على نحو لم تدركه بعد السياسات العامة فى الداخل، لا شك أن نجاحًا ملحوظًا حازته السياسة الخارجية؛ فيما يشير بقوة إلى تباينات واضحة فى قدرات الدولة المصرية، لا ينبغى التراخى فى رصد ما تفرضه من مراجعات، بها نؤكد على ما نملكه من مصادر قوة، وعليها نتجاوز الكثير من العقبات المحيطة بمسار الدولة المصرية فى الداخل والخارج على السواء. فمع ضخ الدماء فى الحياة النيابية، لا شك أن اكتمال المؤسسات الدستورية للدولة من شأنه تهيئة الكثير من الأدوات الفاعلة لتنمية شتى العناصر المكونة لمنظومة القوة الشاملة للدولة المصرية؛ ذلك أن البرلمان قوة لا يُستهان بها فيما تنجزه المجتمعات من تقدم باتجاه مصالحها الوطنية؛ إذ بموجب الأداة البرلمانية يتم تقييم وتصحيح واجب ومُلزم لكافة السياسات العامة المنوط بها إدارة شئون الدولة، مثلما يعبر ذلك عن دور المشاركة الشعبية المسئولة فى الحكم، وإرساء قواعد راسخة عليها ينهض الوطن نحو الآفاق الرحبة التى عبرت عنها الطموحات الشعبية المشروعة صوب حياة كريمة حرة. غير أن ما حققته السياسة الخارجية من تقدم إنما يرتد فى كثير من جوانبه إلى عوامل ربما لم تتوفر بالقدر ذاته على صعيد السياسات العامة فى الداخل، رغم ذوبان العديد من الحدود الفاصلة بين الداخل والخارج، كنتاج طبيعى لظاهرة العولمة. فليس من شك أن السياق الإقليمى أكثر رشدًا ووعيًا بمحدداته وأسس نهجه، بما يفوق ما تبديه الأطراف الداخلية من إدراك لمقتضيات لحظتها التاريخية الراهنة، لا يعبر ذلك عن قبولنا العام لمخرجات العلاقات الدولية المعاصرة، قدر ما نؤكد بذلك على استقرار العمل الدولى وفق محددات باتت محل اتفاق لا تخل به صراعات هنا وهناك، مثلما يعنى الحال وجود ثوابت حاكمة ليست محل جدل، لعل أهمها أن العلاقات الدولية تستند على مشتركات واضحة من المصالح، مع فكرة الاعتماد المتبادل، ووفق صيغ تفرضها «القوة» بمفهومها الواسع الشامل. فى المقابل، مشهد داخلى مضطرب فى كثير من جوانبه الفكرية، جراء ما تفرزه عملية التحول الديمقراطى من صراع سياسى بين الماضى والحاضر وصولًا إلى مستقبل يحتضن أيًا منهما. الأمر الذى يضيف قطعًا إلى ملفاتنا الصعبة، ويخصم من حجم الإنجاز الثورى بشكل عام. وفى إطار موازن، بين السياق الخارجى ومثيله الداخلى، يبدو الأول أكثر إلمامًا بحقائق أوصت بها الدروس التاريخية المقارنة، حين أكدت على تلازم الفرص والتحديات المصاحبة لكل ظرف؛ ذلك أن تهديدات تأتينا من كافة الاتجاهات الجيوسياسية، لا تنفى أن فرصًا مكافئة يمكن اقتناصها فى الوقت ذاته. ففى الشق الخارجى، تعانى الدولة المصرية مشقة مجابهة الإرهاب الوارد، إلى جانب تبعات النزاعات المسلحة التى يشهدها الإقليم؛ غير أن حالًا كذلك يؤجج احتياجًا بات مُلحًا لعودة الدور المصرى الرائد فى المنطقة، وهو ما يدفع ببعض الأطراف إلى تقديم مزيد من الدعم للدولة المصرية. لا ينفى ذلك أن أطرافًا أخرى، عربية وغير عربية، لا ترى مصالحها تتحقق مع استعادة مصر قوتها الإقليمية، وعليها تتراجع كثيرا من الخطوات خشية تمدد الدولة المصرية، لعل أبرزها بطء الحركة العربية باتجاه القوة العربية المشتركة التى دعت إليها مصر انطلاقًا من استشعارها لمخاطر غياب مشترك عربى قادر على تجميع شتات القوة العربية. وبينما تواجه الدعوة المصرية تخوفات البعض، تمضى فعاليات المشهد الإقليمى باتجاه منطقية الدعوة المصرية، مدعومة من