قال الجاحظ، رحمه الله تعالى : الذاكرة ملكة مستبدة ، وقالوا قديما : ثلاثة يمكنهم هدم الكون كله وإعادة تركيبه كما يريدون هم : ( النبي والفيلسوف والشاعر ) . يبدو أنني الآن أعيش فرصة كبيرة تمكنني من التعبير عما أريد بكل حرية ، فلست أعيش في زمن احتلال كما عاش بيرم التونسي وسيد درويش ، ولست خائفا من القمع كما خاف فؤاد حداد وصلاح جاهين ، ولن أكون متنكرا في ثياب كما تنكر جحا وابن عروس ليعبروا عن مجتمعهم دون مساءلة من ملك أو سلطان. ورغم هذه الفرصة الكبيرة إلا أنها تحملني وتحملكم مسئولية كبيرة ، فحديثي ربما يظنه البعض أقرب للوعظ الديني والإرشادي منه إلى النقد الأدبي ، ولهم العذر إن ظنوا ذلك ، فالكلمة مسئولية ، وكل متكلم عربي يدرك أنه مسئول عما يقول . فقد نبهنا محكم التنزيل : مايلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد . *************** يقصد بالخطاب الشعري هنا طريقة تقديم النص ، حسب تقنيات وأدوات الكتابة الشعرية ، فالخطاب الأدبي في أبسط تعريفاته هو طريقة تقديم النص الأدبي . وتأتي الإشكالية الكبرى في العامية المصرية من وجودها كأداة للتفاهم بين جميع أفراد المجتمع ، وأن هناك اتفاقًا على هذه المفردات بمعان وصيغ وتركيبات محددة ، ولذا فإن الشاعرة حينما تستخدم اللهجة العامية فسوف تعاني من تعلق المعنى القديم بالمفردة ، في الوقت الذي تحتاج أن تضعه في معنى جديد لايتناقض والاتفاق السابق عليه . فالمادة الخام التي تستخدمها الشاعرة هي اللهجة العامية المصرية ، وهي الأداة ، وتختلف صناعة النص الشعري عن كل الصناعات والمهن ، حيث إن الأداة تستمر مع النص ، بل هي التي تعرض هذا النص ، وبالتالي حينما تختار الشاعرة مفردة فعليها أن تحملها بالمقومات الجديدة التي تجعل الكلمة عاملا نصيا ، بحيث يختلف وجودها في المعجم اللغوي عن وجودها في النص الأدبي . وهناك كثيرون _ في وقتنا الراهن _ يكتبون مايسمونه شعر العامية المصرية ، وكثيرون يتناولونه على أنه شعر ، والحق أنهما يكتبون ما يمكنهم كتابته ، والغالبية لا يوظفون شعرهم ، لعدم علمهم بوظيفة الشعر ولا بماهيته ، فالشعر الذي ينبع من المجتمع ويصب فيه مرة أخرى ، من الضروري أن يكون جزءًا من تطور وتقدم هذا المجتمع ، في وقت تغيرت فيه الحياة ، فقد أصبح العالم كله قرية صغيرة ، يعرف بعضها بعضا ، وتنتقل الأحداث خلال ثوان معدودة ولحظات محدودة ، وتصل الرسالة بعد ضغط زر الإرسال مباشرة ، ولايستغرق ضغط الزر إلا جزء من الثانية. حينما يدرك الشاعر المصري ذلك جيدا فلا بد أن يكون على مستوى المسئولية ، فلم يعد الشعر معبرا عن إحساس صاحبه فقط ، ومعبرا عن إحساس مجتمعه فقط ، بل أصبح الشعر معبرا عن معرفية جديدة ، وأفكار يريد الشاعر أن يبثها أو ينقلها للعالم من حوله . كان هذا تقدمة يسيرة لأتمكن من أن أدلف لديوان ( سوسنة ) ، للشاعرة المصرية / نادية لطفي ، والذي قدَّم له أهم شعراء الأغنية المصرية في وقتنا الحالي الشاعر / إبراهيم رضوان ، الذي قرّظ الديوان ، وأثنى على خطابه ومضمونه ، وعلى إيقاعه ولغته ، وعلى تراكيبه وتوجهاته ، فنبهني لجماليات ما كنت أعرفها ، ودلني على مواطن شعرية رائعة ، فكانت دراسته للديوان دافعا لي بأن أفتش عن الشعرية الراقية التي ضمها هذا الديوان بين دفتيه . يضم الديوان إحدى وثلاثين قصيدة ، فالقصيدة الأولى بعنوان ( كنت وكان ) ، والقصيدة الأخيرة بعنوان ( براهن عليكي ) ، وبينهما العدد المتبقي من النصوص الشعرية العامية ، التي تعبر عن مواقف متعددة ومتنوعة ، كتبتها الشاعرة بحرفية وفنية ، حيث تبرز تمكنها