الخلفاء يدعون اللاهوتيين المسيحيين ليروا كيف يقومون بالدفاع عن الإيمان بالعقل ولقد كانت الحوارات الدينية تتم في شوارع بغداد بين العامة دون حساسيات رغم الإختلاف ذلك لأن المسلمين كانوا يقومون دائما بزيارة الكنائس والأديرة، وهذا يدل على قبول التعددية الثقافية التي تبناها الكثير من الحكام المسلمين، بل إن الحكام المسلمين أنفسهم داوموا على زيارة الأديرة والكنائس المسيحية للتأمل الهادئ وممارسة السكينة للنفس، أو للاسترخاء والتمتع بحدائق الأديرة مترامية الأطراف، وكذلك كان لدى المسلمين وحكامهم فضولا إيجابيا للتعرف على أسلوب عبادة وطقوس المسيحيين خاصة أثناء الصوم، وهو ما نشاهده حتى اليوم في الموالد التي تقام باسم العذراء مريم فكثيرا ما يكون روادها من المسلمين أكثر من المسيحيين، بل كان حكام العباسيين وكبار الشرطة يذهبون للأديرة لتذوق النبيذ الذي تنتجه الأديره والذي يستخدمه المسيحيوين تذكارا لموت المسيح على الصليب وقد ظهر في القرن العاشر ما سمى -أدب الأديره - والذي يوثق لمواقع تلك الأديرة ويصفها من نحو شكلها وطبيعتها ومميزاتها وموقعها. إلخ إذن كان المجتمع العباسى يموج بحركة حضارية اجتماعية ثقافية تعددية على مستو البشر الذين يعيشون فيه، من هنا كان للمسيحيين العرب دورا بارزا ليس فقط في نقل أو ترجمة التراث اليوناني إلى اللغة العربية (28) والذي استخدمه المثقفون المسلمون فيما بعد في بناء الحضارة العباسية بل كانوا أيضًا سببًا في تشجيع وتحفيز المثقفين والحكام المسلمينلكى يناقشوا معا كيف يكون لهذا المجتمع هوية فكرية ودينية وحضارية معينة بذاتها. في هذا الزمان البديع نشأ علم الكلام الإسلامي وهو المقابل لعلم اللاهوت المسيحى، وقد دار نقاش معاصر بين مختصين بدراسة تاريخ الفكر الإسلامي حول موعد إنبثاق أو نشوء علم الكلام وترى هل جاء هذا العلم نتيجة الحوارات اللاهوتية المسيحية التي استخدمت في ذلك الوقت للدفاع عن الإيمان أم أنه جاء نتيجة الحوارات المسيحية المسيحية أي بين الفرق المسيحية حول قضية قضاء الله ومسئولية الإنسان حيث كانت كل فرقة تقدم إثباتاتها لرأيها وحججها من خلال النصوص المقدسة والفلسفة والمنطق العلمى، وكذلك حول قضية صفات الله وهل هذه الصفات موجودة في جوهره أم تختلف عن جوهره وقد اعتبر كثير من العلماء والمؤرخين أن نشوء علم الكلام كان تأثرا بهذه الحوارات المسيحية المسيحية، لكن البعض يرفض هذا القول، أما ما يتفق عليه الجميع أن الفكر الدينى الإسلامي في نهايات العصر الأموى وبدايات العصر العباسى قد تأثر بالمسيحية. وديانات أخرى مثل اليهودية وقد استخدموا هذه المعرفة للدفاع عن الإسلام وعن موقفه من بعض العقائد المسيحية التي يرون أنها منافية للعقل مثل التجسد الإلهى في عيسى بن مريم والتثليث. بدأ المسيحيون استخدام اللغة العربية في عام 800 م ولم تؤد سيادة اللغة العربية (29) في الحياة المصرية إلى القضاء على اللغة المصرية القديمة (القبطية) مثلما حدث مع اللغة اليونانية التي كانت سائدة في البلاد قبل الفتح الإسلامي والتي كتب بها يوحنا الدمشقي قبل 750 م لجمهور كان يستوعبه بتلك اللغة وذلك لأن الفاتحين المسلمين غداة الفتح سمحوا للمسيحيين المصريين باستخدام لغتهم للمرة الأولى في الوثائق القانونية وهو ما لم تمر به السلطات البيزنطية ومع ذلك لم تصمد اللغة القبطية أمام اللغة العربية لأسباب عديدة تتعلق ببنية كل من اللغتين وقدرة كل منهما على التعبير عن شتى جوانب الحياة إذ أن اللغة القبطية التصقت بالكتابات العربية بشكل يكاد يكون كامل من هنا بدأت عملية ترجمة من المسيحيين العرب داخل الأديرة بالقرب من أورشليم القدسو ظهر منذ بدايات القرن التاسع عدد كبير من اللاهوتيين المسيحيين