فى فيلم «للرجال فقط» الذى أنتج عام 1964 قررت نادية لطفى وسعاد حسنى تحدى قواعد المجتمع، والالتحاق بمهنة مخصصة للرجال لإثبات جدارتهن بالعمل فيها وهى العمل كمهندستين للبترول فى الصحراء، وبعد أكثر من 50 عامًا لا تزال السيدات فى مصر يسلكن نفس المنهج فى مواجهة شعار مهن «للرجال فقط». بعضهن أجبرتهن ظروف المجتمع على العمل، والبعض الآخر أحببن مهنة معينة دون غيرها وشجعهن من حولهن على استكمال الطريق، رغم كل المعوقات، هذه فتاة صعيدية تصر على العمل فى الميكانيكا لتصليح إطارات السيارات وترفض الزواج ممن يشترط عليها ترك المهنة، وتلك سيدة ستينية امتهنت أعمال السباكة، وثالثة احترفت لعبة كرة القدم. «البوابة» تحدثت إليهن، سمعت حكاياتهن، كيف واجهن المجتمع وكيف نجحن فى الوصول لما يردن، والتغلب على مضايقات الواقع، فتعرفت على تفاصيل تستحق أن تروى ونتعرف عليها فى السطور التالية. فتاة رقيقة بدرجة «رأس حربة» «فريدة».. أول محترفة مصرية فى كرة القدم تمسك الكرة بين يديها، تتأملها كما لو كانت بلورة سحرية ترى من خلالها حياتها، تلقيها على الأرض وتبدأ فى اللعب، تحرك قدميها يمينًا ويسارًا بسرعة وخفة وتستجيب لها الساحرة المستديرة، ترفعها لأعلى ثم تصوبها تجاه المرمى وتحرز هدفًا، تتعالى الهتافات والضحكات، وتضحك هى لإحرازها هدفًا فى مشوار حياتها الطويل، فريدة سالم لاعبة كرة القدم المصرية المحترفة فى كندا تروى لنا حكايتها مع كرة القدم. كانت الفتاة تبلغ من العمر 11 عامًا عندما جذبتها الكرة للمرة الأولى، تقول «فريدة»: «كنا نلعب فى المدرسة، البنات يلعبن كرة سلة، والبنين كرة قدم، فقلت ليه مجربش القدم ولعبت مع الأولاد»، مشاركة الأولاد فى المدرسة كانت الخطوة الأولى التى غيرت حياتى للأبد. على الرغم من ممارسة فريدة لرياضات مختلفة مثل كرة السلة والسباحة والتنس والأسكواش، إلا أنها اختارت احتراف كرة القدم ولعبها بشكل أساسى، تحكى «فريدة»: «كرة القدم هى الرياضة الوحيدة اللى شدتنى جدا، ولاقيت نفسى بتابع المباريات وأنتظر يوم التدريب، وجميع من حولى قالوا لى إنى موهوبة، فقررت الاستمرار». «للرجال فقط» شعار ترفعه أغلب الأندية، فلم تجد «فريدة» سوى أكاديمية نادى الجزيرة لتعلم كرة القدم بشكل محترف، لتصبح هى الفتاة الوحيدة بين عدد من الأولاد لم يستوعبوا الأمر فى البداية. «هنلاعبها إزاى يا كابتن؟!» كان زملائى يقولونها للمدرب وهم مستغربون أنى ألعب معهم، وكانت أغلب الإصابات من نصيبي بسبب تحديهم. اختارت «فريدة» مركز رأس الحربة، ومع كل هدف تشعر أنه علامة لتكمل رحلتها مع كرة القدم، بعد الانتهاء من الأكاديمية لعبت «فريدة» مع نادى وادى دجلة، ثم نادى المعادى الرياضى، وفى خلال هذه الأوقات كادت أن تبتعد عن حلمها ثلاث مرات وتتركه للأبد، تقول فريدة، «عندما كان عمرى 16 سنة أصبت إصابة كبيرة تطلب علاجها 9 شهور، كنت صغيرة وخائفة، وجميع من حولى نصحنى بترك الكرة، والتركيز فى الدراسة، وبسبب إصابتى بدأت أوافق على نصيحتهم وأعتبر الكرة هواية. تضيف فريدة، بعد شفائى لعبت الكرة بشكل ودى مع زملائى، لأصاب فى قدمى الأخرى، ووقتها شعرت بأنها علامة وأنه يجب أن أركز فى دراستى وأترك الكرة. وفى الجامعة