أعلنت اللجنة المنظمة لجائزة البوكر في دورتها التاسعة، عن القائمة الطويلة صباح اليوم الثلاثاء، وجاءت من بينها رواية (نزوح مريم) للروائي السوري محمود حسن الجاسم. نزوح مريم تروي حكاية أسرة تعيش في الرقة وتعاصر الأحداث التي تمر بسوريا وقد كانت البطلة الأم سارة المسيحية التي تزوجت بعد قصة حب من المهندس هاشم ابن الرقة في سوريا تروي لابنتها الطفلة مريم ما يحدث في محافظة الرقة خاصة وبسوريا عامة كما تروي لطفلتها قصة حبها لأبيها وكيف تم الزواج بينهما رغم معارضة الأهل. الرواية تعرض مجمل التغيرات الفظيعة التي تتعرض لها سوريا، حيث تبدأ الرواية ببداية الأحداث بالرقة وتتطور بدخول داعش ثم تتصاعد الأحداث بهروب مريم مع أمها عبر بعض الأصدقاء لتصل إلى مسقط رأسها في محردة، وتستمر التطورات متصاعدة حتى تقرر الأم أن تهاجر مع مريم وهنا تبدأ المعاناة بوجه آخر ثم تنتهي الرواية بمخيمات اللجوء السوري. وفي هذا السياق خص الكاتب والروائي محمود حسن الجاسم، "البوابة نيوز" بنشر جزء من رواية نزوح مريم المدرجة ضمن القائمة الطويلة للبوكر. *** يتكاثرون ويتوزّعون في مراكز الدولة. أقاموا الحواجز، واحتلّوا المؤسسات! ردّات الفعل لم تتوقف: -"حوّلوا المدارس إلى مخازن أسلحة". -"صفّوا الكثير من الموالين". -"القصف من الفرقة والمطار ذبحنا". -"يا بن الحلال، البراميل والصواريخ دمّرَت نصف بيوت الرقة". مع الأيام تصبح الكلمات التي يتبادلها الناس قليلة، ناشفة، حادّة وعصبيّة. تتزايد المظاهر العنيفة المسلّحة المفاجئة، في الرّقّة كل يوم، وتتكاثر الوجوه الغريبة، وتنشر أنفاسها المخيفة في هواء الفرات! ذات مرة اتصلَت أم سالم مرعوبة: -دخلوا على المصرف ونهبوا كلّ المصاري. يقول سالم: "مليارات متَلْتَلَة"! وحين سألته: أين أخذوها؟ انفعل وأجابني: -وهل يقولون لنا؟ كنّا نتكوم مثل الغنم. لم يسمحوا لنا بالاقتراب! عبارات تتناثر في فضاء الرقة، تؤمّل النفوس، ومع القهوة الرقّاوية يسيل الحديث، مثل النزيف الحارق: -"يلعن أبوهم وأبو ساعتهم". -"الله يقطعهم". -"يقمعون ويقتلون أبشع من أول". -"اصبروا، يا جماعة. الصبر زين! ولكلّ شيء نهاية". -"نهبوا كل المراكز الحكومية. حتى الآثار سرقوها". -"حليب الأطفال ما له أثر بكل المحلاّت". -"الخبز صار حسرة. يصبغون يد الواحد. كأنه مجرم". -"يمغّرون يد الولد برقم. يصير مثل النعجة. يظل أكثر من خمس ساعات، وأحيانًا يرجع من غير خبز. وهل تركوا قمحًا. سرقوا صوامع الحبوب. يقولون: سرقها شخص كان عامل فرن". -"ما لنا إلا الصبر. مرحلة وتعدّي". -"كل قادر على الخلاص هرب حتى الأطباء هربوا". انطفأت لحظات الفرح. نشوة النصر المُدَويّة التي استحوذت على قلوب المعارضين بدأت تحتضر! السلطة في الرّقّة