سأستعير عنوانى من مقال سابق ل«د. محمد الباز» بعنوان تاجر العسل، عن طه السماوى، الذى كان أستاذًا لخالد الإسلامبولى، وسببًا فى انتمائه لتنظيم الجهاد، ومن ثم اغتياله للسادات. لم يؤثر طه السماوى فى خالد الإسلامبولى فقط، بل أثر على جيل كامل، وأنا شخصيًا ما رأيت شخصًا كان له تأثير على شباب الجماعات الدينية من حوله بقدر تأثيره، لكنه تأثير على البسطاء، ومنعدمى الثقافة الدينية، والمتحمسين من الشباب، حيث كان يأخذهم بتواضعه، وجزالة ألفاظه، ولغته العربية الفصحى التى يصر على التحدث بها. كان السماوى يصر على التفرد بلبس جلباب قصير، فى أعلاه جيبان، وعلى رأسه ذؤابة يتدلى نصفها على ظهره من الخلف، وفى الفترة من 74 وحتى 84 كان هو المنبع والأساس والشيخ لكل الجماعات الدينية، تكفيرية أو مسلحة، ولعل الجماهير المصرية لا تزال تذكر برنامج ندوات للرأى، الذى كان يعرض النقاشات التى تجرى فى السجون، عقب مقتل السادات، مع قادة الجماعات الإسلامية، وكان هو من يتصدى لعلماء الأزهر، وفى مرة حين عجز عن الرد، قال «لقد ضحكتم علىّ.. وجئتم بى إلى هنا لتستهزئوا بى». طه أحمد السيد، هو طه السماوى، لكنه غير اسمه فى السجن ليصبح عبدالله السماوى، ولد عام 1946 ببلدة درنكة، بمحافظة أسيوط فى صعيد مصر، وانتقل مع أسرته للحياة فى القاهرة، واستقر به المقام فى منطقة عابدين، وعمل فيها تاجرًا للعسل. كان آخر مرة أرى فيها السماوى عام 2006 فى أحد المساجد بمنطقة عابدين، كان يخطب الجمعة، وهو جالس على المنبر، بعد أن أخذت السمنة منه مأخذها، وبلغ المرض منه منتهاه. وما زلت أذكر فى مرة، حين جاء إلى قريتنا بصحبة عبدالرحمن محمد لطفى، ابن خالة خالد الإسلامبولى، وأمير جماعة السماوى بالمنيا، ليحصل على بيعة عدد من الشباب للعمل فى جماعته، كان يتحدث اللغة العربية بطلاقة، ولف ودار، لكى يثبت أن الجماعة مثل الشجرة، وأنها بغير أمير، فسيصبح كل عمل هباءً منثورًا، فقلت له: إن هؤلاء الشباب أغلبهم من عناصر الجماعة الإسلامية، فرد بغضب: إن خالد الإسلامبولى تلميذى، وناجح إبراهيم تلميذى، وكرم زهدى تلميذى، كلهم تلاميذى، أنا من ربيت هؤلاء لكنهم خانونى وغدروا بى ونقضوا بيعتى. السماوى كان يؤمن أن البيعة شرط من شروط الانضمام لجماعته، وكان يعتبرها واجبًا شرعيًا، وناقضها فاسق منافق، لا تجوز الصلاة خلفه، لذا ففى يوم أمّ الصلاة بمسجد التوبة بالمنيا القيادى جمال علم الدين، فشده أبوالسمح عبدالرحمن محمد لطفى، ومنعه من إكمال الصلاة، لأنه ترك الجماعة وانشق، فاشتعلت المعركة، التى على أثرها انصرف المصلون ولم يتم استكمال الصلاة. من حسن حظى أننى قابلت عددًا من أتباع عبدالله السماوى، إذ كان مركز جماعته الرئيسي، هو زاوية صغيرة على الترعة الإبراهيمية، قبل عام 81، أطلق عليها مسجد «الغر المحجلين»، كان يعطى الدروس فى هذه الزاوية، وكان فى هذه الفترة يحرم التعليم، ويحرم العمل فى البنوك، وقابلت أحد أتباعه، وكان طالبًا بالطب، وقد تسبب الرجل فى عدم إكمال تعليمه بكلية الطب، وهو الآن يعمل فى ورشة للنجارة، وآخر يعمل بائعًا للعسل، وآخر عمل بسوق الخضار، واستقر المقام به أخيرًا فى مدينة 6 أكتوبر، يبيع الطماطم فى محل خاص به. قال لى عضو من أتباعه «ج. ع. ا» إن السماوى كلفه أن يكون أميرًا للبذل، فقلت له وما البذل؟ قال أى جمع اشتراكات شهرية من الأعضاء تبذل فى سبيل الله، كنا نجمعها ونقدمها للشيخ طه «عبدالله» السماوى، وكان هو كلما جلس مع أحد طلب بيعته، وحينما يبايعه نسجل اسمه فى كشكول، وفى النهاية يأخذ الشيخ الكشكول، وتأتى الشرطة لتأخذه وتسجن كل هؤلاء بسهولة.. ولذا فقد أضاع مستقبل المئات. أخبرنى آخر، «م.ن» أن السماوى دعاهم فجأة قبل اغتيال السادات، أن يهجروا بيوتهم، ويذهبوا إلى أرض الصالحية، ليستصلحوها ويعيشوا فيها، من أجل أن يشكلوا مجتمعًا بعد ذلك للمؤمنين، يغير على الدولة الجاهلية، ويقيم دولة الإسلام. إنها نفس أفكار شكرى مصطفى، الحكم بجاهلية المجتمع، والهجرة منه إلى أرض فلاة نقية، فالسماوى كان رفيق مؤسس التكفير فى ليمان طرة، والقصة من بدايتها، أن طه فشل فى الحصول على الثانوية العامة، ولم يكمل دراسته الجامعية، إذ اعتقل عن عمر لا يتجاوز 15 عامًا، وبعدها بحوالى 4 سنوات اعتقل مجددًا فى عام 1966، واتهم بالانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين، وظل معتقلًا لمدة خمس سنوات، وتفسيرى أنه كان يحرم التعليم بسبب هذا الأمر. التقى السماوى خلال تلك الفترة بقيادات من الإخوان، منهم محمد قطب شقيق سيد قطب، وحسن الهضيبي، ومصطفى مشهور، وكان يجلس دائمًا إلى شكرى مصطفى، بسبب سنهما الصغيرة المتقاربة. فى هذه الآونة، وقع أمر دفع شكرى والسماوى أن يبغضا جماعة الإخوان المسلمين، وهو أن عبدالناصر استطاع أن يضحك على الإخوان، ويقول لهم إنه كان سيفرج عنهم، لولا أن سيد قطب قام بعمل تنظيم لقلب نظام الحكم، ولما حكم على قطب بالإعدام، وتم تنفيذ الحكم فيه كَبّر عناصر الجماعة، وأخذوا يهتفون، فانقلب السماوى وكانت هى البداية التى أعلن فيها من السجن انشقاقه عليهم. تأثر السماوى بالشيخ على عبده إسماعيل، وبأفكار التوقف والتبين، ثم خرج من المعتقل وعمل فى تجارة العسل، وبدأ ينشط ويكون جماعته، وقد تولى بنفسه تثقيف أعضائها، وكان له كتابان الأول هو «الفيض السماوى لطه السماوي»، والكتاب الثانى هو «من معالم دعوتنا». كانت أهم أفكار السماوى هى: تكفير الحاكم، ووجوب الخروج عليه لإسقاط واعتبار أن مصر دار كفر لا تعلوها أحكام الإسلام، والجهاد من أجل قتال الكفار، والبغاة، لإقامة الدولة الإسلامية، واعتزل أفراد التنظيم المجتمع. كان السماوى عقب أن سيطرت الأوقاف على مسجد «الغر المحجلين»، يرفض الصلاة فى المساجد، ويعتبرها كلها مساجد ضرارًا، وأذكر أنه كان يؤم الناس للصلاة فى مسجد