وجدت نفسى أشترك مرة أخرى فى فريق الجامعة الأمريكية، وأفوز ببطولة الجامعة ليعود حلم لعب الكرة يراودنى من جديد. عادت «فريدة» لكرة القدم، وعاد إليها نظام حياتها، مواعيد للاستيقاظ، وأخرى للجيم والتمارين، نظام أكل محدد لتحافظ على وزنها. احترفت «فريدة» فى نادٍ لكرة القدم فى كندا وصعدت معه من دورى الدرجة الثالثة لدورى الدرجة الثانية، تقول «تجربة الاحتراف كانت خطوة مهمة جدا بالنسبة لى، وأتمنى اللعب فى دورى الدرجة الأولى، والله أعلم أين سألعب فى العام القادم، فما زالت صفقات الموسم لم تنته». إلى جانب اللعب اتجهت «فريدة» للتدريب فترة من عمرها، تقول: «كنت صغيرة، وفكرت أن أنقل خبرتى لبنات غيرى لأكون فريقًا منهم وألعب معهم». أمام الحاسوب تجلس الفتاة المصرية تشاهد مباريات الدورى الأمريكى للفتيات وتتابع حركات لاعبتها المفضلة أليكس مورجان، تقول «فريدة»: «بحبها لأنها تلعب فى نفس مركزى ومهتمة بنفسها جوه وبره الملعب وتكتب كمان، وأنا أكتب عن كل حاجة قابلتها فى حياتى، وهى مثلى الأعلى»، تناضل اللاعبة الأمريكية من أجل حقوق الفتيات فى لعب كرة القدم وتتابعها «فريدة» بشغف وحب. تضيف فريدة، «أليكس واحدة من بين لاعبات رفعن قضية ضد اتحاد الكرة الأمريكى، لأن رواتبهن فى منتخب الفتيات ليست مثل رواتب الرجال، وهذا ما يجعلنى أشعر أن حقوق البنات فى اللعب تحتاج لنناضل من أجلها فى العالم كله مش بس فى مصر». تعليقات كثيرة سمعتها «فريدة» ما بين الإيجابى والسلبى، شجعها البعض وأحبطها الآخر، ولكنها فى النهاية كانت تأخذ قرارها باستكمال مشوارها. تقول فريدة، «أكثر كلمة كانت تضايقنى وأنا صغيرة لما ألعب مع أولاد وأحرز هدفًا يقولوا إزاى بنت تعمل كدة، ويأخذوا الأمر بشكل شخصى». تضيف فريدة، البعض كان يقول لى «أنتِ فاكرة أنك هتوصلى لحاجة باللى بتعمليه ده؟» تقول فأرد ضاحكة: «أنا مش ورايا حاجة، هكمل يمكن أوصل»، ولكن التعليقات الإيجابية كانت حافزًا لها لاستكمال مشوار حياتها، «ناس كتير بتقولى إحنا فخورين بيكِ، وبنات صغيرين يرسلن لى رسائل يقلن فيها عايزين نبقى زيك ويسألنني عملتِ إيه ووصلتِ لده إزاى، وده يشجعنى أكمل». داخل الملعب «وحش» كما تطلق على نفسها، أما خارجه فهى فتاة رقيقة لم تؤثر الرياضة «الرجالى» - كما يراها البعض- عليها فى شيء، تقول «فريدة»: «أنا عمرى ما هقابل أصحابى بره الملعب وأقولهم يلا يا وحوش، أنا جوه الملعب حاجة وبره حاجة تانى». طموح «فريدة» لا يتوقف، فهى تحلم بإنشاء أكاديمية لتعليم كرة القدم للبنات، وتطالب «فريدة» وزارة الشباب والرياضة بالاهتمام بالبنات فى جميع الرياضات، قائلة «كل الألعاب الرياضية فى مصر فيها اهتمام أكثر بالأولاد، رغم أن العالم الآن يتجه للمساواة، لأن البنات يحققن بطولات وعلى نفس المستوى». صعيدية رفضت الزواج ممن طالبوها بترك المهنة «المشمهندسة لقاء»..