«أيهم»: صديقى قتل والآخرون رحلوا والأسعار زادت أضعافا ربيع المسعف: اعتقلت مرة على يد النظام والثانية على يد «داعش» «ريما»: نقاوم الحرب بالغناء.. ولم يبق لنا إلا الحكايات فى مارس 2011 كانت الشرارة الأولى للمظاهرات فى سوريا، اختلف المؤيدون والمعارضون حيالها، ولكنهم اتفقوا فى اعتقادهم أن الأمر سينتهى بعد أيام أو شهور، لكن الرصاصة الأولى كانت القطرة التى تسبق الغيث الذى لم يتوقف حتى الآن. خمس سنوات من الحرب خلفت وراءها خرابًا.. تغيرت معالم البلد بأكمله، فهجره بعض سكانه وتشتتوا فى مدن العالم، قدرهم تقرير الأممالمتحدة الأخير بأكثر من أربعة ملايين لاجئ، لكن أصر البعض الآخر على المكوث فى سوريا، إما رغبة منهم بالموت فوق تراب الوطن، أو لضيق يديهم. أكثر من 17 مليون سورى يستنشقون يومياً رائحة الموت، وما يقرب من نصفهم يحتاج إلى مساعدات إنسانية –وفقا لتقارير الأممالمتحدة- بجانب حوالى أربعة ملايين يعيشون فى مناطق يصعب الوصول إليها. فى سوريا.. أصوات الرصاص باتت مألوفة وطبيعية، وحكايات القتل لم تعد تخيف الأطفال، فوفقا لتقرير مركز توثيق الانتهاكات السورى فإن أسماء الذين قتلوا خلال خمس سنوات تحتاج ما يقرب من 20 ساعة لقراءتها.. «البوابة» تحدثت عبر «فيس بوك» إلى من اختاروا البقاء، يروون لنا حكاياتهم، يبتسمون ويبكون، ليس من خلف ستار «نشرات الأخبار» ولكن من قلب حياتهم اليومية. لم تبق الحرب شيئًا السويداء محافظة تقع فى جنوبسوريا وقفت على الحياد، ولم تصل إليها الحرب –نظريًا- لكن عمليا تغيرت حياة الأهالى وتبدلت، وطالتهم الحرب بكل أشكالها، أيهم مصطفى شاب لم يتخط عمره العشرين عاما، قضى سنوات عمره الخمس الأخيرة التى يصفها ب«أحلى سنوات عمره»- يستمع إلى أخبار القتلى ويختزن الذكريات فى قلبه لتزيده حكمة، يحكى «أيهم»: «قبل الحرب سوريا كانت جنة، الرواتب ممتازة، ونسبة الأمان عالية ما فيه سرقات، بسهر مع أصدقائى، لكن دلوقتى تغير كل شيء»، وكالصورة الملونة التى تتحول فجأة للون الأسود تحولت حياة الشاب الصغير، يقول: «المرتبات ما عادت تكفى شى، لم تنقطع بس كل الأسعار زادت أضعاف، وكل يوم فيه حالات سرقة واغتصاب، لكن الحياة مستمرة وما بتتوقف». وفقاً لتقرير الأممالمتحدة ارتفعت نسبة البطالة فى سوريا لأكثر من 50 بالمائة، وزادت أسعار الغذاء حوالى 200٪ على أقل تقدير فى المناطق التى تسيطر عليها الحكومة، وأكثر من ألف بالمائة فى المناطق التى يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية –داعش-. لحظات شكلت وجدان «أيهم» وحفرت فى عقله، مرت مرور الكرام على الجميع، ولكنها أدمت قلب الشاب الصغير: «ما بنسى رفيق عمرى اللى مات بالحرب وبطلت أشوفه، أو أصدقائى اللى رحلوا وكل واحد بمكان، وحبيبتى تفرقنا لأن أهلها رحلوا عن سوريا»، يقول «أيهم» وهو يصر على البقاء فى سوريا: «إذا أنا طلعت من وطنى مين راح يظل فيه». يدرس الشاب السورى تكنولوجيا الكمبيوتر، ويحلم بعد انتهاء الحرب بتصميم برنامج خاص به، والزواج