مساعده عبدالرحمن محمد لطفى. كان من المفترض أن يكون السماوى، هو زعيم الجماعة الإسلامية، إلا أن اعتقاله جعلهم يبحثون عن رمز غيره، ووقعوا على عمر عبدالرحمن، وعقب الإفراج عن المعتقلين فى بداية عصر حسنى مبارك، عادت الجماعة الإسلامية للعمل، وخفتت أضواء جماعة السماوى، وكان أفرادها يعدون على أصابع اليد الواحدة. حاول السماوى إعادة بناء جماعته من جديد، إلا أن تنظيمه كان قائمًا عليه وحده، وعلى تحركاته وأفكاره، وكانت سنه وصحته فى السنوات الأخيرة لا تساعدانه على ذلك، فضلًا عن أن كبار مساعديه فى الجماعة انفصلوا وانشقوا عنه، وانضم أغلبهم إلى الجماعة الإسلامية فى الصعيد. انتشر باقى جماعة السماوى فى المنيا والفيوم وفى القاهرة، وفى عام 1986 اتهمت مجموعة قريبة منه بالوقوف وراء حادثة إحراق نوادى الفيديو الشهيرة، التى كانت تتم بالتوازى مع الأعمال الإرهابية التى وقعت خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى. بدءاً من عام 87 بدأ السماوى التراجع عن أغلب أفكاره، فبعدما كان يقول إنه لا توجد أحزاب فى الإسلام، وأن العمل الحزبى حرام شرعًا، وأنه لا يجوز الدخول فى العملية الانتخابية، رأيناه محاضرًا فى مؤتمرات حزب العمل، ولما سئل تحجج وقال، إن الحزب اتجه للإسلامية. لقد سمعته بنفسى فى مؤتمر لحزب العمل بالمنيا، كان إبراهيم شكرى ومجدى حسين ضيفين فيه.. جلس السماوى على يمين المنصة، وبشير محمد كمال، القيادى فى الجماعة الإسلامية على الشمال «قتل فيما بعد»، وزعيم الإخوان مصطفى ضاهر، بجواره. مصطفى ضاهر هاجم بشير، وبشير دافع عن عمر عبدالرحمن، أما السماوى فانتقد الاثنين، وتحدث عن وجوب الوحدة بين الفتى والشيخ. رفض السماوى مراجعات الجماعة الفكرية، وقال: هذه المراجعات باطلة لا يعتد بها، فمراجعة الأفكار تكون من شخص حر طليق، وليست من شخص مسجون، فمثل هذا الشخص لا يعتد بما ينسب إليه من مراجعات حتى وإن أخرجوه من السجن، والمراجعات تعنى أن هناك عقولًا تفكر، وأين العقول التى تفكر من جماهير كثيرة من فتيان الصعيد نفذوا أوامر أمرائهم دون تفكير، فإن شرق أميرهم شرقوا، وإن غرب أميرهم غربوا معه، فهم معه فى الهدى والضلال، فى الشيء ونقيضه. قضى السماوى سنوات عمره الأخيرة، تحت الإقامة الجبرية بمنزله بحى عابدين، وجرى اعتقاله عدة مرات بين الحين والآخر، كان آخرها فى نوفمبر 2007 حينما اتهم بمحاولة إحياء جماعة محظورة، وكان السماوى عضوًا فى حزب العمل المجمد، وآخر ظهور له كان فى شهر مايو من العام 2008 أثناء احتفال أقيم فى نقابة الصحفيين المصريين. السماوى كان يمثل البوابة الرئيسية للتأسيس الفكرى للتيار السلفى الجهادى المعاصر، وكان يحرم التعليم والوظائف فى الحكومة، ويحكم على المجتمع بالجاهلية، وما زال أتباعه حتى الآن يكفرون الحكومة، وبرأيى فإنه ساهم فى تأسيس جيل من جماعات التكفير ستظل تعانى منه مصر لقرن مقبل.