تتجول بالدار.. تحادثه.. تبثه همومها وشجونها.. صوتها كعزف ناي حزين في كونشيرتو اللوعة.. وهو يستمع بكل خلجاته.. ينصت بكل خلاياه ولا يجيبها ولا يعلق على ما تقول.. وهي تسترسل فى حكاياتها.. فى عزفها المنفرد.. تحدق بالجدار.. تتوهم الجواب لسؤالاتها الحائرة. الدار، كأي دار بالقرية الوادعة.. طابق واحد على الأرض.. سقفه من أعواد الشجر وسعف النخل.. والليل يفرض سطوته على القرية ويغلفها بذلك السكوت المهيب .. ويأمر الجميع بالهجوع بعد الشقاء؛ لأن الرجال السمر ينهضون فجرًا، والشمس لم تزل خجلى تتوارى خلف الغيوم، ليستكملوا مسلسل الشقاء من أجل البقاء. “,”خلت الدار يا أبو محمد.. بعت المروحة لأدفع مصاريف المدرسة لمحمد.. محمد في زي المدرسة يبدو مختلفًا.. يعي قيمة ما يرتديه.. كأنه يرتدي ملابس الإحرام مثلًا.. عندما يعود من المدرسة يخلعه ويفرده على طرف السرير وينظر إليه بإعجاب“,” تبتسم له وتكمل: “,”يبدو أنه سيكبر ليكون طبيبًا مثل الدكتور محمود طبيب المركز.. ربنا يسترك يا دكتور محمود.. مروة ابنتك كانت ستموت، انفجرت زائدتها الدودية.. لولا العملية التي أجراها لها.. وها هيّ تتعافى رويدًا.. الحمد لله ربنا سترها معايا ولم يفضحني“,” ثم يتحشرج صوتها منفعلًا وتستكمل كأنها تلتمس عذره: “,”بعت السجادة الملفوفة خلف الباب وجهاز الفيديو لأستكمل مصاريف المستشفى، كما تعلم يا أبو محمد، عملي مع نسوة القرية بخبز العيش وبيعه مع البيض والجبن القريش بالسوق، يوم الجمعة، بالكاد يكفى سد جوعنا اليومي، لكنه لا يقف أمام الأزمات الطارئة التي كثيرًا ما تنهشنا“,” يعلو صياح ديك معلنا انبلاج فجر جديد.. يتبعه “,”كورس“,” صياح من بقية الديوك.. مازالت أم محمد تحادثه بصوت مسموع: أردت بقاءك.. مال الدنيا لا تعوض لحظة غياب عن حضنك وونسك.. لم أرتح لسفرك وغربتك عنا.. الرجل بالدار يا أبو محمد ظهر وسند وحماية من غدر الزمن.. لم أفرح بالمروحة والكاسيت.. لا شيء يعوضني حضنك.. لكنك أصررت وعزمت، ولم يبق لي غير الخضوع. وكأنني كنت أعرف ما يخبئه لي القدر.. زوج عائد من العراق في نعش.. وصورة أحادثها، معلقة فوق الجدار.