فى ظل حكم الثورة الفرنسية، كان الصحفى «برسوت»، مدير تحرير جريدة «الباتريوت» الفرنسية يرى فى جريدته الحرة «الحارس الذى يسهر دون انقطاع على رعاية المجتمع»، وفى القرن الماضى، لم تتردد المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان فى تنصيب الصحفى «الكلب الحارس على الديمقراطية» مُشيرة بذلك إلى أنها تُفضّل تجاوزات الصحفى المحتملة على غياب الضمائر. مراقب، كلب حراسة، إشارة إنذار، حارس ليلى، صفارة إنذار الحريق، كلها استعارات وتوصيفات توضح كيف يتم النظر إلى دور الصحفى فيما يخص الديمقراطية، وهناك ما هو أكثر من ذلك. يحاول الصحفى الفرنسى «إيدوى بلينيل»، من خلال كتابه المهم «من أجل حرية الصحافة» وهو الكتاب الصادر عن دار «صفصافة» للمترجمة بسنت عادل محمد، توضيح أهمية دور الصحافة فى المجتمعات، وفى جميع شئون الحياة، باعتبار أن الصحافة هى المحرك الأساسي الذى يعمل على اتزان المجتمع والحفاظ عليه من السقوط فى براثن الانحرافات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وغيرها من ألوان الفساد الأخرى؛ فالصحافة التى هى مهنة البحث عن الحقائق والشفافية الكاملة هى المنوط بها فى نهاية الأمر، الحفاظ على استقرار المجتمع فى شكله المثالى الذى لا ينساق إلى أى لون من ألوان الانحراف. يحاول الكاتب منذ مقدمة كتابه وضع تعريف شامل للديمقراطية التى تقوم عليها المجتمعات، والتى تعمل الصحافة دائمًًا على تحقيقها فى مواجهة السلطة الواحدة، وهى السلطة السياسية فيقول: «ما الديمقراطية؟ إنها نظام من حقى أن أتدخل فى شئونه دون أى ميزة لدى فى المولد، أو الثروة، أو الشهادة الجامعية. من حقى أن أشارك فيه دون أى ميزة لديّ فى الأصل، أو البيئة، أو الانتماء، من حقى أن أعبر عن نفسى، أن أعترض، أن أتظاهر، أن أصوّت، أن أكون مرشحا، أن أكون مُنتخبا، بل ومن حقى أن أحكم. ها هى وعود، وفى نفس الوقت فضائح الديمقراطية. الوعود والفضائح المتعلقة بالمساواة فى الحقوق، والوعود والفضائح المتعلقة بسيادة الشعب، وكذلك تلك المتعلقة بحرية المواطنين»، يتحدث المؤلف عن هذه الديمقراطية بمثل هذا الشكل المُستفيض؛ لأنه من خلال تعريفه لها سيوضح لنا دور الصحافة فى الحفاظ على هذا المفهوم المهم الذى لا يمكن له أن يتحقق من دونها. يؤكد «إيدوى» دور الصحفيين بقوله: «نحن كصحفيين لا نستسلم إزاء ثلاث أزمات: الأزمة الديمقراطية، والأزمة الاقتصادية، والأزمة الأخلاقية التى تنال من الإعلام فى فرنسا، من حيث الجودة، والفائدة، والنزاهة، والحرية. عندما تتركز سلطات الدولة فى سلطة شخص واحد فقط، فإن هذه السلطة المركزية المفرطة من شأنها أن تُدمر روح الديمقراطية، وتُفسد استقلال البشر، وتقوّض التعبير عن الحرية. ولقد ازداد الوضع تأزمًا، إذ لم تكتف هذه السلطة بفرض منهجها ووجودها على وسائل الإعلام، وكذلك استخدام المال للتحكم فى الصحافة، بل أيضا عملت على تقويض استقلال وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وملاحقة الصحفيين فى المحاكم بزعم تطاولهم وعنادهم، واستدعاء الصحافة المكتوبة فى قصرها وكأنها الوصى عليها، والتلاعب عمدا بالحياة المهنية وبطموحات الآخرين، وتأديب أو تقريب من