العرب الذين لم يكتبوا فقط باللغة العربية بل كان تفكيرهم اللاهوتى يتم أصلا باللغة العربية، ومن أشهر هؤلاء اللاهوتيين المسيحيين ثيودروس أبو قرة (825 م) أسقف حران واليعقوبى حبيب بن حذيفة أبو رائطة التكريتى (835م) والنسطورى عمار البصرى (منتصف القرن التاسع الميلادي) وكان هؤلاء لا يبذلون جهدا كبيرا في شرح اللاهوت المسيحى في الواقع الإسلامي ومصطلحاته مستخدمين مفردات ومفاهيم وأمثلة يفهمها العامة بل كانوا يستعينون بمفاهيم إسلامية في شرح اللاهوت المسيحى وفي مصر كان سعيد بن البطريق المتخصص في التاريخ كما كتب ساويرس بن المقفع كتاب " سيرة البيعة المقدسة " عن تاريخ الكنيسة المصرية وبطاركتها باللغة العربية من الناحية الأخرى كتب الشعراء المسيحيون قصائدهم باللغة العربية في الموضوعات نفسها التي كتب فيها الشعراء المسلمون. و من هنا نستطيع القول أن ما حدث للمسيحية والمسيحيين العرب في القرن التاسع كان بمثابة بلورة شكل أصيل وجديد من أشكال المسيحية غير المسبوق في صياغة عربية وقرينة إسلامية. و لقد كان انبثاق هذا الشكل الأصيل للمسيحية ضروريا وهاما وذلك لأن (30) المسيحيين وجدوا أنفسهم مطالبين بإثبات صحة الإيمان المسيحى أمام مجموعة من الأسئلة الجديدة هذا فضلا عن إحساسهم بالحرية لإنزياح البيزنطيين من على كاهلهم وتأثيرهم النافذ على المواقف اللاهوتية المصرية فبدءوا يعبرون عن لاهوتهم وقناعاتهم في القرينة والحضارة الإسلامية الجديدة وكانت وسيلتهم لغة يشتركون فيها مع نظرائهم المسلمين وهكذا خرجت أدبيات لاهوتية كنتيجة حتمية لإعادة التفكير في كيفية التعبير عن اللاهوت المسيحى في خلفية قرينة دار الإسلام وهكذا رأينا عبقرية المفكرين المصريين الذين يرتبط لاهوتهم بعمق وشدة بالتراث الآبائى منذ القرن الأول الميلادى في قرينة يونانية يهودية بفحصهم وفهمهم في كتابات الآباء بإستحضاره وإعادة صياغته في قوالب خطاب فكرى لاهوتى معاصر يعبر عن الإيمان المسيحى ورغم أن هناك أجزاء من الكتاب المقدس ترجمت في وقت سابق إلى اللغة العربية، إلا أن الترجمة المنظمة بمنهاج ثابت للكتاب المقدس إلى اللغة العربية لم تتم إلا في منتصف القرن التاسع وإن كان البعض يتحدث عن ترجمات سابقة ويعتمدون في ذلك على أن تجمعات المسيحيين العرب كانت موجودة من قبل، غير أن ما هو ثابت تاريخيا أن اكتمال ترجمة الكتاب المقدس إلى العربية تم في العصر العباسى مع الإقرار بوجود أجزاء من الكتاب المقدس مترجمة قبل ذلك العصر لكن لا توجد مخطوطات سوى من العصر العباسى ولا يوجد لدينا أي مخطوط سابق للعصر العباسى ولا يوجد دليل صحيح يقول أن هناك ترجمة عربية أقدم من القرن التاسع وهذا يوضح أن احتياج المسيحيين العرب في أيام العباسيين لإثبات الذات كان هو الدافع الأساس وراء ترجمة الكتاب المقدس للغة العربية وربما أيضا بسبب أن عدد من كان لهم لغات أخرى بدأ يتناقص وينتهى. من هنا نستطيع القول أن التأثير المسيحى العربى الأصيل (31) وسيرته أرتبط إرتباطا وثيقا بالإسلام العربى الأصيل ذي الخلفية المصرية الفرعونية واليونانية والفينيقية والآشورية، وهكذا تآلفت المسيحية العربية فكرا وعملا وساهمت بقوة في نشأة الفلسفة الإسلامية من خلال الحوار الفقهي اللاهوتى العميق والمستنير والمنفتح ونوعية الأسئلة التي وجهها الفكر الإسلامي للمسيحية والدفاع المسيحى عن صحة الدين المسيحى ومحاولته تضمين الأقليات العددية إلى الإسلام كل ذلك إلى جوار التحديات الاجتماعية التي فرضها الإسلام على المسيحيين كل هذا الحراك الإجتماعى الدينى أدى إلى بناء حضارة إسلامية عالمية بفكر عقلاني يحتوى الجميع على أسس واضحة مقبولة عالميا أما في مجال الاقتصاد فالزراعة كانت مهنة معظم المصريين