حدثان عزيزان على قلوب اللبنانيين التقيا هذا العام، هما المولد النبوي الشريف وأعياد الميلاد التي يحتفي بهما اللبنانيون كل عام بشكل منفصل، ولكن هذا العام شاءت الأقدار أن يكون الاحتفال بهما متزامنا. واللبنانيون المغرمون بالاحتفالات عامة يولون أهمية خاصة للاحتفالات والأعياد الدينية في مجتمع تتعايش فيه 19 طائفة، وتحتفل كل طائفة بأعيادها وتحرص في الوقت ذاته على تهنئة الطوائف الأخرى ومشاركتها احتفالاتها. وأتاح التقارب في توقيت المولد النبوي وأعياد الميلاد فرصة مميزة؛ لإظهار تعايش اللبنانيين اجتماعيا ودينيا، رغم تنوعهم الفريد الذي لايوجد له مثيل في العالم في مظهر يؤكد أن الخلافات اللبنانية هى خلافات سياسية بالأساس. وليس أدل من ذلك على أن الموقف السياسي للبطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي المؤيد حتى ولوضمنيا لمبادرة رئيس تيار المستقبل سعد الحريري للنائب اللبناني سليمان فرنجية مشابه لموقف مفتي لبنان عبد اللطيف دريان، الذي يراه فرصة لإنهاء الفراغ الرئاسي. ويعتبر البطريرك الماروني أن العيد الحقيقي للبلاد هو يوم أن ينتهي هذا الفراغ ويلتئم مجلس النواب اللبناني لانتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية، هذه الجمهورية التي يفخر اللبنانيون جميعا أن رئيسها هو الرئيس المسيحي الوحيد في الشرق، تأكيدًا على أن لبنان هو النموذج للتعايش بين المسلمين والمسيحيين على مدى 1400 عام، صنعوا فيه ثقافة وحضارة مشتركة، كما قال البطريرك الماروني اللبناني في رسالته للعيد اليوم. وقد أعاد التقاء المولد النبوي وأعياد الميلاد، والاحتفاء الرسمي والشعبي بهما التأكيد على أن لبنان يقوم على التعايش والمناصفة بين المسلمين والمسيحيين. ولذا لم يكن غريبا أن يقيم وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل - رئيس التيار الوطني الحر - أكبر تيار مسيحي في البرلمان حفل استقبال بمناسبة المولد النبوي وأعياد الميلاد. ولم يكن غريبا أن يقوم رئيس الحكومة تمام سلام بزيارة البطريرك الماروني اللبناني وتهنئته بأعياد الميلاد، ويؤيد موقفه في الاستفادة من الفرصة التي تتيحها مبادرة الحريري لانتخاب رئيس للبلاد. وقبل ذلك بيومين، قام سلام بزيارتين في يوم واحد إحداهما إلى دار الفتوى، حيث قام بتهنئة مفتي البلاد عبد اللطيف دريان، والثانية إلى مقر المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى لتهنئة نائب رئيس المجلس عبد الأمير قبلان بالمولد النبوي، في تأكيد على رسوخ العلاقة بين الطائفتين السنية والشيعية في البلاد بصرف النظر عن الخلافات السياسية بين القوتين الأساسيتين لهاتين الطائفتين. أما في الشارع البناني، فقد وقفت أشجار الميلاد تحيي اللافتات التي تحتفي بمولد الرسول الكريم، ونصبت أكبر شجرة ميلاد في بيروت بساحة الشهداء قبالة مسجد محمد الأمين أكبر مساجد بيروت (الذي دفن به رئيس وزراء لبنان الراحل رفيق الحريري بجواره). وشهدت شوارع بيروت أمس احتفالات صاخبة بالمولد النبوي، وقام المتطوعون بتوزيع الحلوى في الشوارع وعلى المنازل، فيما صدحت عبر مكبرات الصوت الأغاني الدينية التي تمتدح النبي محمد عليه الصلاة والسلام وسط حالة من البهجة لم يعكرها ازدحام حركة المرور جراء هذه الاحتفالات التي جاءت هذا العام أكبر حجما ونشاطا من أعوام سابقة. وقامت مدارس المسلمين بإحياء أنشطة ومسرحيات تلقن الطلاب سيرة الرسول، الذين زادت فرحتهم تلاقي أجازة المولد النبوي بأجازة أعياد الميلاد. واحتفى اللبنانيون سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين وتفاخروا بحصول شجرة الميلاد في منطقة "بنشعي " على المركز السادس عالميا من حيث جمال الزينة في المسابقة التي تجريها صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" لتتفوق على بعد الدول والمدن الكبرى مثل انجلترا وألمانيا ونيويورك. إنها لبنان..بلاد الأرز..بلاد التنوع والتعدد منذ الأزل، فاللبناني الذي احتمى بالجبل وجاب البحار، بقدر ماعرف عنه الانفتاح بقدر ما عرف عنه اعتزازه بهويته الدينية والمناطقية والعائلية، وأثبتت نجاحا يقتدى به في حب العلم والعمل، والتعلق بالحياة واحترام الآخر.