الصبح «أسطى» وبالليل «بنوتة» تجلس الفتاة على ركبتيها ممسكة بأدوات الميكانيكا، تخلع عجلة السيارة وتركب أخرى بحرفية وإتقان، تتأكد أن كل شيء على ما يرام، وأن السيارة سوف تسير دون مشاكل ثم تنادى على الزبون ليطمئن بنفسه، لقاء الخولى أسطى ميكانيكا السيارات التى لم تترك حلمها. بداية لقاء مع مهنة الميكانيكى ترجع لتسع سنوات مضت، عندما كان عمرها 11 عامًا، قررت وقتها أن تذهب مع والدها فى الإجازة الصيفية إلى ورشته لتساعده وتشغل وقت فراغها، وتحكى «لقاء»: «مكنش فى بالى وقتها فلوس ولا شهرة ولا أن الناس هتعرفنى بعد كده بسبب شغلى، أنا كنت فاضية وقلت حاجة مفيدة أقضى بيها وقت إجازتى». الفتاة الصعيدية ابنة محافظة الأقصر هى الابنة الصغرى لأسرتها من بين ثلاث بنات، شجعهن الأب على امتهان ما يرغبن، تتذكر «لقاء» المرة الأولى التى ذهبت بها إلى الورشة كأنها كانت بالأمس، فبحسب قولها: «أنا مقلتش لبابا أنى جاية معاك، أختى الأكبر منى كانت بتساعده فى إجازتها ولما دخلت ثانوى ركزت فى الدراسة والجامعة، فأنا أول ما أخدت الإجازة نزلت مع بابا وقفت جنبه وبقيت أساعده من غير ما يطلب وهو معترضش لأن ده الطبيعى»، لاحظ والدها اهتمامها بالميكانيكا بشكل خاص وحبها لها، فقرر أن يكسبها مهارات إضافية، «لما بابا شافنى مهتمة بالشغل بقى يعلمنى أفك العجل، أربط حاجة، كل يوم يعلمنى حاجة جديدة، وينادينى يقولى اعملى ده، لحد ما بقيت أسطى فى المهنة» تحكى «لقاء» التى تشارك والدها كل ليلة بعد رجوعهما من الورشة الحديث عن تفاصيل السيارات وأصول الميكانيكا وحكاياتها. قبل التحاقها بالمدرسة الثانوية التجارية تمنت «لقاء» أن تلتحق بقسم الميكانيكا فى التعليم الصناعى، ولكنها فوجئت بأنه مخصص للذكور فقط، فدرست التجارة وأكملت حياتها فى المهنة التى أحبتها، ولكنها أصرت على صقل موهبتها وهوايتها بالدراسة فى عدة مراكز للتدريب، وكانت دائما الفتاة الوحيدة بين المتدربين، تحكى «لقاء»: «كانوا بيعاملونى حلو جدا وبيهتموا بيا أكتر وفخورين بيا»، أما عن معاملة الزبائن لها فتقول: «محدش ضايقنى من الزباين قبل كده، بالعكس هما بيبقوا مستغربين إزاى أنا قادرة أعمل كل ده، بيعرضوا يساعدونى مثلا فى فك العجل وفاكرين أنى ضعيفة وبيتبسطوا لما يلاقونى شاطرة وبخلص الشغل وفيه ناس بقت تيجى الورشة عشانى بالاسم». فى الصباح ترتدى الفتاة «العفريتة» كما يطلق عليها وتذهب للورشة، تمسك بأدواتها والشحم يغرق ملابسها ووجهها، تمارس عملها بمنتهى الحرفية ولا تنظر لشكلها، أما فى المساء فالأمر مختلف تقول «لقاء»: «فيه ناس بتشوفنى فى الشارع بليل متعرفنيش، الشغل لم يؤثر عليا فى أى حاجة أنا لسه بنت ومش بتصرف زى الرجالة ولبسى فى الشغل غير بره، وده طبيعى فى أى مجال مش بس الميكانيكا». ترفض «لقاء» أن تتخلى عن مهنتها المحببة حتى من أجل الزواج، «اتقدم لى عرسان كتير أى واحد قالى أسيب الشغل رفضته من قبل أى تفكير» تحكى «لقاء» وتستكمل: «أنا بقالى 9 سنين فى الشغلانة دى، مينفعش أرميهم على الأرض فى لحظة، هستمر فيها للأبد إن شاء الله». تحلم «المشمهندسة لقاء» كما كتبت عن نفسها على موقع التواصل الاجتماعى «فيسبوك» أن تمتلك مركز صيانة لتدريب الفتيات، تقول «لقاء»: «طبعا هنعلم ولاد وبنات، بس هنركز أكتر على تعليم البنات وهما هيبقوا مطمنين أن معاهم واحدة مش راجل، فيه بنات كتير بيحبوا العربيات وفاهمين فيها أكتر منى بيبعتولى على النت، بس مش لاقيين فرصتهم لأن الأهل مش هيوافقوا ينزلوهم ورشة غريبة، فأنا نفسى أعمل المركز ده وأدى كل بنت فرصتها فى أنها تعمل الحاجة اللى بتحبها»، تعليقات كثيرة تسعد «الأسطى» وتشجعها على استكمال ما بدأته، «فيه بنات بتبعتلى رسائل تقولى واخداكى قدوة، أو ولد يقولى أنتِ قدرتى تعملى اللى أنا مقدرتش أعمله لأن أهلى موافقوش أكمل فى الميكانيكا، وده بيشجعنى أكمل وبشجعهم أنهم يعملوا اللى بيحبوه». حصلت على لقب الأم المثالية «أم حسن»..