قبل ساعات معدودة من حلول "سيد الشهور" استعدت وزارة الثقافة بأنشطة مميزة خلال شهر رمضان الفضيل، فيما يبدو أن المقهى الثقافي للهيئة العامة لقصور الثقافة والذي يحمل اسم "مقهى مصر المحروسة" يشكل واسطة العقد للأنشطة الثقافية الرمضانية هذا العام. فقد احتشدت الأنشطة الثقافية المزمعة والمرتقبة لهذا المقهى الثقافي الجماهيري بأسماء نجوم في الفن والأدب والسياسة والصحافة والرياضة مع قضايا وعناوين هامة ما بين بطولات حرب السادس من أكتوبر المجيدة ومسلسلات رمضان فضلا عن ليلة في حب سوريا الشقيقة ناهيك عن الإنشاد الديني والموسيقى العربية والفنون الشعبية. وإذ ترتبط المقاهي في مصر بالأمسيات الرمضانية فيما كانت الأجواء الرمضانية في أرض الكنانة وستبقى ثرية ولها مذاق مميز، فإن المقاهي تنهض بدور كبير وواضح في صنع هذا المذاق الذي لا يكاد يبارى كما يقول الكاتب الصحفي يسري السيد الذي يدير أنشطة ولقاءات "مقهى مصر المحروسة" هذا العام. ويبدو أن المقهى الثقافي الرمضاني سيتوهج أكثر بتلك التجربة التي لفتت الأنظار لأول مرة في شهر رمضان خلال العام الماضي في قلب أحد أكثر الأحياء الشعبية عراقة في قاهرة المعز وهو حي السيدة زينب وفي قلب أحد أعرق الشوارع القاهرية الشهيرة وهو شارع خيرت الواصل ما بين "المبتديان وميدان لاظوغلي". وتقيم مجلة مصر المحروسة التي تصدرها هيئة قصور الثقافة هذا المقهى الثقافي اعتبارًا من الخامس من شهر رمضان وحتى الثامن عشر من الشهر الكريم ذاته فيما تبدأ فعاليات كل ليلة رمضانية بهذا المقهى في تمام التاسعة مساء. ومن المقرر أن يفتتح المقهى الثقافي "مصر المحروسة" هذا العام وزير الثقافة حلمي النمنم بحضور الدكتور سيد خطاب رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة والفنان هيثم عبد الحفيظ رئيس الإدارة المركزية للوسائط التكنولوجية ولفيف من رموز الثقافة والإعلام والفن فيما نوه النمنم بأن "المقهى حقق نجاحًا في العام الماضي بالنزول للشارع المصري والالتحام بالجمهور" مؤكدا على دعمه لهذه التجربة الطليعية التي تقدم الثقافة والفن للناس في شوارع مصر المحروسة. وفي الاتجاه ذاته، قال الدكتور سيد خطاب إن "المقهى يتميز بالالتحام والتفاعل مع رجل الشارع ويقدم له منتجا ثقافيا متنوعا" لافتا إلى أن هذا هو الدور الحقيقي للثقافة الجماهيرية، بينما لاحظ الفنان هيثم عبد الحفيظ أن هذا المقهى "يمزج ما بين العالمين الواقعي والافتراضي من حيث التعامل مباشرة مع الجمهور والبث على شبكة الإنترنت ليجسد بذلك جوهر أداء مجلة مصر المحروسة كمجلة إلكترونية". ولعلها تجربة فريدة تلك التي أقدم عليها يسري السيد رئيس تحرير مجلة مصر المحروسة التي تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة عندما قرر تدشين مقهى يحمل اسم "مصر المحروسة" في منطقة السيدة زينب بكل عبقها الرمضاني القاهري وتحويله إلى حيز إبداعي للأنشطة الثقافية والفنية في ليالي شهر رمضان. وأكد يسري السيد لوكالة أنباء الشرق الأوسط أن برنامج المقهى هذا العام متنوع ما بين الشعر والمسرح والسينما والإنشاد الديني إلى جانب عناوين تتعلق بقضايا ومواضيع سياسية وصحفية ورياضية واصفا هذه التجربة "بالمهمة" فيما أعاد للأذهان أن مقهى مصر المحروسة في رمضان الماضي وان كان قد بدأ في حي السيدة زينب قد انتقل بفعالياته الثقافية لمناطق وأحياء شعبية أخرى كالمطرية وشارع المعز وبهتيم والعمرانية. وأضاف يسري السيد - الذي ينتمي أصلا للصحافة الثقافية المصرية ويعد من فرسانها في جريدة الجمهورية - أن فعاليات هذا المقهى الثقافي تسجل وتبث على شبكة الإنترنت "لتنقل إلى العالم نبض الشارع المصري واهتمامه بالثقافة وذلك على عكس ما يشاع عنه وما يتردد من مزاعم حول هجرانه للاهتمامات الثقافية. وإذ تأتي هذه التجربة الثقافية الرمضانية للهيئة العامة لقصور الثقافة إحياء لتقاليد مصرية عريقة يعيد يسري السيد للأذهان أن المقهى كان ركيزة أساسية من ركائز الحياة الثقافية والاجتماعية على امتداد مصر المحروسة فيما يحتفل مقهى مصر المحروسة بانتصارات حرب السادس من أكتوبر بأمسية يوم العاشر من رمضان. ومن ضيوف مقهى مصر المحروسة هذا العام الكاتب الروائي والصحفي والنائب البرلماني يوسف القعيد فيما تتضمن قائمة الضيوف العديد من الأسماء المهمة في عالم الصحافة والإعلام وحتى المراسلين العرب والأجانب في القاهرة مثل فور هاليد مدير مكتب "دير شبيجل" الألمانية. ومن المقرر أن تشهد سهير المرشدي لقاء بالمقهى حول قضايا وآفاق مسرح الثقافة الجماهيرية جنبا إلى جنب مع الدكتور سيد خطاب والفنانة نادية رشاد والناقد عمرو دوارة، بينما يلتقي عشاق الشعر والغناء كل ليلة من ليالي مصر المحروسة مع باقة من الشعراء والمطربين مثل زين العابدين فؤاد ويسري حسان ومسعود شومان وطاهر البرنبالي والمطربة عزة بلبع إلى جانب عروض فرق وزارة الثقافة للآلات الشعبية والموسيقى العربية. وفيما يشهد مساء الرابع عشر من رمضان لقاء بعنوان "بين الأدب والدراما" بحضور المخرجة انعام محمد على والكاتب محمد السيد عيد قد يوميء هذا المقهى الثقافي الرمضاني لأهمية توثيق الأدوار الثقافية والأدبية للمقاهي في ارض الكنانة استكمالا لجهود ثقافية وإصدارات على هذا المضمار مثل كتاب "القهوة والأدب" لعبد المعطي المسيري، وبعد عشرات الأعوام من هذا الكتاب لهذا الكاتب المصري ها هي الكاتبة السورية المقيمة في فرنسا هدى الزين تصدر كتابا بعنوان:"المقاهي الأدبية في باريس.. حكايات وتاريخ". فهناك مقاهي مصرية لها أيضا حكايات وتاريخ وبحاجة لمثل هذا الكتاب الذي صدر مؤخرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ليتناول ظاهرة المقاهي الأدبية التي عرفتها باريس وغيرها من العواصم وكبريات المدن الأوروبية منذ القرن الثامن عشر فيما أمست هذه المقاهي أماكن مفضلة لبعض المفكرين والأدباء والفنانين. ولئن اختار يسري السيد الاسم الدال "مصر المحروسة" لهذا المقهى الثقافي الرمضاني فمن الذي ينسى أسماء مقاهي مصرية نهضت بأدوار ثقافية وأدبية مثل "متاتيا و"الفيشاوي" و"ايزافيتش" و"وريش" و"على بابا" و"عبدالله" و"بترو" و"المسيري" و"زهرة البستان". وللراحل عبد المعطي المسيري صاحب مقهى "المسيري" وهو المقهى الذي لعب دورا ثقافيا بالغ الأهمية في القرن الماضي بدمنهور عاصمة محافظة البحيرة كتاب بعنوان "في القهوة والأدب" كتب مقدمته عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين وكان لهذا المقهى دوره الكبير في اكتشاف مواهب أدبية قدمت الكثير فيما بعد للثقافة المصرية والعربية مثل أمين يوسف غراب ومحمد عبد الحليم عبد الله وخيري شلبي. وكما اشتهرت بعض المقاهي الباريسية وذاع صيتها بفضل أسماء روادها من كبار المثقفين ونجوم الإبداع مثل جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار وجيوم ابولينير الذي ارتبط بمقهى فلوار في منطقة سان جيرمان، فإن مقاهي قاهرية اشتهرت وذاع صيتها بفضل مثقفين ومبدعين في قامة النوبلي نجيب محفوظ والمفكر العملاق عباس محمود العقاد والكاتب الفنان توفيق الحكيم وسيد القصة القصيرة يوسف إدريس والساخر النبيل محمود السعدني. بل أن هناك من المقاهي المصرية ما كان ساحة ومنتدى لرواد مؤسسين وآباء ثقافيين مثل جمال الدين الأفغاني وعبد الله النديم ومحمد عبده ومحمود سامي البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وعبد العزيز البشري وبما يبرهن على صحة مقولة أن المقاهي من أكثر الأماكن ودا وتعاطفا مع المثقفين كما أنها شاهد أصيل على التحولات الاجتماعية والسياسية. ولم يغفل يسري السيد وهو يواصل للعام الثاني على التوالي تجربته الثقافية في مقهى مصر المحروسة حقيقة جلية وهي أن المقاهي تمثل أحد أبرز ملامح المدنية الحديثة في مصر منذ القرن التاسع عشر، وأنها نهضت بدور كبير في تشجيع التفاعل في المجال العام وتبادل الآراء والأفكار وبناء الصداقات وتوثيق عرى الود بين رواد تلك المقاهي التي كان بعضها بالفعل مراكز لإنتاج الأفكار وإطلاق مبادرات ثقافية بناءة. وواقع الحال أن وزارة الثقافة جديرة بالثناء لتشجيع مثل هذه التجارب الثقافية غير التقليدية بعد أن حققت تجربة مقهى مصر المحروسة في العام الماضي نجاحات لافتة في أمسياتها الرمضانية الجامعة ما بين الشعر والرواية ومناقشة الكتب الجديدة والعروض الفنية والأغاني. وهذا العام يحتفي مقهى مصر المحروسة بالمرأة المصرية وأحلاهما المحلقة بلقاء مع فتيات مصريات يقدن طائرات كما يحتفي بشعب سوريا الشقيقة مساء يوم السادس عشر من رمضان "بليلة في حب سوريا" فضلا عن الاحتفاء بفن الكاريكاتير باستضافة لفيف من الأسماء المهمة في هذا الفن بمصر. وكذلك يجد عشاق الرياضة وخاصة كرة القدم حيزا في المقهى مساء السابع من رمضان في لقاء بعنوان:"الكرة رياضة أم صناعة" ؟ وهو لقاء يحضره الناقد الرياضي محمود معروف واللاعب المعتزل ربيع ياسين والمعلق خالد لطيف. وهذا المقهى الثقافي الذي يبدأ أمسياته الرمضانية يوم الخامس من الشهر الفضيل يقدم نموذجا إيجابيا للعمل الثقافي الجماهيري والشعر والغناء وسط الناس ومن أجل الشعب ووفاء لحقيقة أن المقاهي الثقافية مساحات للإبداع وتأسيس المعارف وتشكيل العقول وتشجيع التواصل بين الأجيال. وهكذا استدعت تلك التجربة لمقهى مصر المحروسة كثيرا من الذكريات عن مقاهي مصرية كانت فضاء للشعر والقصة والموسيقى والغناء وحتى الفلسفة والفن التشكيلي أحيانًا، فيما كانت بعض هذه المقاهي محلا مختارا لسادة الحكي ومنتجي الأفكار. ولئن ذهبت هدى الزين في كتابها الجديد إلى أنه لا يوجد كاتب عاش في باريس أو أقام فيها ردحا من الزمن لم يكتب عملا أدبيا من أعماله