وتكوين أسرة سعيدة، لكن حتى شكل الأفراح تبدل: يحكى «أيهم»: «بنقيم الأفراح وما بتتوقف بس مع اختصار بعض الأشياء، مثلا ما عاد فيه إطلاق أعيرة نارية يكفى اللى بنسمعه، وما عاد فيه تقديم أكل أو وجبات طعام لأن الوضع الاقتصادى ما يسمح الآن»، وينهى الشاب حديثه قائلاً: «بس تخلص الحرب بدى ترجع حياتى مثل ما كانت». ملائكة الرحمة عرضة للاعتقال الرصاص يتطاير فى كل مكان، السماء تمطر قذائف من نار تشعل «إدلب»، قتلى يتساقطون وجرحى يصرخون، ومن يريد أن يحيا لا بد أن يختبئ، كان هذا الحال الذى عاشه ربيع خربوت وأسرته يومًا، فاضطروا للاختباء فى ممر صغير وسط البيت، فبحسب قوله: «الممر كان المكان الوحيد اللى بعيد عن أى شباك، وبالتالى بعيد عن الخطر»، التجربة المريرة التى عاشها الشاب السورى لم ترهبه بل شجعته على الاستمرار فى عمله التطوعى لإحياء سوريا. قبل الحرب كان يحمل «ربيع» شنطته الصغيرة على ظهره وخيمته فى يديه، يجول فى أنحاء سوريا ليكتشف كل ركن فيها، ضربات المدافع منعته من ذلك، ولكن خبرته فى الأعمال التطوعية أهلته للالتحاق بإحدى المنظمات الطبية، يحكى «ربيع»: «أكثر من ثلاثة سنوات بشتغل مسئول للمسعفين، بنطلع فى مهمات موت حتى ننقذ أحد أو نداوى جراحه ونخفف عنه»، مشاهد الدم والأشلاء لا تفارق ذهن الشاب السورى، وهو يتذكر سنوات عمره الأخيرة: «شباب ونساء وأطفال من خيرة أهل البلد قتلوا وفقدناهم وكلهم كانوا أصحابى، بس هيك الحرب للأسف». استمرار الحرب على سوريا جعل أماكن العلاج والرعاية الصحية هدفًا حربياً لكل الأطراف، دون احترام للمواثيق الدولية، فقد سجلت منظمة أطباء لحقوق الإنسان 336 هجوما على ما لا يقل عن 240 مؤسسة طبية فى سوريا، وأدت هذه الهجمات إلى وفاة 697 من العاملين فى المجال الطبى، يحكى «ربيع»: «النظام السورى اعتقلنى ثلاثة مرات» كانت المرة الأولى فى 2012 عندما دخلت قوات الجيش السورى إلى مدينة إدلب، «كنت متوجها مع زميلى فى منظمة طبية محلية، وتم اعتقالنا بالزى الرسمى للمنظمة»، وفقا ل«ربيع»، أكثر من مائة شخص محبوسون بغرفة لا تتعدى مساحة 20 مترا مربعا، «كانوا يعذبوننا بأنهم يقطعوا مروحة الهواء حتى نفطس، وكتير ناس جنت جوا وفقدت عقلها»، يحكى ربيع وهو يتذكر هذه الأيام، ويكمل: «كل يوم كانوا يأخذون اثنين مننا للتحقيق مع ضرب وتعذيب، ولكن بالتحقيق معى ما تعرضت إلا للشتيمة»، بعد ستة أيام تم الإفراج عن المسعف السورى لعدم ثبات تهمة عليه، وتكرر الاعتقال مرتين فى ظروف مختلفة. بعد عام ونصف العام فى أكتوبر 2013 تعرض الشاب السورى لخطر الاختطاف لدى داعش: «كنت بمهمة رسمية مع وفد من منظمة طبية دولية بمهمة توصيل مساعدات دوائية لمناطق محررة وبعد الانتهاء فى طريقنا للرجوع اعترضت طريقنا 4 سيارات مموهة وممتلئة بالملثمين»، يحكى «ربيع» الذى عاش لحظات أقرب للخيال والأفلام البوليسية ثم يكمل: «أخذونا إلى مكان مجهول وتعرضنا للتعذيب والضرب والتحقيق، وبعد ثلاثة أيام نقلونا لمكان آخر ثم تركونا بأرض