تشاء حسب أهوائها. وفى ظل هذا المناخ السياسى، يعتبر الصحفى خصمًا يجب إغواؤه أو إخضاعه، وهو فى جميع الحالات مهزوم. وخير دليل على ذلك الحلقة الأخيرة من مسلسل هذا الهجوم والتى كانت إدارة الراديو العام الوطنى ضحيته، مما يُعد استمرارا فى التحقير من شأن الصحافة وخيانة لمبادئها»، هنا ومن خلال ما ذهب إليه «بلينيل» يؤكد لنا الدور الذى تلعبه السلطة السياسية دائما من أجل إخصاء الصحافة، ومن يقوم بالعمل من خلالها؛ من أجل مصالح السلطات السياسية وفسادها؛ فهذه السلطة لا ترغب فيمن يفضحها أو يكشف الحقيقة التى تحاول دائما إخفاءها عن الآخرين، وبما أن مهمة الصحفى فى النهاية هى كشف كل ما هو مستور؛ كان لا بد من العمل على إنهاء دور الصحفى، بأى شكل من هذه الأشكال، حتى لو وصل الأمر لاعتقاله، أو تهديده فى مورد رزقه، وهو الدور الحقيقى الذى تقوم به السلطات السياسية دائما فى كل مكان من العالم، حينما تغيب الخطوط العريضة للمفهوم الديمقراطى الحقيقى. نتيجة لهذا التضييق السياسى الدائم من السلطات على جميع المؤسسات الصحفية، ونتيجة لأن السلطة تستخدم السلاح الاقتصادى أيضا فى مواجهة الصحافة بالتضييق المالى على العديد من الصحف التى تُفلس ومن ثم تكون غير قادرة على الاستمرار، بسبب هذا التضييق سواء من حيث الموارد والإعلانات، أو الدعم المالى، فلقد رأى المؤلف أنه لا مناص من الحل الوحيد أمام الصحافة، كى تستطيع الاستمرار فى كشف الحقائق والإيغال فى مفهوم تحقيق الديمقراطية، وهذا الحل الوحيد يكمن فى الصحافة الإلكترونية التى تُعد البديل أمام الصحافة الورقية التى تتجه نحو الانقراض بسبب مشكلاتها المادية، يقول المؤلف: «إن الصحافة الرقمية الجديدة، باعتبارها ساحة للمقاومة ومختبرًا للبحث وورشة للعمل الإبداعى، تخترع وتبتكر الجديد وتحافظ على القديم، بل وتتوسع أيضًا. وهى، بحمايتها استقلالية تنوع المعلومات ومساعدة القراء المشتركين بالمواقع والاستعانة بهم، تحاول أن تحافظ على أفضل ما فى قيم الماضى فى مواجهة تحديات المستقبل. بالنسبة لمجتمع الصحفيين فإن الصحافة الرقمية توفر طرقا أخرى بديلة عن ترك المهنة أو القبول ببقاء الحال كما هو عليه، وتثبت أن تلك الطرق عملية وفعالة أيضا، بل وتصوغ مستقبلا جديدا يستعيد خلاله عملنا قيمته وجدواه، أما بالنسبة للمواطنين بشكل عام، فتقدم لهم الصحافة الرقمية فرصة للشراكة مع الصحفيين المحترفين، حيث يسعى الصحفيون جاهدين، إلى إعادة اكتشاف الطريق إلى الجمهور، عن طريق التمسك بمسئولياتهم الديمقراطية، وعن طريق التركيز على جودة المواد الصحفية المقدمة، وأيضا عن طريق إعادة البحث عن معايير أخلاقية حقيقية يتم الالتزام بها». هنا يحاول المؤلف إيضاح البديل أمام انتهاء عصر الصحافة، وهو الأمر الذى ترغبه السلطات السياسية دائما من أجل خنق كل من يحاول كشف الحقيقة، ولكن هذا البديل يجد بالفعل الكثير من العوائق التى تعمل الحكومات على وضعها أمام الصحفيين، من أجل المزيد من التضييق فيذكر: «إذا كان ينبغى علينا أن نبرز دليلًا على أن حرية الصحافة ما زالت على المحك بسبب هذا المفهوم «اللاليبرالى» عن الديمقراطية، فقد أتت المناقشات البرلمانية لعام 2009 بخصوص مشروع