تغيّرت. نظراتها مخيفة، عنيدة، تتسلّل عبر كل شيء في النهار والظلام! تتسلّق الوجوه والجدران والبيوت، مخيفة مثل أفعى غادرة لها مئة رأس، تترقّب لتلتهم فريستها. باتوا يُفتّشون عن كلّ شخص كان يومًا مع الدولة. يأخذون الشخص ويختفي! تعلّق عمتي خديجة: -بين البراميل وملاحقة المسلّحين ضعنا وضاعت الرقة! يزداد خوفنا في البيت، وتستبدّ بنا الوحشة، والهواجس تثقل النفوس، والناس تفكّر في شراء الأسلحة للحماية! لا أحد يجرؤ أن يرفع صوته. صور الرئيس السوري بشار الأسد تُداس بالأحذية، وتمثال حافظ الأسد دُمّر فور دخولهم. مؤيّدوه يشاهدون صامتين. يطأطئون الرءوس. يمضون متشاغلين من دون تعليق! لا أحد يجرؤ أن يفسّر أو يحتجّ أو ينتقد. الحيرة والخوف في النظرات! سماء الرّقّة –يا مريم- تغيّرت. بدل الحمام والعصافير، بدل القطا العابر، بدل أنغام المُولَيَّة، تحولت إلى أشباح مفزعة! براميل الموت تسقط مثل كتل بركانية متفجّرة. تلك الكائنات الضخمة الجهنّمية، حين ترتطم بالأرض نظن أن الرّقّة تعرّضت لزلزال كبير. لانفهم ماذا يحصل؟ ولمّا أخذت القصة تتكرّر بدأنا نميّز البرميل من الصاروخ. عام 2013 كان عامًا حافلًا بالمصائب الكبرى في سوريا، مجازر مرعبة تحصد آلاف السوريين. الأهالي في المجالس والمضافات يعلّقون على ما يحدث خارج الرقة: -"ذبح بالسكاكين مئات الناس بالبيضا وغيرها". -"صواريخ الكيماوي حصدت آلاف الناس" يرد أحدهم: -مئات ما في آلاف! -أنت شبّيح؟ تصدّق ما يقوله التليفزيون السوري. -"ريف اللاذقية الموالي للدولة يتعرّض لخطف عائلات". يردّ آخر: -"وغير الموالي يتعرّض لأبشع". -"ريف حماه وحمص ميليشيات". -"مئات الجنود قتلوا في كمائن بداريّا". -"معلولا سقطت بيدهم، واختطفوا وقتلوا". -"قتلوا عشرات الجنود في درعا، فردّوا عليهم بمجزرة مروعة بحق الأهالي". -"حلب دمروها، ونهبوا سوق المدينة وأحرقوه، وقتلوا وشرّدوا أكثر من نصف الأهالي". أمّا في الرّقّة –يا مريم- فكانت أكبر المصائب في نهاية نوفمبر 2013 حين اهتزت الرّقّة بما فيها شارع المنصور مع شارع 23 شباط! ظننا أن زلزالًا ضرب الأرض. يومها ذهب الضحايا بالعشرات، انعجنت الدماء بالخبز، ودُمِّر الفرن السياحي مع نصف الحيّ، بعدما سقط فوقه صاروخ ضخم أطلقته قوّات الحكومة السورية. *** الحواجز القليلة المتنوعة بدأت تكثر، تتزايد الحواجز وترفع رايات مختلفة، لكن العلم الأسود هو الغالب عليها! يحسّ الأهالي بتغيّر جذري في كل شيء. تغيّر بدأ فجأة من دون مقدّمات. تغيّر بدا مهينًا يختلف عن عادات أهل المدينة. يستهدف قِيَمهم. ينخرطون بعملهم مترقّبين قلقين. لا يتوقفون عن الشتائم في السرّ بأصوات خافتة. بدأ الكثير منهم يعيد حساباته، ويندم على الساعة التي خرج فيها، وصرخ بوجه الحكومة! -"كنا