زراعية»، يقول «ربيع» الذى عرف لاحقاً بعد الإفراج عنه إنه تم الإفراج عنه هو واثنين من السائقين وطبيبة سورية، ولم يعرف حتى الآن مصير البقية الذين كانوا سائقين اثنين وموظفة نيوزيلندية تابعة للصليب الأحمر. تغير وجه الحياة فى «إدلب»، لم يعد للموت هيبته ورهبته كما كان، فوفقا ل«ربيع»: «لا تستمر الجنازة أكثر من 3 أيام، ما عاد للموت صدمة كبيرة، بل أصبح شيئا عاديا ومكررا، وإذا كان هناك زواج تعلو الزغاريد اشتياقًا للفرح»، أشياء لم يعتدها «ربيع» فى صغره جدت على الوضع فى مدينته، «الاهتمام بمظهر الرجل والمرأة واللباس الشرعى بقى هام جدًا فى المدينة ويتم التدقيق عليه، بالإضافة لأصوات الصواريخ التى لا تتوقف»، يقول «ربيع». لم يكتف الشاب السورى بمشاركته فى الإسعاف فقط، بل سعى مع البعض من زملائه لتشكيل لجان تطوعية لدعم البنية التحتية فى سوريا وإعادة بنائها، «الحرب دمرت البنية التحتية، والمنظمات الإنسانية ما بتدعم هذه المشاريع، إحنا بنسعى كأفراد بتغيير تفكير المجتمع ليترك طوابير الإغاثة والمساعدات ويتجه لأى عمل إنتاجى ليشتغل ويساعد مجتمعه وبلده»، يقول «ربيع» وهو على ثقة بأن «سوريا راح تتحسن رغم الغمامة السوداء». قاوم بالغناء فى عام 2012 ذكر تقرير للصحيفة الأجنبية «نيويورك تايمز» إنك إذا ذهبت لطرطوس المحافظة التى تطل على البحر المتوسط فى سوريا كأنك ذهبت لبلد آخر، لا وجود للحرب وويلاتها، لكن «ريما حبيب» الشابة التى ولدت وعاشت هناك تنفى ذلك، فبحسب وصفها «يمكن ما عشنا الحرب جغرافيا، لكن عشناها روحاً وجسدًا». لا يغيب عن ذهن «ريما» لحظة قدوم أول قتيل لمحافظتها، صرخات أمه كانت التمهيد لأوجاع لم تنقطع حتى الآن، «كانت جنازته مهيبة، لا تخلو من عدم الإدراك، ما كنت بفهم إيه اللى بيحصل وليه؟ وهينتهى متى؟» تقول الفتاة التى عاصرت جنازات أخرى كثيرة كانت جنازة ابن خالتها الأقرب إلى قلبها الذى قتل فى مناطق النزاع بين الجيش السورى والدولة الإسلامية، ولم يجرؤ أحد على تحريك جثته خوفًا من القتل لعدة أيام حتى أتى به صديقه المقرب، «أحضره إلينا صديقه وبقى معانا حتى دفناه، وبعد فترة لا تتعدى الشهرين راح هو الآخر واندفن بجوار صاحبه، خالتى دائما تقول صحيح هو ابنى الكبير بس سوريا أكبر من كل شيء»، تحكى «ريما» ودموعها تسبقها على حال الأمهات ثم تكمل: «هذا حال خالتى وهى فقدت ابن واحد، فما حال الأم التى فقدت 6 من أولادها ولا تزال صابرة». تعمل «ريما» معلمة بإحدى المدارس، تحكى للأطفال عن سوريا، وترسم لهم طبيعة بلادهم الخضراء فى المحافظات التى لا يستطيعون الوصول إليها، تحكى لهم عن حضارة كانت «قبل الحرب سافرت مع المدرسة والجامعة رحلات لكل منطقة بسوريا دون التعرض لأى حادث، لكن الآن ما بنخرج خارج طرطوس، وما بيفضل معانا إلا الحكايات»، تحكى المعلمة السورية، مع ذلك آلاف من كل محافظاتسوريا أتوا للمدينة الساحلية للاحتماء بها هربًا من ويلات الحرب، فبحسب قولها: «صرنا نحنا الملجأ للكل وزادت أعداد المحلات والبيوت