قانون الإبداع والإنترنت، والذى يطلق عليه اصطلاحًا قانون «هادوبى»، بهذا الدليل. ولقد علمنا من خلال تصريحات وزيرة من المفترض أنها تعمل على النهوض بالثقافة، أنه وفقًا لحكامنا الحاليين: «لا يمكن اعتبار حق الدخول على شبكة الإنترنت حقًا أساسيًا من حقوق المواطن». تمامًا كما لو قمنا بحظر حرية الوصول إلى الصحف، طباعة ونشرًا، فى نهاية القرن التاسع عشر خلال الثورة الصناعية الثانية؛ ثورة الكهرباء، التى شهدت بداية العصر الإعلامى مع اختراع آلات الطباعة. فإذا كانت المادة الأولى من القانون الشهير الصادر عام 1881 الخاص بحرية الصحافة تنص على أن «المكتبة والطباعة لا تخضعان لأى قيود»، فذلك بفضل هذا الحق الأساسى: حرية الإعلام. وها نحن فى الثورة الصناعية الثالثة، التى تتمثل فى الثورة الرقمية، فإذا بنا نجد حكومة تتجرأ فى التصريح بأن حق الدخول على شبكة الإنترنت لا يمكن اعتباره حقًا أساسيًا من حقوق المواطن، بعبارة أخرى، هذا الحق ليس مكفولًا للجميع، وليس واجبًا تلتزم الدولة بأن تكفله لجميع مواطنيها». من الملاحظ أن العداء المنصب على عالم الصحافة، ما هو إلا تعبير عن الكراهية العمياء ضد الديمقراطية؛ لأن الصحفيين عندما يمارسون مهنتهم، وخاصة عندما يمارسونها باحترام، فإنهم يصبحون مصدرًا للقلق، مما يزيد فضيحة الديمقراطية اشتعالًا. وتعتبر حرية الصحافة خطرا دائما ضد أصحاب حكم الأقلية الجدد، الخبراء وصانعى القرار، الذين يعتبرون أنفسهم الملاك الشرعيين لحياتنا العامة، وذلك تحت عنوان معرفتهم للأمور وخبراتهم وأفعالهم، هذه الحرية التى تهدد بنزع ملكيتهم هذه عن حياتنا. يستند دوام سلطتهم إلى رفض المشاركة، ويعتمد على السرية، بين التعتيم المتعمد والفوضى المنظمة: سرية المعلومات والقرارات والشبكات والدوافع والمصالح، إجمالًا، سرية جميع العناصر والوقائع والسياقات التى من شأنها أن تفضح ممارساتهم، إذا ما ذُكرت خارج إطار الرواية التى يوظفون خلالها كل ما سبق لتبييض وجوههم، أو تلك التى ينسجونها من وحى خيالهم. يحاول الكتاب استعراض الكثير من العوائق التى تعوق استمرار العمل الصحفى وخطورة هذه العوائق، وكيف انتبه إليها الكثيرون على مر التاريخ وحاولوا التغلب عليها، وطرح العديد من الحلول من أجل حرية العمل الصحفى، والوصول إلى درجة كبيرة من الشفافية وتحقيق الديمقراطية وكان من أهم هذه الحلول، هو اللجوء إلى عصر الصحافة الرقمية كحل أساسي أمام الصحافة الورقية، التى تلاقى اليوم الكثير من العثرات التى يأتى فى مقدمتها العثرات المالية، ثم العثرات السياسية والتضييق على الصحفيين، ويحاول التأكيد على أن حرية الصحافة ليست امتيازًا للصحفيين، لكنها حق للمواطنين. إن الحق فى الإعلام، والحق فى التعبير والنقد الحر، وكذلك الحق فى تنوع الآراء هو حرية أساسية لكل إنسان، فبدون إعلام حر على أرض الواقع، متعدد الآليات والأغراض، لا يمكن أن تكون هناك قرارات ديمقراطية حقيقية؛ لأن النظام الديمقراطى الحقيقى، الذى يتساوى فيه المواطنون دون تفرقة على أساس الميلاد أو المستوى التعليمى أو المادى، يفترض إتاحة المعلومات للجميع على قدم المساواة، ليكونوا أحرارًا فى اختياراتهم ومستقلين فى قراراتهم.