نظن أننا ننشد حرّيّة حقيقيّة". -"رعب المخابرات أرحم". يتذمّرون. تتجعّد وجوههم وتتقلّص وتنعقد حواجبهم وتضيق العيون وترفّ. ترفّ أحيانًا رفيفًا متكررًا وتتحرك قلقة حانقة، كما يدور عصفور في قفص. في العيون وميض حزين. صار الكلام يعلو. نسمعه حتى من الذين هلّلوا في البداية. كل يوم يرون أشكالًا جديدة. يشتمون ويحتجّون. يأملون بالخلاص. يعلّقون بغصّة على الوجوه الغريبة التي تجتاح مدينتهم. -"مثل ديوك الهندي". -"مثل الماعز المبقّع والأسود". -"مثل القطط المشبطة يتقافزون طوال الليل ويصرخون". أكثر من مرة ونحن نتحدث في المطبخ نسمع تراشق نيران، ما عدنا نفهم مَنْ يقاتل مَنْ. التراشق نسمعه من كل الجهات. تضع عمتي يديها أمام وجهها، تبكي بصمت، وأرى الدموع تبلّل أصابعها، قبل أن تضطر لمسحها حين تراني. ترفع رأسها: -لو نعرف مصير هاشم. لو نعرف أين اختفى بشير. حتى إيناس انقطعت أخبارها! تصمت. ثم تتحسّر وتقلّب عينيها، وكأنها تبحث عن خبر، وربما طردت خوفًا أو هاجسًا لا تريد أن تتخيله: -الله يسامحك يا بشير لا حِسّ ولا خبر! أحيانًا تفقد رزانتها وتوازنها، تصرخ منفعلة باكية، تخاطبه كأنه أمامها، وتنهار بعويل فظيع! لا تذكر هاشم، كأنها بذلك تريد أن تُخفّف عني. فنصمت متواطئتين! ذات مرة سمعنا في الليل عند الجيران صوت المطرب يوسف حسين الحسن يغنّي "سويحلِي ولكّاحي": "مَرّيْت اعِنْ بِيْجْ يا دارَ المْحِبّين هُمّ اغْدَرَوا بِيْجْ اَلْبِيْهُم فظاةَ الْبالْ." -يا عمتي الحكّام الجدد يرفضون الغناء، أخاف على جيراننا! رأيت عمتي متأثِّرة بالغناء. كانت متفاعلة صامتة شاردة، وتغمض عينيها: -.....! -قد يتعرضون للأذى! -آااخ يا بنيتي، والله الليلة أخو خولة فتّح جروحنا! يحفر الوجع ثقيلًا في قلوبنا مع الزمن! تستعيذ عمتي خديجة بمفردات دينية، وتكرّرها باستمرار، وتكثر من الصلاة. تردّد أحاديث وقصصًا من الماضي، مع الأحبة. لا تستطيع أن تستمر بتجاهل حزنها على غياب هاشم تحدّثني عنه: -كان هاشم يحبّك كثيرًا، يا سارة. حين قال "مسيحية" ضحكت. وتخيّلت أبي حين تزوّج أمي المسيحية الأرمنية أيام "السّوقيّات"، وقلت له: -يا هاشم كأنك تقلّد جدّك خليل الشلاش! تستمر عمتي في قصّ حكايات سمعت معظمها. أما أنا فأغيب، ألجأ إلى الماضي في مزرعة النجاة، أذكر حين تناقشنا حول مشكلة الاختلاف الديني بيننا، كنا نتمشى عصرًا في بداية شهر أيار على الطريق بقرب المزرعة. تمشّينا على الطريق الإسفلتي، ثم ابتعدنا في مشوارنا بين الحقول. رائحة القمح الطري أنعشَتنا، وراح أبوك –يا مريم- يفتح لي قلبه ببوح حميمي، فأشعرني بمحبّته الصافية! تهمي كلماته مليئة بالتنهّدات والأحلام والطيب والأشجان والمحبة! حين يفتح الرجل قلبه لامرأة تشعر أنها امتلكته بالكليّة! وهذا ما كنت أشعر به! -يا سارة، لونك بلون الحنطة الفراتية، وشعرك فاحم السواد. بصراحة أنت آية من الجمال العربي الأصيل! -لو كنتُ شقراء ما بقي فيك عقل! -بالعكس هذا الجمال العربي أراه في الجمال الفراتي. تشبيهن معشوقات العذريين بأشعارهم! وقفت وأسندت يدي على قناة الرّي، ونظرت في سنابل القمح، وهي تموج على مدّ الأفق. وقلت له وأنا أنظر في عينيه: -حبّنا مكتوب له الفشل! -لا! مكتوب له النجاح. إلا إذا أنتِ. قاطعته، وقلت بصوت فيه نبرة حزن: -هناك عائق يقف بيننا. أنت من دين غير ديني! -الدين ليس مشكلة عندي. سارة اسمحي لي أن أتفلسف قليلًا، فأقول لكِ رأيي في الاختلاف الديني. أبعدتُ شعري عن عيني بعدما تناثر بسبب نسمة هواء قويّة، وقلت: -تفضّل. -الاختلاف مظهر طبيعي في الحياة، وهذا الاختلاف لا يقف حاجزًا بين البشر. ركّز نظره على وجهي حتّى يرى أثر كلامه، وانتزع ورقة من شجرة الكينا على الطريق، ودلّكها بين أصابعه، ثم قذفها، ونظر في حقل القمح الأخضر أمامنا، في حين ضحكتُ وعلّقت: -وما علاقة هذا بكلامي؟ -له كل العلاقة. هذا الاختلاف أراه إيجابيًا. البشر يختلفون في الدين والجنس والعِرق واللون. الله خلقهم مختلفين. وفي العقلية الناس مختلفون. لا يمكننا أن نكوِّنَ القناعات ذاتها إلى درجة التطابق، بما فيها القناعة الدينية، يا سارة! ولكن يجب ألّا يكون أيٌّ من هذه الاختلافات حاجزًا. بدأت حركة البعوض قبل الغروب. طنَّت بعوضة عند أذني فحرّكت يدي، لأبعدها عن رأسي: -إن ما تقوله هو من باب التمنيات، لكن الواقع غير ذلك. كان أبوكِ –يا مريم- مستغرقًا في أفكاره، ينظر إليّ بجدية عاشق مسئول عن مصير حبيبته، فشعرتُ كأنني ملكة تحظى بنعيم الله المتدفّق. -يا سارة قناعة الإنسان بوجود الله مسألة ضرورية. مسألة تتعلق بمواجهة الطبيعة والوجود. تتعلّق بالقيم والأخلاق. مسألة لا غنى عنها للمحافظة على نظام أخلاقي يميّز الإنسان. ضحكتُ لهذا التنظير، والتفتّ إليه بحركة أنثوية، كان قرص الشمس المتلوّن في وقت الغروب، وقد أصبح بلون وردة برتقالية جميلة، يضفي جوًّا خاصًّا، يجعل كلماته تنساب متدفقة لأسبح وأغيب في نغم كلامه، فعقّبت: -ما قيمة كل ما تقول إزاء عقبة زواجنا؟ ما الغاية من كلامك؟ ثم هناك من ينكر وجود الله، ويحقّق إنجازات علمية كبيرة ويرتقي ويتطوّر! قلت كلماتي، وأشرت إليه أن نتحرّك بهدوء باتجاه المزرعة، وكنت منشغلة بإبعاد البعوض عن وجهي بامتعاض. كسر غصنًا من شجرة كينا، وراح يطرد البعوض عني، ويقترب مني: -نعم. قد يُنكر. ولكن في صميم وجدانه يؤمن بوجود الله. لا يمكن أن تجدي إنسانًا يرتقي بأفعاله، ويخلو من هذا الإيمان. فالإنسان لو عاش في كهف، أو في برج، أو في غابة، أو في صحراء، سيلجأ إلى صوت غامض خفي، يحاوره ويطلب منه المعونة! وإذا كان الله غير موجود في أي مجتمع بشري فإنه سرعان ما ينهار! -كنا نناقش مشكلة اختلاف الدين كعقبة بوجه الزواج، ونقلْتَنا إلى محاضرة. فيلسوف ما شاء الله ! لكن ما علاقة هذا بموضوعنا؟ -إنه في صميم الموضوع. - لو ذهبتَ إلى أهلي بمحَرْدة بهذا الكلام سيضحكون كثيرًا، وسيشكرونك على كلامك الجميل! -سنتزوج. لديّ يقين داخلي يؤكّد ذلك! يا سارة، إنّ الله موجود في كل الأديان، ولأنّ البشر يختلفون في تكوينهم نراهم يختلفون في تصوّره وفهم تشريعاته، ولا يمكن جمعهم على راية واحدة، وهذا يعني حتمية الاختلاف. وعدم احترام الاختلافات بين الأديان، ومحاولة فرض الأفكار على الآخرين، يعني عدم احترام النظام الإلهي الذي أرساه الله، وفطر عليه الإنسان، وهو الاختلاف! دبّت العتمة وظهر القمر في جوف السماء. عقّبتُ: -نعم أعرف هذا ومقتنعة به، كلامك جميل، ولكن ما الفائدة؟ الواقع سيمنع الزواج! -أريد القول إنّ الخلاف جزء حتمي وطبيعي، وهو من سنّة الوجود، ومن لم يستوعب ذلك ففي عقله مشكلة! -هل درستَ ذلك في كتب الهندسة الزراعية؟ ضحك وصمت قليلًا. غطست الأشجار بالعتمة، لم تظهر إلا رءوسها، كانت خطواتنا رتيبة فوق الإسفلت لها وقع متكرر! وكانت وفود الأهالي تعود من بساتين الخضرة، فيقطعون حديثنا أكثر من مرّة بالتحيّات، خاصّة لوالدكِ. لحقت بنا مجموعة من الفتيات مسرعات فصمَتْنا، وقبل أن يتجاوزْنَنا. أخذنَ يضحكن ويتحدّثن بحديث سمعت بعض عباراته: -"عود الخيزران والمحَرْداوِيّة المزيونة!". -"هو أحلى منها". -"تتمايل بالجينز، وتظنّ حالها حلوة. لبّسيها مثلنا، وشوفي شكلها". قهقهة وهمس. كان هاشم يبتسم ويتجاهل، ثم أكمل: -يا مريم، نحن نأكل المأكولات السورية نفسها، ونغنّي الأغنيات الفيروزية والشعبية نفسها، ونؤمن بالخرافات والحكايات نفسها، ونحلم بذات الأحلام، فلمَ تقف الانتماءات الدينية بوجه الزواج؟ لماذا؟ سوريا استوعبت كل الأديان ومزجتها بطريقتها السورية. أراهن لو أي سوري بحث في شجرة نسبه لوجد الأديان كلها تجري بدمائه. إنها سوريا! - لو فُهِمَت الأديان كما تقول لكانت أعظم وسيلة إنقاذ للبشر! -يجب أن تُفهم كذلك. التعصّب يدل على العمى والقصور، وكل فكر متعصّب يفضح عوراته بأفعاله، ويمارس الجريمة من دون أن يعلم. يزرع الحقد والكراهية، لأنه يبني يقينًا مشوَّهًا ناقصًا. لا يعرف الشفق الإدراكي الحدسي، ويغرق في أوهام العقل الإنساني! اقترب منّي أكثر ثم أضاف: -أنا سوريّ وأنت سوريّة. ما يجمعنا من مشتركات أكبر بكثير من العصبيّات الدينية الضيّقة، يا سارة! غرقت في الصمت وفي كلامه. وعلى ضوء القمر كنا نتبادل النظرات العاشقة بتناغم صامت سِرّي، لشهوة تتفجّر في داخلنا. أسرَتنا لغة الصمت، ونحن نسير باتجاه السكَن في عودتنا. وعلى وقع الخطوات وهمسات الأنفاس اقترب مني فحرّكَتني أنفاسه الحارَّة! وفي العتمة لا أدري كيف اقترب أكثر ولمسني، فابتعدتُ محتجّة! -يبدو أنّ كلامك خلص، وشَغَلك شيء آخر! ولم تجد حلاًّ للمشكلة الدينية! - بل شدّتني رائحتك الرائعة! ثم إننا سنتزوج، أنا أصرّ على ذلك إذا كان لديك الشجاعة! ظننته يبالغ –يا مريم- شأن الرجال، عندما يأخذهم جنون العشق. صمتُّ ولم أعلّق، ولكنه أضاف: -لماذا لا تتكلّمين؟ أنا جادّ. نحن في البيت ليست لدينا مشكلة. أخوال أمّي مسيحيون! -كيف؟ -قصّة طويلة. جدّتي أم والدتي من المهجّرين الأرمن. الذين فرّوا من تركيا، وجاؤوا إلى الرّقّة. أيّام "السّوْقِيّات". كانت فتاة مقطوعة، قُتِل أهلها جميعًا، وجاءت مع أقاربها، في بداية شبابها، وتزوّجها جدّي من أمي. لكن لم تجيبي. هل بإمكانك الموافقة؟ -عندما تقرّر لكلّ حادث حديث! -أنا قرّرت، وجاهز بأي لحظة. ثم دار ليواجهني، وقال: سارة، أريد الزواج منكِ، وبأقصى سرعة. قالها، وبدأ يقترب مني! وبجرأة رقّاويّة مدّ يده، وخطف يدي ووضعها بيده فتشابكتا واستسلَمَت يدي! يده كانت حارّة قوية. أشعرَتني بأمان وبدأت أدوخ. اشتعل خدّايَ. سرى الدبيب في صدري ينحدر إلى الأسفل، وقلبي يخفق بمحبّة مشتعلة مجنونة. يخفق بكل تعابير العشق! عدنا في العتمة على ضوء القمر متشابكي اليدين. قلوبنا تخفق، ونشتعل أكثر! لم يعد يكترث! شدّني إلى تحت شجرة كينا ضخمة على طرف الطريق. قرّب وجهه من وجهي وانسلّت يده الثانية، وطوّقت خصري، فغمرَتني أنفاسه الحارّة. وعندما انتقلت حرارة يده من وراء اللباس، أشعلَت جسدي مثل لهب وارتخت عزيمتي. في العتمة بجانب الطريق احتضنني، ومرّر يده الثانية على خدّي وعنقي. شعرت بدوار واضطراب، فأغمضتُ عينيّ وسَرَت في جسدي إثارة دوّخَتني. راح يهمس بكلمات فراتيّة لذيذة، طعمها كالعسل تجعلني سيدة الوجود. كنت أغمض عينيّ. في حين يهمس في أذني وأتنشّق أنفاسه. طعم لذيذ لم أعرفه من قبل. سقطت المحفظة من يدي وانساقت أنوثتي تنجرف مع بركانه الهائج، من دون ممانعة. كنت عاشقة مستسلمة تتوسّل بآهاتها: هنا. هنا تحت الشجرة! تلك كانت أيام مزرعة النجاة. أيام البعوض التي انقلبت إلى جنّة من الحب. والآن يا هاشم. ماذا أفهم مما يحدث؟ وماذا أقول لكِ –يا مريم- عن والدك؟ هل هو فيلسوف أكبر من صراعات الأديان والمذاهب والأحزاب والجماعات؟ هل كل هذه الجرائم ضرورية لأجل التغيير؟ يا يسوع لماذا كل هذا الدم والخراب؟ أتذكّر تلك اللحظات الدافئة، وأبكي حظي العاثر بعد الفاجعة، ولا أعرف ماذا أفعل أمام واقعي الجديد! لو أنهم أخذوني مع هاشم! لو كنا في مكان آخر! لو! كنت تمزّقين قلبي عندما تتذكّرينه وتردّدين باكية: -بابا. بابا! هل تذكرين يا مريم؟ ***