من أدواتها وفهمها لوظيفة شعر العامية المصرية ، وتقنياته المختلفة . كنت باحصّن كل حواسي ضد طوفان الحب الجارف كنت باطمن قلبي الخايف دايما ... دايما كنت باحرم اكل التوت الشهد ف طعمه واقول احسن رغم الجوع القارس فيا كنت باداري الشوق الناطق جوه عينيه بكل حروف العشق الدايبة . هذا مدخل الديوان ، الذي تلا مباشرة قراءة شاعر مصر الكبير / إبراهيم رضوان ، وزن خبب رقيق راقص ، يستخدم تفعيلة ( فاعلن ) بكل ما يمكن أن يطرأ عليها من تحويرات وتغيرات مثل ( فاعل _ فعل _ فعلن _ فعلان _ فاعلان ) ، فالإيقاع ( موجي ) يرتفع وينخفض ، ويتقدم ويعود ، ويهدأ ويثور ، ويرضى ويغضب ، ويقبل ويرفض ، ويحنُّ ويجفو . يتناسب جدا مع الحالة النفسية حينما نستبطن المفردات في تجاورها وتماسها لتضع المتلقي في ذات الجو النفسي ، حيث ترصد الكلمات مواطن القوة والضعف ، والعزة والضعة في الفتاة العربية ، وبخاصة المصرية ، التي ترهبها كلمة الحب ، حيث ما تراه هي حبا يراه المجتمع خيانة ، فتضطر أن تغلق قلبها على حنينه ، وتلف لسانها على كلماته ليصمت ، وتمنع جوارحها عما تتلذ به من طعام وشراب ، فحتى التمتع بالطعام والتلذذ بالشراب من المحرمات عليها ، بل هو من جملة الممنوعات التي يجب ألا تقربها فتاة العرب المصرية . يا شمس التاريخ اللي ساند خطانا يا أم الضمير اللي عرش قلوعه على الكون حياة يا سجدة صلاة جوه قلبي اللي عايش بطهر الندى والحنين والمشاعر بتحضن ف كل اللي قلبه بينبض بهمس السلام هواكي غرام في ارض العذارى يرفرف نسيمه بيهدي الحيارى يفوَّق سكارى بسيف اليقين بارهن عليكي بعمري اللي باقي وقلبي اللي لسة بينزف حنين ********* هذا هو القفل الذي تختتم به الشاعرة / نادية لطفي ديوانها ( سوسنة ) ، وهي تتحدث عن حبها لوطنها ( مصر ) ، فيبدأ الديوان بحبها لذاتها ، ثم يرتقي ويعلو ويسمو ليصل ذلك الحب لوطنها ( مصر ) ، ألم أقل إنها شاعرة على مستوى المسئولية الشعرية ؟ ، تفهم ما تقول وتقول ما تفهم ، وتعي كيف تطور ديوانها كما تتطور في داخلها ، وتطرح فكرتها بوضوح ويسر ، فهي تمسك البوصلة الشعرية ، التي تنير لها درب التقنية ، وتمكنها من اختيار المفردات باصطفاء النبلاء. للشاعرة تجربة سابقة مع اللغة الفصحى ، حيث قدمت للمكتبة العربية ديوانا شعريا بعنوان ( مني رغما عني ) ، ديوان طريف في عنوانه ، جيد في محتواه ، حصلت منه الشاعرة على فائدة رائعة ، تتمثل في تفريقها بين اللهجة العامية التي امتهنتها في ديوان ( سوسنة ) ، وبين الفصحى التي حاولت أن تنجب منها شعرا فصيحا في ديوانها الأول السالف الذكر . هذه الميلة توضح للقاريء أن الشاعرة تبحث عن التقنية المناسبة لكي تجعل أدبها مفيدا وموظفا لخدمة مجتمعها ، وقد اتضح هذا جليا بوقوعها على ضالتها التي وجدتها في اللهجة العامية المصرية ، حيث هي أقرب للتفاهم مع العامة ، والأيسر في تقريب وجهات النظر ، والأكثر انتشارا بين فئات المجتمع المصري ، وقد جاءت كلماتها في ديوانها ( سوسنة ) في المنتصف تماما بين الفصحى الميسرة والعامية المشهورة في الوجه البحري الذي يشمل محافظات مصرية متعددة ( الدقهلية والقليوبية والغربية والشرقية ومحافظات القناة والقاهرة وغيرها ) ، هي تكتب بلغة نصف الشعب المصري تقريبا ، ويفهمها النصف الثاني ، ليسرها وسلاستها . كلمات مموسقة ، دون تقعر في اللفظ أو تقعر في التركيب ، ودون إسفاف في المعنى ، أو تطرف فيه ، غنائية حد الأغاني الملحنة ، فضفاضة في الدلالة . حبيبي كل شيء فيا بيشبه لك وينده لك صدى صوتي عبير قلبك خلايا الروح نسيج عمرك جنونك عشق ترحالي وانا