منذ فجر التاريخ وهو ما يعنى أن هؤلاء الزراع ظلوا يمارسون مهنتهم الأزلية بغض النظر عن التغيرات التي جرت على الظروف السياسة أو الديانة التي يدينون بها فقد كان الريف المصرى وما يزال يوحد بين سكانه من الناحية الاقتصادية والاجتماعية ومن حيث العادات والتقاليد بسبب الطبيعة الكلية للوجود الإنسانى في الريف، فالإنسان الفرد جزء من الكل في الريف المصرى فلا وجود للفردية التي نراها في المدن، لقد عاش المسلمون والمسيحيون نفس الحياة ونفس المجتمع وتعرضوا لنفس الظواهر وخضعوا لنفس الظروف لقد عمل المسيحيون بالزراعة في الريف كما عملوا في الإدارة والطب والهندسة والتجارة وسائر المهن والحرف التي كانت في المجتمع المصرى آنذاك. و هكذا نرى أن المسيحيين في العالم الإسلامي لم يعيشوا مطلقا في (جيتو) مجتمع إنعزالى إختيارى ودليلنا الواضح في ذلك الفيلسوف المسيحى العربى يحيى بن عدى بن حميد بن زكريا التكريتى (893 م -975 م) (32) وقد كان يعقوبى العقيدة (طائفة مسيحية)و درس على يد أحد النساطرة (طائفة اعتبرت هرطوقية وعلى يد الفيلسوف المسلمأبى نصر الفارابى (874 م -950 م) والذي كان يطلق عليه المعلم الثانى بعد أرسطو ثم صار يحيي بن عدى فيلسوفا يشار له بالبنان وزعيما للفكر الدينى والفلسفى في بغداد وقد قام بتأليف عدة كتب ضد طوائف مسيحية يختلف معها، ثم كتب ناقدا مجموعة من العلماء والفلاسفة المسلمين الذين عاشوا قبله، ومن أهم أعماله التي تركت أثرا عميقا في العالم الإسلام كله رسالته في تهذيب الأخلاق، ولعلنا نلاحظ من هذا السرد أن يحيي بن عدى لم يكن مقيدا أو محددا في فكره وتعبيره عن ذاته لكونه مسيحيا رغم أنه إذا نظرنا إلى معظم مؤلفاته اللاهوتية نستطيع أن ندرك أنها مجموعة لنقد وتفنيد أعمال مفكرين مسلمين سابقين، فلم تكن أعماله في معظمها مؤلفات أصيلة بقدر ما كانت ردودا استلزمت منه جهدا فكريا كبيرا، وحتى كتاب " تهذيب الأخلاق " لم يكن كتابا لاهوتيا منظما كلاسيكيا لدرجة أنه كثير من الباحثين ينسبونه إلى مؤلفين مسلمين. نخرج من هذا النموذج لمفكر مسيحى أنه كان على وعى كامل بقدر التحديات التي وأجهها المسيحيون العرب في دار الإسلام وأهمية وضرورة الرد على الاعتراضات الإسلامية من ناحية والتفاعل مع معطيات الفكر الإسلامي من الناحية الأخرى وذلك بدلا من التمركز حول الذات والعقيدة فحسب وكفى المؤمنين شر القتال لقد كان هذا التفاعل من أكثر عوامل بناء حضارة عربية أصيلة مستنيرة. وهناك مثل آخر ربما يكون أوضح وأكثر مباشرة هي كتابات اللاهوتى بولس الأنطاكى (33) الذي كان أسقفا على مدينة صيدون في القرن الثالث عشر وهو مؤلف أصيل حيث وجه رسالة إلى صديقه المسلم تتميز بجراءة عالية يريد من خلالها إثبات أن الإسلام ليس دينا عالميا جاء ليحل محل المسيحية أو اليهودية بل هو دين موجه أساسا للقبائل العربية، وهذا اعتراف صريح بالدين الإسلامي بأنه دين سماوى لكنه مخصص لشعب معين وهذا إجتهاد مسيحى متقدم حيث يرى الحق في الدين الإسلامي وقد اختلف في إجتهاده مع رؤية يوحنا الدمشقى الذي صاغها في القرن الثامن الميلادى، وهذا دليل على وجود تفكير لاهوتى عربى جاد حول قضية تعدد الديانات وهذا التفكير يأخذ الإسلام بشكل خاص بعين الاعتبار وقد خدم هذا الفكر المسيحية العربية في دفاعها ضد الاتهامات التي وجهت لها، ولقد تم تبادل هذه الرسالة لمدة قرن كامل قبل أن يقوم أحدهم بتحريرها (ضبط النص) في بدايات القرن الرابع عشر، وعندئذ تم إرسال هذا النص بشكل سرى إلى عالمين من علماء المسلمين كى يجدا بعض الحق فيها ويوافقا على أن المسيحية دين يعترف بالإسلام، لكنهما لم يقتنعا. لكننا هنا نستطيع القول أن هذه الرسالة تتحدث بشكل جسور وواضح عن علاقة الإسلام