بعد الحرب». تجلس الفتاة فى منزلها الآمن تستعد لحفلها المحدد ميعاده بعد ساعات من الآن، تستمع هى وأهلها لنشرات الأخبار، أعداد القتلى فى ازدياد والقلق يسيطر على المدينة خوفاً من استقبال جرحى جدد، ولكن مع ذلك لا يتوقف الغناء بسوريا، تحكى «ريما»: «يقولون إن صوتى جميل، وعلى مسرح طرطوس وفى الشوارع بنقيم الحفلات وبنعزف ورغم الوجع والقهر والموت، الناس بتحضر لأننا شعب يحب الفرح». «تتعلى وتتعمر يا دار.. يا بلدنا يا زينة البلاد، تنعاد أعيادك تنعاد»، يشدو بها صوت «ريما» مرددًا آمالها فى سماء سوريا متمنية أن يستجيب لها الله، تقول «ريما»: «بس تخلص الحرب بدى ألف وأغنى بكل محافظاتسوريا، الغناء بيبقينا أحياء». بدنا نرجع على الشام جالسًا فى مركب صغيرة مع أعداد من السوريين يمسك بسبحة أعطتها له أمه لتحميه، يحتضنها بين الحين والآخر ويردد صلوات حفظها منذ صغره حتى وصوله إلى تركيا ومنها إلى اليونان ثم أوروبا، ليصبح إلياس كورية -19 عاما- واحدا من اللاجئين السوريين بالسويد. ثلاث سنوات عاشها «إلياس» بالحرب قبل اتخاذ قرار سفره يتذكر تلك الأيام وهو يقول: «الحياة هناك ما كانت سهلة بعد الساعة 8 مساء ممنوع نخرج، وبس الليل يجى نسمع أصوات الضرب والصبح نعرف أن فلان مات وفلان جريح ونعرف عدد الانفجارات»، لم يستطع الشاب الصغير التنقل من مدينته لأخرى أكثر أماناً، فقطاع الطرق وجنود الدولة الإسلامية يوقفون الكل، وحالات الاختطاف تزداد يومًا بعد يوم، فقرر الفرار فى يناير 2014، «قبل السفر كنت فى الصف الأول الثانوى، وبعدين وقفت الدراسة وما قدرت أكمل، وما عاد فيه شغل وما عاد فيه بنزين أو مواد، كل شيء انتهى تمامًا» يحكى «إلياس». يشتاق الشاب الصغير للعودة إلى وطنه، يلتقى بأصدقائه كما كان يفعل، ولكنه حتى لا يستطيع التواصل مع من لم يترك سوريا منهم، «الكهرباء بتقطع طوال اليوم وهم واحنا نفاجأ بذلك، كل يوم تعود ساعتين ثلاثة، فما بقدر أتواصل معهم ولكن الحمدلله على كل شيء». وفى تركيا يعيش شاب سورى –رفض ذكر اسمه- منذ عامين كان يحلم أن يصبح كاتباً، ولكنه لم يستطع البقاء داخل موطنه، يحكى قائلاً: «لا أنسى كيف هربت من وطنى وتلاحقنى الشرطة التركية، ويطلق علينا الرصاص كى نتوقف ولكننا كنا جبناء فلم نستطع البقاء فى الوطن»، حقيبة مملؤة بالدفاتر والمذكرات والصور ووشاح يخص أخته أخذها معه، «أخدت معى كل شيء يفكرنى، رسالة بخط أمى أقرأها كلما أشتاق إليها، لو كنت أقدر آخذ الوطن كله بحقيبة لفعلت ذلك». ليال يقضيها الشاب السورى قلقاً على أهله بالوطن، فمدينته مشتعلة بالحرب بين النظام والمعارضة، يقول الشاب وصوته تملأه الحسرة والحزن: «لم يكن هذا حلمى، ولم نكن نريد هذا كنت أحلم أن أكمل دراستى وأصبح شاعراً أو كاتبا بعيداً عن الحرب والطائفية، أخلق سماءً ثامنة وأرضا غير الأرض لتتسع أهلى لأن كل الأرض ضاقت بنا»، ليس الوحيد بين اللاجئين السوريين الذين يحملون أحلامهم فى حقائب يطوفون بها الأرض لعلهم يجدون أماناً لتحقيقها.