مالي ما انا ف الاصل باشبه لك وبانده لك غناء من نوع جديد غير مسبوق ولا مطروق ، ( مفاعيلن ) تطول وتقصر ، تتفرد وتتثنى وتزيد ، موسيقى متصلة ومنفصلة ، هزيج عامي يرسم دلال الفتاة الريفية المصرية ، تتدلل فتحمل من تحب مسئولية الدلال ، مطبوعة غير متكلفة ، لاتحتال للصورة لكي تثير ، بل تتناول اللفظ القافز أمامها ، لتجعله صوتا موسيقيا أولا ومعنويا ثانيا ودلاليا مستنتجا ومستنبطا ، بينما المعنى يأتي طبيعيا للغاية ، لكنه يحمل روحا فنية حريرية شفيفة ومتينة . ولذا فقد جاء خطابها الشعري متمثلا في عدم تحميل المفردة معان إشعاعية متعددة ، بل هي تحاول أن تكون ذاتها وليس غير ذاتها ، وقليلا ما تضخم من موضوعها مثلما فعلت في نص ( هي نظرة ) ، التي تقول فيه : _ نظرة تزرع جوه أرض البور حياة جوه شلال الهموم طوق نجاة نظرة بتنادي بهواها عشق تاه وسط عتمة ليل طويل عمال يدوسنا فيها خطوة بألف ميل طافي فانوسنا تنغزل لحظة لقاه في روحنا تاني تبتسم فينا الاماني وهكذا تهوّل الشاعرة وتطيل في استجلاء ما فعلته هذه النظرة ، وترسم لوحة كاملة لأثر هذه النظرة بألوان الأرض الأديمية ، وألوان الليل السوداء ، وألوان النور المنطفيء ، كما تتحرك هذه الصورة ، فتزرع البور بالحياة ، ليصبح البور مرادفا للموت ، وهو تعبير طريف ، وحركة الشلال السريعة ، وحركة الخائف في ظلام الليل ، فهو لا يدري كيف الوصول ! شاعرة صافية الروح دائما ، حالمة حتى الحديث في الحلم عن الحلم ، تقول : أنام واحلم باني هناك باصلي عليك وانا المشتاقة للروضة ياسبحة عمري يا طاهرة يا روحي وكل شيء ليا دموعي الدافية نزلت من عيون قلبي وخلاها ادان الفجر لأجل الروح مصلية صلوات الله وسلامه عليك يا نور العيون وشفاء الأمراض وجلاء الهموم ، نص يرسم صورة الشوق حينما يكون حقيقيا ، ويلون الوجد كلما كان طبيعيا ، ويظهر كيف ترتسم الخطوط في الأنامل قبل أن تهبط على نهار الأوراق ، فلا أجمل من القصر بأسلوب رشيق من خلال استخدام التعريف ( أنا المشتاقة ) فهذا قصر تمييز ، تعرف الشاعرة نفسها بين الناس ، فهناك المحب وهناك الخائف وغيرهما ، وتحدد هي ذاتها في التعريف بنفسها ( المشتاقة ) وكأنها متفردة بذلك . كل متاعها في الدنيا ، وكل ملكها هو حبها للرسول الأعظم ، وكأنها تقول ( لا قيمة لحياتي بغيرك يا رسول الله ، ولا متعة لي في الدنيا غير زيارة روضتك ) ، وتتطور الصورة الذهنية في الكلمات حينما تتحول الدموع لسجادة صلاة تصلي فوقها الروح ، فياله من عذاب نبيل ، وشوق جميل ، وحب ليس له بديل . الشوق للمحبوب يستدعي أن تتدلل عليه ، والشوق للوطن يستدعي أن تعيش له وتفتديه ، والشوق للرسول يستدعي أن تحن وتبكي لبعد المسافة ، عساها أن تشفي بعض الوجد . تدرك الشاعرة قيمة الحياة ، فترتقي بمشاعرها لتصبح تلك المشاعر إحساسا بالمعنى للموجودات ، وإدراكا لأهمية الكلمة التي تبلغ رسالتها ، هي تعيش في مجتمع ، فلابد أن تتكيف مع هذا المجتمع ، فهي تحزن للوطن ، وتشتاق للحبيب ، والمشتاقة دائما لروضة رسول الله وبيت الله الحرام والكعبة المشرفة . شاعرة صاحبة هوية ، تعرف نفسها في شعرها طبيعية ككل النساء تضحك وتبكي وترضى وتغضب ، فهي فتاة مصرية تحب وطنها ، ومسلمة تتبع رسولها ، وتحب مشاعر عبادتها ، ليست منغلقة على ذاتها ، ولاتعاني مما يعانيه الشعراء من أمراض نفسية ، تجعل معظمهم ناقما على وطنه وفئته وطبقته الاجتماعية ، ويشكو حظه وسوء أخلاق غيره في تعامله معه . شكرا لكم شاعرتنا الراقية / نادية لطفي التي أتاحت لي هذه الفرصة للسياحة داخل عقلية شعرية متزنة فكريا وانفعاليا .