بالمسيحية، وتعتبر مصدر الديانتين واحدا هو الله تعالى وتؤكد على أن الإسلام ليس منافسا للمسيحية والعكس صحيح، لقد اعتبر بولس الأنطاكى أن الإسلام دين من عند الله واعتقد أبو الفرج الطيب أن الرسول محمدا أحد أنبياء العهد القديم. هذه كلها كانت اجتهادات جريئة لكن الكنيسة رفضتها والإسلام رفضها لأنها إجتهادات تتحدث عن أن الأديان جميعا من عند الله دون تحريف من جهة أو تجاهل من جهة أخرى. و من المرجح أن تكون الحروب (الصليبية أو الفرنجة) كم أطلق عليها العرب هي الخلفية التاريخية للرسالة التي وضعها بولس الأنطاكى، ولقد كانت هكذا بالفعل في النص المحرر لاحقا. إنها علاقة واضحة تبين مدى استيعاب المسيحيين العرب القرينة الإسلامية، ذلك لأنهم عاشوا في مدن عبرت فيها جيوش الأوروبيين فعانوا نفس المعاناة وتجرعوا نفس الكأس المرة التي تجرعها المسلمون دون تفرقة، ولم يكن ممكنا إطلاقا أن يميز المعتدون الأوروبيون بين المسيحيين العرب والمسلمين العرب لقد كان كلاهما ضحية مجازرهم، وهو ما حدث في العصر الحديث في حرب 1948، 1956، 1967، 1973 لقد سال دم المسيحى كما سال دم المسلم ولم تفرق جيوش إسرائيل والصهاينة بين المسلم والمسيحى في كل البلاد العربية وكم نحن في حاجة اليوم مع انتشار ندوات واجتماعات الحوار الإسلامي المسيحى أن تكون هنالك جادية في اختراق الجمود بإجتهادات فقهية إسلامية مسيحية يهودية تعطى قدرة حقيقية على التوحد. يرصد الأب الدكتور جورج قنواتى إسهام المسيحيين في تعريب التراث اليوناني أيام الخلافة العباسية كالتالى: أولا: قائمة الناقلين من التراث اليوناني إلى العربية إما مباشرة أو بواسطة اللغة السريانية. ثانيا: ما نقله هؤلاء من التراث اليوناني. ثالثا: أسماء المشهورين من المسيحيين في المجالات المختلفة. أولا: قائمة الناقلين من التراث اليوناني إلى العربية: 1-اصطفان القديم: وقد نقل لخالد بن يزيد بن معاوية كتب ألصنعة وغيرها. 2-البطريق: وقد كان في أيام المنصور وأمره بنقل أشياء من الكتب القديمة. 3 -أبو زكريا يحيي بن البطريق: وكان في حملة الحسن بن سهل. 33- نفس المصدر السابق. 4-الحجاج (بن يوسف) بن مطر: ترجم وفسر للمأمون وهو الذي نقل المجسطي وإقليدس. 5-ابن ناعمة واسمه عبد المسيح بن عبد الله الحمصى الناعمة. 6-سلام الأبرش: من النقلة القدماء في أيام البرامكة واشتهر بنقله مخطوط السماع الطبيعي. 7-حبيب بن بهرنير مطران الموصل: ترجم وفسر للمأمون عدة كتب. 10-أيوب وسمعان: ترجما وفسرا زيج بطليموس لمحمد بن خالد يحيي بن برمك وبعض الكتب القديمة. 11- ابن شهد الكرخي: نقل من السريانية إلى العربية نقلا رديئا كتاب الاجنة لأبيقراط. 12- أبوعمرو يوحنا بن يوسف الكاتب: نقل كتاب أفلاطون في آداب الصبيان. 13-أيوب بن القاسم الرقي: نقل من السريانية إلى العربية ومن نقله كتاب إيساغوجي. 14-داديشوع: ترجم وفسرلإسحق بن سليمان بن على الهاشمي من السريانية إلى العربية. 15- قسطا بن لوقا البعلبكى: جيد النقل، فصيح اللسان اليوناني والسريانى والعربي، وقد نقل أشياء، وأصلح نقولا. هذا بخلاف حنين ابن اسحق وإسحق (بن حنين بن إسحق) وثابت بن قرة (الحراني)وحبيش (بن الحسن بن الأعشم الدمشقي) وعيسي بن يحيي والدمشقي وإبراهيم بن الصلت (أبو نوح) وإبراهيم بن عبد الله ويحيي بن عدى وغيرهم الكثير و جميع هؤلاء النقلة، ما عدا قلة هم من العلماء المسيحيين، ويمكننا أن نضيف من مصادر أخرى: 1-سنان بن ثابت بن قرة 2-عيسى بن إسحق بن زرعة 3- يعقوب بن إسحق الكندي 4- عمر بن الفرخان الطبري 5- أبو بشر متى بن يونس: من دير قنى تفقه في مدرسة مار مارى على يد أساتذة عظام وإليه انتهت رئاسة المنطقيين في عصره. 6-يوحنا بن مأسوية. 7 - آل بختيشوع وهم من السريان النساطرة. 