وسط إشارات مبشرة بدعم الدور الثقافي والتنويري للإذاعة والتليفزيون باتت قضايا الإعلام العام سواء على مستوى التلفزة أو الإذاعة موضع دراسات ثقافية عميقة في الغرب بقدر ما تؤشر لأهمية قضايا "المسئولية الاجتماعية والالتزام الوطني والواجب الأخلاقي" وهي قضايا تبدو أيضا ضاغطة وملحة في المشهد المصري الراهن. وكانت صفاء حجازي الرئيس الجديد لاتحاد الإذاعة والتليفزيون قد ذكرت، في حوار تليفزيوني بعد تولي منصبها مؤخرا، أنها "في حاجة إلى 3 أشهر فقط لإحداث تغيير ملموس في الشاشة والميكروفون لتقديم رسالة إعلامية وطنية تهدف إلى تنوير العقول وتساعد على البناء والاستقرار وإرساء القيم والأخلاق". وإذ يمكن للمراقب ملاحظة الاهتمامات الثقافية لرئيسة اتحاد الإذاعة والتليفزيون وتأكيدها على أهمية الدور التنويري للتليفزيون والإذاعة كانت شبكة البرنامج الثقافي قد احتفلت أمس الأول الخميس بالذكرى ال59 لإطلاقها وهي الشبكة التي قامت بدور ثقافي هام عبر الأثير الإذاعي المصري، فيما ودارت نقاشات جادة وهادفة في تلك الذكرى حول "الإعلام الثقافي وتحديات الحاضر والمستقبل". وهذه الشبكة الثقافية التي كانت تسمى في الماضي "بالبرنامج الثاني" عمل فيها مثقفون كبار مثل الروائي بهاء طاهر والشاعر الكبير محمد إبراهيم أبو سنة والفنان الراحل محمود مرسي وقدمت كلاسيكيات الأعمال الدرامية العالمية، بينما أحد أهم وأبرز المثقفين في مصر المعاصرة وهو الراحل العظيم الدكتور حسين فوزي يقدم للمستمعين شرحا وتحليلا لكلاسيكيات الموسيقى الغربية. وإذا كان التليفزيون يلعب دورا لايمكن تجاهله في تشكيل الواقع بأبعاده الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ومن ثم فإنه يحظى بأهمية كبيرة في عملية صياغة "العقل الجمعي" فإن الإذاعة بدورها كثيرا ماتقدم برامج ثقافية على مستوى متميز من العمق والإحاطة كما لاحظ منذ سنوات الناقد الأدبي الراحل عبد القادر القط. وجاءت هذه الملاحظة الدالة في مقدمة بقلم هذا الناقد الكبير لكتاب "نجيب محفوظ يقول" وهو كتاب يحوي بين دفتيه حلقات حوار إذاعي كان قد أجراه رجب حسن مع الأديب النوبلي المصري نجيب محفوظ. وقد تبشر الإشارات التي تطلقها صفاء حجازي منذ توليها رئاسة اتحاد الإذاعة والتليفزيون باستعادة أمجاد ثقافية للإذاعة والتليفزيون في مصر "فكم من برامج ممتازة قدمها البرنامج الثاني الثقافي في الإذاعة المصرية ناقشت قضايا فكرية وأدبية وفنية مناقشات واعية جادة شارك فيها كبار المفكرين والنقاد والفنانين وكان لها صدى مسموع في البيئة الثقافية" كما قالها بإعجاب الناقد الراحل عبد القادر القط. وعلى سبيل المثال فإن كتاب "نجيب محفوظ يقول"يحوي نقاشات إذاعية ثرية بين رجب حسن وهرم الرواية المصرية والعربية نجيب محفوظ حول بعض شخصياته الروائية الشهيرة، فيما كان هذا البرنامج الإذاعي الذي يحمل عنوان "نماذج أدبية" يتسم بالطرافة والجدية معا. ولئن بقى اسم الشاعر والإعلامي الكبير فاروق شوشة مقترنا بأروع وأشهر البرامج الإذاعية والتليفزيونية ذات المضمون الثقافي وفي طليعتها "لغتنا الجميلة" و"أمسية ثقافية" فإن الكثير من عشاق الأثير الإذاعي مازالوا يتذكرون بشجن ماكانت تبثه هيئة الإذاعة البريطانية الناطقة بالعربية "بي بي سي" من أحاديث في اللغة العربية والأدب للعلامة الراحل حسن الكرمي بعنوان "قول على قول" وهو ذاته صاحب سلسلة شهيرة لتعليم اللغة الإنجليزية بالراديو. وشأنه شأن فاروق شوشة الأمين العام الحالي لمجمع اللغة العربية في القاهرة والشهير "بمجمع الخالدين" كان حسن الكرمي الفلسطيني الأصل الذي قضى عام 2007 عاشقا للغة الجميلة وتضمن منجزه الثقافي عدة معاجم وقواميس فريدة تفتح اللغة العربية على العصر وتجعل هذه اللغة الخالدة مطواعة للأفكار والمنجزات الجديدة التي تعبر عنها الكلمات الإنجليزية. وإذا كان فثمة اتفاق عام بين المثقفين المصريين على أهمية دعم "الإعلام العام" الذي تمتلكه الدولة وخاصة التليفزيون الوطني في مواجهة "الحروب التليفزيونية" التي تستهدف تشويه المشهد المصري فإنه يوجد أيضا اتفاق عام على أهمية زيادة الجرعة الثقافية في الإعلام العام للدولة المصرية سواء على الشاشة أو من خلال ميكروفون الإذاعة وتقديم المزيد من البرامج الثقافية الجادة بلا تجهم والهادفة بلا وعظ مباشر والحداثية بلا قطيعة مع الأصول والجذور. فنحن بحاجة لتعبيرات إعلامية عن الواقع الثقافي المصري والعربي تدفع في اتجاه بث الأمل في نفوس المواطنين وتجنب الإحباط الذي يبث بشكل مستمر، فضلا عن العمل على تحقيق "الاصطفاف الوطني والقومي". ومع التسليم بصحة الرأي الموضوعي القائل بأن الإعلام "ليس كتلة واحدة"، كما أن هناك داخل المشهد الإعلامي من يلتزم بالدفاع عن قضايا الشعب والمصالح الوطنية العليا للدولة فإن بعض الممارسات لبعض الإعلاميين على شاشات الفضائيات الخاصة كانت قد تركت انطباعات سلبية لدى قطاعات واسعة من الجماهير في الآونة الأخيرة.