قواعدها الراسخة فى العلاقات الدولية، حيث أولوية المصالح المشتركة، وجدارة «القوة» فى إنجازها. فى حين تغرق مكونات المشهد الداخلى فى صراعات سياسية مُجهدة، لا ينبغى التململ منها، حيث لا مخرج من نفق التحول الديمقراطى إلا بتشكيل تجربة مصرية مكتملة المعالم، يمكن أن تقدم نموذجًا، شديد الخصوصية، لكن دلالاته موحية، إذ يشير إلى حتمية مرور «الثورة» بكافة مراحل تطورها الطبيعي؛ إذ نقسو على تجربتنا، ونهدر مضامينها الإنسانية الثرية، لو أن اختزالًا نال من امتداداتها الزمنية المنطقية. فليس التاريخ يذكر ثورة أنهت مهامها الثقيلة فى أعوام «خمسة»، وبالتالي فأمامنا منعطفات لا جدوى حقيقية من محاولات الالتفاف حولها دون الخوض فى تفاصيلها المجتمعية الصعبة. وعليه ينبغى قبول مخرجات العملية السياسية فى الداخل باعتبارها تراكمات لا بديل عنها سعيًا إلى مستقبل أفضل. ومن ثم فبعيد عن المنال، دون جهد شاق، إدراك ما انتهت إليه مجتمعات رسخت أقدامها على طريق الديمقراطية. ليس فى ذلك ما ينفى أن أوقاتًا خشنة فى انتظارنا، ليس قبل شغلها بجهد وطنى مسئول، يمكن أن نلحق بفرصتنا فى عضوية مشروعة داخل منظومة المجتمعات المتقدمة، حيث تتوفر عناصر الحكم الرشيد، وتتحقق مبادئه، وتنهض بمسئولياتها كافة مفردات العملية السياسية. ولا شك أن منتهى العملية السياسية الوطنية، حكومة سياسية تعبر عن غلبة تيار فكرى بعينه داخل أوساط الرأى العام، تعمل وعينها على رقابة برلمانية وشعبية جادة، لا على أساس ما تملكه من «توجيهات السيد الرئيس»!، وتقبض ذاتيًا على أسباب حيازتها ثقة البرلمان، لا على سبيل تسلق شعبية الرئيس، مُدركة سبل نجاحها عبر سياسات مدروسة تنم فعلًا عن استيعاب حقيقى لدروس قريبة، لطالما أفادت أن ارتكانًا سهلًا إلى تعليمات المؤسسات الدولية المانحة، لا يوفر منطقًا مقبولًا لدى مجتمع ثائر. غير أن حياة سياسية أكثر تطورًا مما نملك، وحدها القادرة على إنتاج ما ننشد من أداء حكومى. فليس من شك أن حكوماتنا المتعاقبة ما هى إلا التعبير الصادق عن مجمل محتوى العملية السياسية الوطنية، وبالتالى فإن قصور الأداء الحكومى يرتد فى كثير من أوجهه إلى ما تتسم به حياتنا السياسية من أداء جامد، لم ينجح أبدًا فى مواكبة حركة التطلعات المتنامية للشعب، ومن ثم لاحظ أداءنا الحزبى، تدرك أسباب تراجع سياساتنا العامة!. فإذا ما اكتفينا بظواهر السباق البرلمانى دليلًا، وما تبعه من أداء استهل به البرلمان «مسئولياته»، تبدو جلية تشوهات شتى ألحقناها بمفاهيم سياسية واجتماعية واقتصادية، فى ظلها يبدو كم هو بالغ «المرح» مجرد تصور مشهدنا الداخلى، لو أن سعيًا إلى تشكيل «حكومة ائتلافية» بات مسئولية برلمانية!. تقابله تصورات موروثة لطالما مرحنا بها طويلاً؛ إذ لم تدرك حكوماتنا من مفهوم «الشفافية» إلا الإعلان عن إقدامها اضطرارًا إلى خطوات «مؤلمة»!. وسعيًا إلى ثقة البرلمان، تتصور حكومتنا، بلقاءات مع بعض النواب، أن تصديق الشعب لها أقل أهمية من تصديق نوابه فى البرلمان! والحال نفسه تثيره لقاءات جمعت رئيس الوزراء ببعض الكتاب ورؤساء تحرير مجموعة من الصحف، وفق تصور حكومى «بهيج» مفاده أن فى ذلك ممرات آمنة لسياساتها داخل طيات الرأى العام. والحال كذلك.. يتصور بعضنا، الأكثر مرحًا، أن نجاحًا فى الخارج يمكن أن يتنازل عن قواعده الطبيعية فى الداخل!، الثورة إذن مشوار شاق بالفعل، وشرف لم تنله كل الشعوب.