8 - آل ماسرجوية: أولهم مايرجوية متطيب البصرة وهو يهودى المذهب سرياني اللغة وكان ينقل من السريانية إلى العربية. 9 - موسى بن خالد، ويعرف بالترجمان نقل كتبا كثيرة من الستة عشر لجالينوس وهو دون حنين. 10 - سرجيس الرأسي: هو من مدينة رأس العين في جزيرة العراق نقل كتبا كثيرة وكان متوسطا في النقل وحنين كان يصلح نقله. 11- الجاثليق طيموثاوس الأول النسطوري. 12-- أبو الفرج بن الطيب. ثانيا: ما نقلوه من التراث اليوناني: 1 -علم التنجيم -الطب جورجي بن بخيشوع. 2- طبقات الأطباء. 3- كتب الفلسفة في أيام المأمون: أولا: كتب أفلاطون: 1-السياسة نقله حنين بن إسحق. 2- المناسبات نقله يحيي بن عدى. 3 - النواميس نقله حنين ويحيي. 4- طيماوس نقله البطريق وأصلحه حنين. 5- أفلاطون نقله يحيي بن عدى. 6 - التوحيد نقله يحيي بن عدى. 7- أصول الهندسة نقله قسطا بن لوقا. ثانيا: كتب أرسطا طاليس 1- المقولات: حنين بن إسحق. 2- العبارة: نقله حنين بن إسحق إلى السريانية واسحق إلى العربية. 3- تحليل القياس: تيادروس وراجعه حنين. 4- كتاب البرهان: إسحق بن حنين وومتي. 5- كتاب الجدل: إسحق ويحيي. 6- المغالطات أو الحكمة الموهة: ابن ناعمة وأبو بشر إلى السريانية ويحيى إلى العربية. 7- الخطابة: إسحق بن حنين. 8- الشعر: أبو بشر. ثالثا: الطبيعيات 1 - كتاب السماع الطبيعى: أبو روح الصابى وحنين وقسطا وأبو ناعمة. 2 -كتاب السماء والعالم: بن البطريق وراجعة حنين. 3 -الكون والفساد: حنين إلى السريانية وإسحق الدمشقى إلى العربية. 4 -الآثار العلوية: أبو بشر ويحيي. 5 - الحس والمحسوس: أبو بشرمتى بن يونس 6 - الحيوان: بن البطريق. رابعا: الإلهيات 1 - كتاب الحروف والإلهيات: إسحق ويحيي وحنين ومتى. 2 - الأخلاق: إسحق. 3 - المرآة: الحجاج بن مطر. 4 - أثولوجيا: حمصي بن نعيمة وراجعه الكندى. خامسا: كتب الطب وفروعه 1- عهد أبقراط: حنين إلى السريانية وحبيش وعيسى إلى العربية. 2- الفصول: حنين بن إسحق لمحمد بن موسى. 3- الكسر: حنين بن إسحق لمحمد بن موسى. 4- تقدمة المعرفة: حنين وعيسى بن يحيي. 5- الأمراض الحادة: عيسى بن يحيى. 6- الأمراض الوافدة: عيسى بن يحيي لأحمد بن موسى. 7- حانوت الطبيب: حنين بن إسحق لمحمد بن موسى. 8- الماء والهواء: حنين وحبيش. 9- طبيعة الإنسان: حنين وعيسي. هذا غير كتب جالينوس في الطب وهم 47 كتاب ترجمت كلها للعربية وكتب إقليدس في علم النجوم والهندسة والحساب والموسيقى والميكانيكا. و كتب أرشميدس وكتب أبولونيوس. إلخ ثم يرصد الشعراء المسيحيين. وهكذا نستطيع القول أن الحضارة العربية الإسلامية وصلت إلى قمتها السياسية والثقافية والاجتماعية أثناء الخلافة العباسية ثم بدأت في التراجع. بل نستطيع القول أن عصر الإصلاح الأوروبي والنهضة الأوروبية قامت على ترجمة كتب العلماء العرب والمعتزلة مثل ابن رشد وابن سينا والكندي والفارابي وغيرهم الكثير بينما الحكام العرب الذين أتوا بعد الخلافة العباسية وعلى رأسهم الخلافة العثمانية تهاوت بحرية الفكر وحركة الترجمات. من الثابت تاريخيًا أن أوروبا بنت نهضتها على الفكر الفلسفي والعلمي للعصر العباسي بينما الأبناء والاحفاد العرب اجتاحهم التخلف العلمي والتطرف الديني والانقسامات الحادة بين ملل ونحل كما سنرى في الفصول القادمة. لكن قبل أن نترك الخلافة العباسية لابد أن نتعرض للدول التي توالت على حكم مصر بدءًا من الدولة الفاطمية (969م -1171 م) المعاصرة لبدايات الخلافة العباسية وحتى الخلافة العثمانية مرورًا بالدولة الأيوبية والهجمة الصليبية والمغول. تعتبرالدولة الفاطمية (34) بمصر العصر الذهبى للمسيحيين وليهود فقد تولوا مناصب مهمة في الإدارة الفاطمية بسبب سياسة الدولة الفاطمية الشيعية الإسماعيلية ضد السنة الذين كانوا يشكلون غالبية المصريين في ذلك الحين ومن الواضح أن الوجود الإجتماعى للمسيحيين المصريين في العصر الفاطمى كان أفضل منه في الفترة السابقة على هذا العصرعلى الرغم من أن الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمى قد شوه الصورة بسبب تصرفاته الغريبة التي خرجت عن سياق الدولة الفاطمية عموما بيد أنتصرفات الحاكم بأمر الله لم تكن قاصرة على فئة دون أخرى من المصريين وإنما شملت المصريين جميعا من المسلمين والمسيحيين واليهود كما أن هذا الخليفة المثير للجدل بين المؤرخين قد تراجع عن كل تصرفاته تجاه المصريين جميعا في الفترة الأخيرة من حياته وقبل إختفائه على نحو غامض. الدولة الأيوبية: (1171 م - 1250 م) عاش المسيحيون واليهود المصريون وقتا مريحا بشكل عام رغم أن الدولة الأيوبية نفسها كانت الاستجابة السياسية للحملات الصليبية التي نجحت في زرع الكيان الصليبى الغريب على الأرض العربية في فلسطين والشام وكانت في حروب شبه دائمة ضد الصليبيين الذين هاجموا مصر بحملتين كبيرتين في غمار الصراع الإسلامي / الصليبى وعلى أي حال لم يتأثر الوجود الاجتماعى للمسيحيين المصريين كثيرا بالحرب الدائرة ضد الفرنجة الصليبيين الذين كانوا يعادون المسيحيين العرب بقدر عدائهم للمسلمين. المغول والمماليك: (35) نستطيع القول أنه كان للصليبيين الباع الأعظم في تقريب العالم العربي بمسيحيه ومسلميه بعضهم البعض فقد وضع الصليبيون الأوروبيون حجر الأساس لبطريركيات وكراسى أسقفية غربية وظهرت رهبنيات غربية في المناطق الخاضعة لحكمهم وقد أزاحوا الرهبنيات والأسقفيات الشرقية المحلية رغم روحانياتها العالية ونظام عبادتها الثرى. في ذلك الوقت اجتاح المغول بلدانا عديدة في اتجاه الغرب بدءا من وسط آسيا حتى تمكنوا من دحر الخلافة العباسية في بغداد عقر دارها وهكذا تعرض البناء الإجتماعى للزوال. في عام 1258 م حطم المغول بغداد بوحشية وقتلوا المستعصم بالله (1242 م - 1258 م) آخر خليفة عباسى وقد أظهر المغول تسامحا مع المسيحيين في البداية بل كاد المغول أن يقبلوا المسيحية كدين رسمي واستبدل البطريرك النسطورى كرسى الأسقفية ووضعه داخل قصر الخليفة وشعر بحرية بالغة حتى أنهكان يمارس الشعائر الدينية بشكل علني لأول مرة في التاريخ منذ تشييد بغداد لكن سرعان ما تغير المغول وتحولت الحرية إلى اضطهاد وإزلال وتم حرق الكثير من الكنائس والأديرة وتم قتل العديد من الكهنة والأساقفة وفقدت كنيسة الشرق مكانتها في الحياة العامة وانتهت التجمعات المسيحية في آسيا وفقدت بذلك صدارتها في قيادة الكنيسة في الوطن العربى وزاد الاضطهاد في عهد تيمورلنك (1396 م - 1405 م) ومن تبعه من حكام المغول. في ذات الوقت استولى المماليك على حكم مصر (1250م - 1517 م) وقد كان عصر المماليك في مصر استمرارا لسياسة الأيوبيين من عدة نواح فقد واصلوا المقاومة ضد الصليبيين واحتفظوا بل وصانوا البنية الاجتماعية والنسيج الثقافي للمجتمع المصرى، فلقد عاش المسيحيون المصريون حياتهم ضمن الإطار العام للحياة المصرية وكان المسيحيون منقسمون إلى طائفتين الطائفة الملكانية وهم أقلية الأقلية واليعاقبة وهم الأغلبية بين المسيحيين المصريين وعلى عكس اليهود الذين رفضوا أن يمارسوا الزراعة جنبا إلى جنب مع المسلمين والمسيحيين في الريف، ولقد كان للحضور الإجتماعى للمسيحيين في الريف بخصائصه المغروسةفي الأرض بعاداته وتقاليده وحيازة الأرض الزراعية تواجدًا قويًا ومؤثرًا في المجتمع المصرى حينئذ، تشير وثائق دير سانت كاترين بسيناء عن المصادر التاريخية الموازية أن المسيحيين المصريين انخرطوا في كل مجالات العمل المتاحة في مصر بل واشتغلوا في كل الحرف والمهن