ماسحة أحذية الموظفين حاملة صندوقها الخشبى فوق ظهرها، تسير «أم حسن» حتى تصل إلى مكانها المعتاد لتجلس به كل صباح، تخرج «العدة» وتضعها بعناية فوق الصندوق، «علبة الورنيش، الفرشاة، قماشة بالية» أدوات رافقت آمال حسن منذ أكثر من 15 عامًا لتصنع منها «ماسحة أحذية». يفاجأ بها من يراها للمرة الأولى، وربما يخجل من أن يرفع قدمه فى وجهها، ولكن «أم حسن» تحدت نظرات المجتمع وتقاليده واختارت عملها، تحكى السيدة الخمسينية: «أتجوزت وأنا صغيرة وخلفت 5 عيال وجوزى كان بيصرف علينا، ومفيش أى مشاكل، لحد ما مات وسابنى فجأة أنا والعيال وكان لازم ألاقى مصدر رزق لينا»، فكرت «أم حسن» فى عمل تشغل به وقتها واهتداها تفكيرها أخيرًا لمسح الأحذية عندما نظرت من شرفة منزلها ووجدت رجلا يعمل بهذه المهنة، «كنت عارفة إنها شغلانة رجالة بس قلت هقدر أعملها، روحت لجارتى وقالتلها عايزة 50 جنيه سلف، ونزلت اشتريت الصندوق والعدة من رمسيس، وقررت أمسح الجزم عشان أربى عيالي». فى البداية، لم تعرف أصول المهنة وتقسيم المناطق بين العاملين بها فذهبت إلى منطقة «ناهيا» ليطردها العاملون هناك، «كان أول موقف أتعرضله أول ما أشتغلت قالولى إنتى جاية تزاحمينا فى أكل عيشنا كمان». تحكى «أم حسن» التى حملت صندوقها وذهبت إلى منطقة «أرض اللواء» لتستمر فى العمل هناك، مواقف أخرى كثيرة لاحقت ذلك فبحسب قولها: «مقابلة الناس أول ما اشتغلت كانت صعبة، فيهم اللى بيتريق وفيهم اللى بيتصعب عليا، بس بعد كدة اتعودوا على وجودي». خمسة أبناء ربتهم «أم حسن» والتحقوا بكليات القمة، تحكى «ماسحة الأحذية»: «ولادى اتعلموا أحسن تعليم، دخلوا هندسة وطب وسياسة واقتصاد، وآخر ولد فى ثانوى لسة، وبتمنى أشوفهم فى أحسن حال»، لم يعترض أحدهم على عمل والدته، فالصندوق الخشبى هو سر حياتهم، ترفض «آمال» أن تتحول قصتها إلى قصة بكائية ولكنها تراها قصة كفاح ونجاح، «أنا مابحبش النكد بحب التفاؤل ولما الناس تشوفنى تعرف إنى وصلت للى عايزاه بالصندوق ده». بعد التحاق أبنائها بالجامعة قررت «أم حسن» أن تلحق بهم فتقدمت للالتحاق بالتعليم المفتوح، فبحسب قولها: «أنا واخدة دبلوم تجارة، قلت ليه مدخلش الجامعة وأكمل تعليمى أنا كمان» تحكى «ماسحة الأحذية» التى تدرس الآن بالفرقة الثالثة بكلية الخدمة الاجتماعية جامعة حلوان، وتتمنى أن تستكمل تعليمها حتى تحصل على درجة الدكتوراة، «ناوية بعد ما أخلص آخد الماجيستر والدكتوراة كمان، مفيش حاجة صعبة» تقول «أم حسن» التى لاقت بعض الصعوبات فى بداية الدراسة، «أنا كنت مخلصة دبلوم من بدرى وده دبلوم تجارة يعنى مش مذاكرة، أول ماشفت كتب الجامعة وقريتها حسيت إنها صعبة، بس قررت إنى أحاول وأذاكر وأدينى بمتحن وأنجح أهو». كرمت المحافظة «أم حسن» ومنحتها لقب «الأم المثالية»، ويفخر بها أبناؤها وجيرانها.