أتذكر هذه الحكاية كلما استمعت إلى موسيقى ميشيل المصرى وأبحث عن السر.. من أين جاء هذا الشيخ الجليل بهذه الجملة الموسيقية الساحرة.. من أين جاء هو أصلاً؟! عم ميشيل.. صاحب «الدقن البيضا».. والقلب الأبيض.. اسم على مسمي.. مصرى حتى النخاع.. صعيدى من ساسه لراسه.. مسلم ومسيحي.. قديم وجديد.. شاب وعجوز.. فيه كل صفات العيش الشمسي اللى الأيام كوته بنارها وخرج من أفرانها عشان يطعمنا «مزيكا مصرى». لم أكن أصدق أن صاحب موسيقى ليالى الحلمية.. والحاج متولي.. و«لا إله إلا الله».. وعشرات بل مئات الألحان المبهرة سيلحن لي.. آه والله.. حصل!! أنا الغلبان ميشيل المصرى لحن لي. كنت قد انتهيت من كتابة الأشعار لمسلسل تنتجه صوت القاهرة اسمه «لا شيء يهم» عن قصة لإحسان عبدالقدوس يخرجه أحمد خضر الذى أخبرنى أن عم ميشيل عايز يشوفني.. وأعطانى عنوانه فى 6 أكتوبر.. واستغربت أن ملحنا كبيرا مثله، يريد أن يرى شاعرا صغيرا مغمورا، لا يعرفه أحد.. وكان همى أنه حتما مش عاجبه الكلام وعايز يعتذر لى بذوق.. أو هيقولى غير الكلام وأنا هرفض طبعًا ويجيب حد مكاني.. الراجل طول عمره بيشتغل مع أسماء كبيرة أهمها قطعًا عمنا سيد حجاب.. اللى عمل معاه الحلمية وأولاد آدم.. وغيرهما.. المهم وجدتنى فجأة فى حضن أب مصرى شديد البساطة والرقي.. طلب منى أن أسجل الأشعار بصوتي.. وسألنى عايز مين يغني.. قلت «الحلو».. قال «بيهرب ومالوش مواعيد».. قلت.. على ضمانتي. حوالى شهر.. أتعامل مع رجل رغم إنجازه المهول.. سواء كموزع موسيقى لأهم أعمال عبدالوهاب وفايزة وفيروز وعشرات من جيل الشباب ربما لا يعرف البعض أن أعمال مدحت صالح والحجار والحلو الأولى معظمها لميشيل المصري.. أسس الكونسرفتوار فى الكويت وألف مئات من المقطوعات الموسيقية الخالصة.. له عشرون فيلمًا ويزيد.. والأهم وهو المسيحي.. له عشرات الألحان والمؤلفات فى الأعمال الدينية الإسلامية أشهرها رائعة أمينة الصاوي.. «لا إله إلا الله».. كانت تحيرنى بساطته وكأنه جزء من آلة الكمان التى يعزفها.. كأنه وترها بالتحديد. حكى لى أنه من أسيوط.. وأن عائلته نصفها من المسلمين ونصفها من المسيحيين.. وأنه حينما ذهب إلى إيطاليا ليدرس الموسيقى كان المصرى الوحيد فى المعهد، فأطلقوا عليه اسم «المصري».. وأن ميخائيل يتم تحويلها إلى ميشيل فى بعض اللغات.. ومن هنا جاء اسمه.. ومن «شبرا» استمد معظم أفكار موسيقاه.. زوجته اللبنانية - رحمها الله - منحته مساحة إنسانية أخرى فتحت له نوافذ موسيقية أكثر رحابة. هذا التكوين الإنسانى المدهش.. جعله أكثر انفتاحًا وقراءاته العميقة فى الأديان الثلاثة، فتحت ذلك السلام النفسى الهائل حتى كأنك تشعر لمجرد الجلوس إليه أنك فى حضرة الموسيقي. المهم.. عم ميشيل خلص الألحان.. والفرقة راحت عزفت.. وما عدش فاضل غير أن محمد الحلو ييجى يغني.. «المقدمة والنهاية».. كنت قد اتفقت مع عم ميشيل أنه بس يبلغنى بالموعد وأنا هتابع الحلو.. وأجيبه الاستديو.. وأننا هنتغدى ملوحة قبل التسجيل - الحلو يحب أكل الملوحة جدًا.. وهذا ما حدث.. وفى صباح يوم التسجيل اتصلت بمدام إيناس أم آدم.. زوجة الحلو.. لأتمم عليه يعنى من 10 صباحًا وأنا قاعد له.. وعلى غير عادته جاء الحلو.. وأكل الملوحة.. وأدركت أن الموضوع كله باظ.. ومش هنعرف نسجل. لكن المفاجأة أن الحلو دخل «غرفة التسجيل» بعد أن قرأ الكلام لمرة واحدة.. وكأنه سبق له حفظه وترديده عشرات المرات.. ومن مرة واحدة «يسمونها وان تيك».. كان قد انتهى من تسجيل اللحن فيما نصارع - جميع من فى الاستديو - دهشتنا من قدرته الفذة على أداء لحن صعب ومدهش كعادة ألحان ميشيل المصري. حدث ذلك عام 1997.. يعنى من عشرين سنة تقريبًا.. تغيرنا جميعًا.. وميشيل المصرى على حاله.. يقرأ.. رغم إصابته بتعب شديد فى عينيه.. ويسمع الموسيقى رغم آلام الأذن.. ويعزف رغم متاعب الأصابع.. وينتظرنا على مدخل «الحلمية».. التى تستعيد الدراما صورتها من جديد فى مسلسل جديد يحمل نفس الاسم.. ويبحث عن روحها فى موسيقى «ميشيل المصري».