وتميزوا في التجارة والزراعة والعمل الإدارى، والصرافة والأموال لقد كانت هذه الأمور تسير بطريقة طبيعيةجدا فالمسيحيون ليسوا غرباء أو أجانب وقد احتفظوا بمسيحيتهم بينما اختارت الأغلبية الدين الإسلامي دينا لهم لسبب أو آخر، ولكن هؤلاء وأولئك بقوا -بالطبع- مصريين حتى النخاع وقد أشار المؤرخ المدقق العظيم - تقى الدين المقريزى - إلى أن كلمة -القبط- أو الأقباط كلمة من أصل فرعونى تشير إلى مصر أي تعنى المصريين جميعا مسلمين ومسيحيين وأنه لا توجد ديانة اسمها - الديانة القبطية - أي ربط صفة القبطى بالدين خطأ علمى جسيم من ناحية ويحمل مضمونا إقصائيا غير مريح لشريك الوطن المختلف في الدين من ناحية أخرى وقد شاركه هذا الفكر مؤرخون وعلماء معاصرون له ومن بعده. و بالعودة للوثائق نجد أن الوجود المتكافئ للمسيحيين والمسلمين (اليعاقبة والملكانية) (36) امتلكوا العقارات على اختلاف أشكالها وأنواعها ومستوياتها وتعاملوا مع المصريين جميعا بغض النظر عن الانتماءالدينى في جميع أنحاء البلاد في البيع والشراء والرهن والإيجار وتكوين الشركات والمصانع طبقا للقوانين الحاكمة في ذلك الوقت بل تشارك المسيحيون والمسلمون في كثير من أعمال التجارة والصناعة وما يلفت النظر أن كل التصرفات القانونية للمسيحيين المصريين من بيع ورهن ووقف ودين ومصادقة شرعية. إلخ كانت تتم أمام قاضى مسلم حتى لو كان طرفا العقد من المسيحيين إذا اختارالطرفان المسيحيان ذلك وهو ما كان أمرا عاديا بل في الغالب الأعم وكان يشهد على صفحة هذه العقود مصريون من المسلمين والمسيحيين على السواء ومن اللافت للنظر أن الأوقاف المسيحية الأرثوذكسية كانت نظارتها تعهد إلى القاضي المسلم الحنفى حسبما نرى في كثير من الوثائق المحفوظة حتى اليوم وربما هذا يجعلنا نخرج بإنطباع أن القانون هو الحاكم وأن الديانة لم تكن تؤثر في التصرفات القانونية وأن جميع المتعاملين يشعرون بوحدة وجودهم الاجتماعى والوطنى تحت ظل سيادة القانون. و قد كان المصريون جميعا عدا اليهود يحتفلون بعدد كبير من الأعياد والمواسم المسيحية باعتبارها أعياد ومواسما -مصرية- وقد جرت عادة المصريين ومازالت حتى اليوم على صنع أطعمة بعينها في هذه المواسم كانوا يتهادون بها فيما بينهم، وتشير المصادر التاريخية أنه كان يحدث أحيانا أن يقوم المسئولون عن كنيسة بإستعارة الأثاث والفرش من الجامع المجاور لاستخدامها في مناسبة دينية مثلما حدث عندما استعار القائمون على شئون الكنيسة المعلقة في الفسطاط القناديل والأثاث من جامع عمرو بن العاص لاستخدامها في أحد اجتماعاتهم الدينية المهمة أما بالنسبة للمشكلات الاجتماعية التي كانت تنشب بين المسيحيين والمسلمين من وقت لآخر فقد كانت بطبيعة الحال لأسباب اقتصادية أو اجتماعية لكنها تأخذ الطابع أو الشكل الدينى (كما يحدث حتى اليوم) وفي عصر المماليك واجه المسيحيون واليهود بعض من هذه النوعية من المشكلات فيها تعرضوا للإيذاء في بعض المواقف من جانب السلطات الحاكمة، بل أن السلطات الحاكمة كانت تستخدم العوام وتثيرهم ضد المسيحيين لشغل الناس عن فساد الحكم والحكام، وهو ما كان يحدث أثناء حكم مبارك ووزير داخليته حيث كانت أدواته في شغل الناس عن الفساد المنتشر هي الفتنة الطائفية خاصة بناء الكنائس أو زواج مسيحية من مسلم فيثيرون العامة لصنع مشكلة أو مباريات الكرة والشغب فيها من الناحية الأخرى. كان أكثر ما يسعد الحكام (37) أن يقوم بعض المتعصبين لسبب أو آخر بالتجمهر ضد الطرف الآخر وهنا يأت الحاكم كالحكم العدل بينهما وفي حادث مشهور قام بعض الرهبان المسيحيين بإشعال الحرائق في عدد من مساجد القاهرة وبعض أحيائها كرد فعل لإيذائهم والسخرية منهم فقام بعض المسلمين بإحراق عدد من الكنائس، وقاموا بتظاهرة تطالب السلطان محمد بن قلاوون (النصف الأول من القرن الرابع عشر الميلاد) بطرد أهل الذمة من الوظائف الحكومية ورغم أن السلطان تردد في البداية في استجابة هذه المطالب إلا أنه بدا وكأنه رضخ في نهاية الأمر لكى يعود الهدوء للشارع وتم طرد اليهود والمسيحيين من وظائفهم الحكومية بناءً على طلب الجماهير، إلا أنه من المعروف حينئذ أن هذا الأمر كان معد سلفًا بالتوافق مع المسيحيين وتم تجهيز الشارع المسيحي لقبولها وبعد أن هدأت الأمور حدث أن تقدم بعض أصحاب الأملاك المسيحيين والمسلمين النافذين وطلبوا من السلطان أن يعيدهم فأعادهم وهو ما يتم الآن بحذافيره عند تهجير مسيحيين نتيجة لقانون سئ السمعة يدعى - ازدراء الأديان - وبعد تهجيرهم من السلطات الأدنىيعادون إلى منازلهم بأمر من السلطات العليا. وهكذا وبالطبع كانت الأحداث العنيفة تهدد النسيج الاجتماعى خاصة عندما تفرض قيود على المسيحيين واليهود في الملبس أو الطرد المؤقت من من الوظائف لكن لم تصل إطلاقا إلى القتل أو الطرد (التهجير) أو مصادرة الأملاك والملاحظ أن مثل هذه القوانين على أهل الذمة مثل الجزية وتطبيق الشروط العمرية والتي بالغ فيها الفقهاء بعد عمر ونسبوها له لم تكن تطبق بشكل يومى أو مستمر لكن كان يلجأ إليها عند حاجة الحكام السياسية لإثارة بعض الشغب وتنسى بعد ذلك، وقد كتب المؤرخون أن الحكام يرجعون من وقت لآخر ليذكروا الناس بمثل هذه القوانين ويعملون على تطبيقها وهذا يعنى أنها لم تكن تطبق بشكل دائم وحرفى وهذا تماما ما ينطبق على قوانين سيئة السمعة مثل قانون العيب أيام السادات وقانون التظاهر وازدراء الأديان هذه الأيام. ومن الأمور التي كانت تثير المجتمع المصرى مسيحييه ومسلميه في عصر سلاطين المماليك بوجه عام أن الوجود المسيحى الفعال في المجتمع كان يسمح لأثرياء المسيحيين بالتباهى بمظاهر العز والرفاهية أمام عيون غالبية الشعب الذين كانوا يعانون من الفقر الشديد والظلم الاجتماعى والاقتصادى وغياب العدالة الاجتماعية، وقد ربط الشعب الفقير معاناته مع تقلد المسيحيين وظائف عليا من ناحية وثرائهم من الناحية الأخرى، وكانوا يظنون أن بعض المسيحيين النافذين لدى الدولة- وهذا حقيقي-يستغلون مناصبهمللإضرار بعامة الناس لصالح السلطان وتكوين ثروات خاصة لأنفسهم، وإن كان هذا يحدث من مسلمين ومسيحيين إلا أنه عندما اكتشف السلطان محمد بن قلاوون أن- النشو-وكان جامعًا للضرائب بكل انواعها أثقل كاهل الناس من جميع الطبقات والفئات لصالح السلطان ولصالحه هو وأسرته صادر أملاكهم لكنه لم يعيد الثروات التي اكتسبها للناس كالعادة. أما المجال الثقافي والعلمى (38) وهو المجال الذي تبدع فيه الأقليات دائمًا، فقد تأكد الوجود الاجتماعى المسيحى فيه، فقد اشتهر عدد كبير من المسيحيين بالتأليف ويلفت النظر أنهم كتبوا في كل المجالات تقريبا وقد وصلتنا معظم هذه الكتابات، وكانت أعمالهم تدور غالبا حول الموضوعات والاهتمامات ذات الطبيعة الدينية والكهنوتية أو تاريخ الكنيسة لكن هناك أيضا من كتبوا في التاريخ والشعر نذكر منهم الصفى أبا الفضائل الأمجد بن العسال وإخوته (مؤتمن الدولة أبا إسحق والأسعد أبا الفرج هبة الله) كذلك اشتهر ابن الدميرى الذي ألف كتابا في أصول اللغة القبطية وكان من أشهر المؤرخين المسيحيين ابن العميد الذي كتب التاريخ المعروف باسمه والذي يعد من أهم المصادر التاريخية في تاريخ مصر وأيضا المؤرخ مفضل بن أبى الفضائل ليكون استمرارا لتاريخ بن العميد.و غيرهم الكثير، ونتيجة لكل ذلك تحول كثير من المسيحيين إلى الإسلام في الفترة ما بين عام 1150 م حتى نهاية عصر المماليك في القرن السادس عشر حيث وصل عدد المسيحيين العرب إلى 7% من سكان المنطقة.