في المقهى، معيدة للأذهان أن سيمون دي بوفوار كانت تكتب أعمالها في مقهى سيليكيت بحي المونبارناس، وأرنست هيمنجواي كتب قصصه القصيرة في مقهى غلوسري دي ليلا، فإن المقاهي المصرية عرفت تلك الظاهرة أيضًا على نحو أو آخر كما يتجلى مثلا في حالتي الكاتبين الراحلين سليمان فياض وخيري شلبي اللذين كتبا الكثير من أعمالهما الابداعية في المقاهي. والأديب المبدع توفيق الحكيم كتب أجزاء من بعض أعماله مثل "أهل الكهف" و"يوميات نائب في الأرياف" بركن محبب لنفسه في مقهى المسيري بدمنهور، فيما قال الأديب الكبير يحيي حقي عن مقهى المسيري:"ذلك المثقف أو الأديب الذي يفكر في زيارة مدينة التاريخ القديم والتجار الشطار لكي يتعرف إلى صور الحياة وعادات الناس هناك لابد من أن يجلس على رصيف مقهى المسيري الذي يمثل ظاهرة مهمة عند أبناء المدينة المثقفين والأدباء والزجالين". وكان مقهى "بترو" في الإسكندرية يتحول لمنتدى ثقافي في اشهر الصيف، ورواده هم كبار أدباء مصر وفي مقدمتهم نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وثروت أباظة وعبد الرحمن الشرقاوي وعبد الحميد جودة السحار وحسين فوزي. وفيما تترقب الحياة الثقافية المصرية بدء الأنشطة الثقافية الرمضانية في مقهى مصر المحروسة فإن جوهر التجربة الطليعية يتمثل في ذلك التواصل المباشر بين العديد من المثقفين البارزين والكتاب والفنانين والشعراء المميزين مع رواد المقهى الرمضاني من الجماهير العريضة. فالمقاهي تشكل فضاء طبيعيا لمثل هذا التواصل وهي التي كانت في تاريخ الثقافة المصرية ملتقى للأفكار والحوارات، فيما قال يسري السيد إن المقهى نشاط رمضاني لمجلة مصر المحروسة في قلب الشارع المصرى بالانتقال إليه من خلال إقامة حوارات سياسية وثقافية وفكرية وأمسيات شعرية وأنشطة فنية. وفعاليات المقهى تأتي ضمن توجهات الهيئة العامة لقصور الثقافة في النزول إلى التجمعات الجماهيرية بقدر ما تشكل عودة للتقاليد الثقافية المصرية والعربية الأصيلة عندما تستضيف أمسياته بعض الحكواتية في أجواء غير بعيدة عن حكايات ألف ليلة وليلة. ويسري السيد يقارب أيضًا أجواء الحداثة عندما يشهد مقهى مصر المحروسة مقاربات فلسفية وثقافية متعددة في وقت تشهد فيه باريس ظاهرة المقاهي المسرحية والفلسفية، وتقول هدى الزين في كتابها أن عدد هذه المقاهي في فرنسا بلغ نحو 150 مقهى. ومن الظواهر الإيجابية في المقهى الثقافي الرمضاني "مصر المحروسة" خلال العام الماضي أن كثيرا من رواد أمسياته كانوا من الشباب الذين يبحثون عن الثقافة والمتعة الفنية معا في أجواء رمضانية بينما بدا يسري السيد مدركا بقوة وهو يخوض هذه التجربة المشوقة أهمية المقهى على صعيد الهوية الثقافية المصرية. ويبدو أن الجيل الجديد من الشباب لم يتخل عن العادات الرمضانية الأصيلة التي تدخل المقاهي في مزيجها المصري وكأنهم بذلك يحافظون على الذاكرة الرمضانية المصرية العابرة للأجيال وبأحاسيس تتربى في الوجدان وتجذر معنى الوطن في النفوس..إنها نفوس مصرية طيبة لعلها تردد كلمات المبدع الراحل صلاح جاهين:"على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء..أنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء".