بدأ ظهور خيرى فى المنزل مع بداية العام الأول لناهد بالمدرسة الإعدادية، واختفى من حياتها بعد نهاية العام نفسه بأيام معدودة. فلم تزد مساحات ظهوره المشئومة على أشهر قليلة، لكن آثارها امتدت حتى وقتنا هذا. ربما كان ظهوره بمثابة عودة الحياة إلى وجه صافى التى أغلقت أبوابها طويلًا فى أوجه الرجال، لكن اختفاءه جاء بانتكاسة هزت المنزل كله، وجالت فى غرفه الثلاث، وتركت آثارها على أركانه كافة. لا أحد يعرف لماذا قررت صافى أن تفتح أبواب قلبها لهذا الكائن الأصلع القصير، ممتلئ الجسد، بوجهه المستدير، وشاربه الذى يبدو فوق فمه الكبير كشريط حدودى رفيع، يزيد وجهه دمامةً، ويزيد البنات رغبة فى الضحك كلما شاهدنه يخطو من باب البيت بأذنيه الكبيرتين، وملابسه غير المتناسقة، خصوصًا الجاكت «الكاروهات» الذى يبدو أنه لا يغيره مطلقًا. لم يمنعهن من التمادى فى السخرية من مظهره سوى علامات البهجة التى بدأت تدب فى وجه صافى بعد سنوات عجاف، قضتها بوجهٍ متجهمٍ، قليل الابتسام.. فارتبط ظهوره، بعودة صوت ضحكاتها المجلجلة، والتى كانت توقظ النيام فى الرصيف المقابل، وعودة الدماء لتسرى واضحةً فى وجنتيها اللتين أرهقتهما المساحيقُ، وملابسها التى عادت لتكسوها ألوان البنات. كان يتردد على صافى، فى أى وقت، وبلا أى مقدمات، فتحتفل به، وتقدم له كل ما تطوله يدها، من طعام وشراب، ربما تبخل به على بناتها الثلاث، وأحيانا كانت تحتفظ من أجله بزجاجة «ويسكى» من أجود الأنواع المستوردة من الخارج، وتحرص على إبعادها عن متناول يدها، وأيدى ابنتيها الكبيرتين، سارة وفريدة، وتحديدًا سارة، باعتبار أن دماءها تحتوى على جينات فرنسية، ورثتها عن والدها، الذى عاد إلى بلاده بعد عامين من ولادة طفلته، وطلق أمها قبل أن تمضى أشهر قليلة، ثم نسى أنه جاء إلى مصر، أو عاش فيها أكثر من عامين، أو أن له فيها طفلة صغيرة، فيما كانت فريدة ابنة لزواج عرفى من ثرى عربى، تعرف على أمها فى كواليس مسرح البالون بعد سفر الفرنسى بما يقرب من العام، فلم يترك يومًا من شهور الصيف، التى جاء لقضائها فى مصر، دون سهرة خاصة، لا تخلو من أجود أنواع الخمور، لكنها، فيما يبدو، لم تكن كافية لإقناعها بأن تسمح له بالمرور فيما بين فخذيها. وعندما لم يجد أمامه مدخلًا إلى المرأة التى يشتهيها، إلا بالزواج، تزوجها بعقد عرفى.. فمر، وسافر، ثم عاد بعد ولادة طفلته التى لم يعترف بها، ولم يصدق أنها ابنته، وحده لا شريك له فيها، أو أنها ابنته أصلًا، لكنه دفع لها مبلغًا جيدًا حتى توافق على الزواج من الشخص الذى قدمه لها لكى تسجل البنت باسمه فى الأوراق الرسمية، والأرجح أنه دفع لهذا الشخص أيضًا مقابل استخدام اسمه، لأنه على الأقل لم يظهر فيما بعد فى حياة الأم، إلا لكى يطلقها، حتى تستطيع الزواج من شكرى، زميلها فى الفرقة بعد هذه القصة بسنوات طويلة، فلم يكن فارق السن بين سارة وفريدة يزيد على أربع سنوات إلا بقليل، فيما كان الفارق بينها وبين ناهد يقترب من اثنتى عشر سنة كاملة. كانت ناهد تدخل عامها الثالث عشر، عندما بدأت زيارات خيرى لأمها. لم تلاحظ بالطبع أنه أصغر منها بكثير، ويكاد يكون فى عمر إحدى بناتها، لكن ما لم يعجبها هو تفضيل أمها له، وانشغالها به عن كل شىء، بمجرد ظهوره عند الباب، فيما كان هو يتدلل عليها، ويعاملها بتجاهل لا يليق بامرأة لم تتجاوز بعد عامها الحادى والأربعين. لم يكن يتردد فى مغازلة سارة إذا وجدها فى المنزل فى نفس الوقت، ويعرض عليها خدماته التى كانت الأم فى أمس الحاجة إليها، لاعتبارات كثيرة، لعل فى مقدمتها عامل السن، الذى حرمها من عروض كثيرة، كانت تنهال عليها فيما مضى، فلم يعد أى من متعهدى الحفلات يصدق أنها قادرة على المشاركة فى العروض الحية، أو حتى العروض التليفزيونية التى يتم تصويرها على مراحل، ولا يشترط تصويرها مرة واحدة. وفيما كانت الأم هى التى تعرض عليه صورها، كان هو لا يتردد فى طلب صور سارة للنشر فى صحيفته، وهى التى انطلقت مبكرًا للغناء فى فنادق الدرجة الثالثة، رغم افتقاد صوتها لأى ملامح، لكنها كانت تملك جسدًا تتفنن فى إبراز مناطق الفتنة والإثارة فيه، بطريقة تتناسب مع جمهور السكارى، والباحثين عن الفرجة، والمتعة العابرة، وهى مناطق واضحة، تعرفها سارة جيدا، وتعلمت من أمها كيف تقدمها بطريقة تسر الناظرين، وتدفعهم للتقرب منها، وانتظارها. كانت سارة منذ البداية واضحة جدًا، فهى لا تريد الشهرة، ولا تبحث عن الخلود الفنى، بل وكثيرًا ما كانت تسخر من بعض المطربين الذين يتصورون أنهم أصحاب رسالة فنية. تقول لأختها الصغرى، بينما الثانية تمارس هوايتها الأثيرة فى تمشيط شعر أختها بالقرب من آذان الفجر: - يا بنت يا ناهد.. عندما تستمعين إلى أى واحد منهم، تشعرين كأنك أمام أفاقٍ كبيرة. يتحدث كثيرًا عن القيم والأخلاق، ومسئولية الفنان الاجتماعية. يملأون الهواء بالكلام عن الارتقاء بالذوق الفنى للجمهور، ومسئوليتهم عن الحس الشعبى.. فإذا ما حركتِ الكاميرا إلى الأسفلِ قليلًا، تجدين يديه، إما تلفان سيجارة الحشيش أو البانجو، وإما تقبضان على عضوه، أو تتسللان إلى فخذِ رفيقته. أقولُ لكِ.. بالأمس جاء إلى الصالة أحدهم. مطرب مشهور جدًا، نجم، واحدٌ من هؤلاء الذين يتحدثون فى التليفزيون عن دور الأغنية، وعندما ذهبت إلى حجرة المدير، وجدته هناك، ومعه امرأة فى سن أمه، جميلة بدرجة مذهلة، وشكلها يقول إنها شديدة الثراء.. كانت ترتدى فستانًا رقيقًا جدًا، أزرق زهرى، بزهور بيضاء صغيرة، واكسسوارات تنم عن ثروة لا يستهان بها، وذوق رفيع، الحلق الذى كانت ترتديه يعلو على الوصف، لا تعرفين ماذا ألقى بها مع ذلك التافه، المهم أنه عندما رآنى عند الباب أخذ يتحدث عن جمال صوتى، وحضورى، وخفة حركتى على المسرح، وقال إننى يجب أن أغير نوعية الأغانى التى أؤديها، ثم أخذ يتحدث عن أهمية وعى الفنان بدوره الاجتماعى، واختيار كلمات أغانيه.. تركته يتحدث كيفما شاء، بينما كانت عيناى تنتقلان مع يديه. من سيجارة البانجو التى كان يلفها، إلى شفتى رفيقته وهو يشعل لها سيجارتها المحشوة، إلى فتحة الفستان على فخذها وأصابعه تتسللان منها. وعندما سألنى عن رأيى فيما يقول، وجدتنى أنسحب بهدوء ناحية الباب، وأقول له بمنتهى الهدوء «وهل ترى سيادتك. أنك أنت يا حشاش يا تافه، المسئول عن ذوق الناس فى مصر؟!. أكمل دورك أولًا مع هذه الجميلة. وستجدنى فى أى صالة أخرى، أو هنا إن لم يطردنى الأستاذ». وبينما كان مدير الصالة يكتم ضحكاته، كنت قد سحبت الباب خلفى، غير قادرة على التوقف عن الضحك. كل ما تحلم به سارة هو ادخار مبلغ من المال، يغنيها عن الحاجة، عندما تصل إلى سن التقاعد كامرأة، فهى تعرف أنها لا تملك شيئا إلا أنوثتها، أو هذا ما تعلمته من أمها، ووالدها الذى لا تعرف عنه أكثر من اسمه، ولا تريد.. كما تعرفُ أنها فشلت فى استكمال دراستها فى مصر، باعتبارها أجنبية، فكان عليها لكى تتعلم أن تدفع ما لم تقدر عليه أمها، وكان الحل الوحيد لها هو العمل، وليس أى عمل أيضا، وإنما أى عمل لا يخضع لرقابة الدولة، أو يخضع لنوعية يسهل التفاهم معها، أو التوصل معها لحلول ترضى الطرفين، وهى بالطبع كانت تملك ما يجعل الآخرين يقتنعون بوجهة نظرها من أول نظرة. الشخص الوحيد الذى فشلت فى إقناعه بما تريد، هو أمها عندما فوجئت بها نصف عارية فى أحضان رجلها الأخير، خيرى السيد. كان غلاف من الصمت الأسود الثقيل يحيط بسماء القاهرة، بعد ثلاثة أيام عامرة بالموجات المتقطعة من موسيقى المارشات العسكرية، وأنباء إسقاط الجيش للطائرات الإسرائيلية، وهتافات النصر والتكبير، تلك التى كانت تبدو وكأنها جزء من الغلاف الجوى للمدينة، والقطر كله، ولم يكن يفصل بينها غير دقائق معدودة، حتى جاء المساء ليكشف زيف تلك الأنباء كلها، وحقيقة الهزيمة المفجعة التى واجهتها القوات المسلحة المصرية فى سيناء. فى تلك الليلة التى تقلبت فيها القاهرة بين نقيضين. كانت محطات الإذاعة والتليفزيون تعلن عن استعدادها لبث كلمة للرئيس جمال عبدالناصر، عندما فتحت صافى باب شقتها لتجد طفلتها الصغيرة تجلس ذاهلة أمام التليفزيون. لم تكن بها رغبة فى الكلام، حتى «مساء الخير» لم تقلها. كان الوجوم والثِقَلُ قد أصبحا جزءًا من هواء المدينة الحزينة، لا أحد يريد الكلام، ولا أحد يقدر على نقل قدميه. فقط ألقت نظرة عابرة على الشاشة التى كان يملؤها وجه الرئيس، والعبرات تخنق صوته، وهو يحكى قصة الهزيمة: يقول جمال عبدالناصر:.. «وفى صباح يوم الاثنين الماضى، الخامس من يونيو جاءت ضربة العدو. وإذا كنا نقول الآن بأنها جاءت بأكثر مما توقعناه، فلا بد أن نقول فى نفس الوقت، وبثقة أكيدة، إنها جاءت بأكبر مما يملكه، مما أوضح منذ اللحظة الأولى، أن هناك قوى أخرى وراء العدو، جاءت لتصفى حساباتها مع حركة القومية العربية». سحبت صافى قدمين ثقيلتين باتجاه غرفتها. لم تنتبه إلى بابها المغلق، رغم أنها تعودت منذ ولادة طفلتها الثالثة، أن تتركه مفتوحًا، دائمًا، حتى خلال نومها.. فتحته بتثاقل ولا مبالاة، لتجد صدمة أخرى أشد وطأة فى انتظارها. كانت سارة، كبرى بناتها، تجلس نصف عارية فى منتصف السرير، فيما رأس رجلها الأصلع السمين غارق ما بين نهديها. تسمرت صافى فى مكانها، وتجمدت الدماء فى عروق البنت التى كانت تدخل مراحل تحولها إلى امرأة بخطى متسارعة، لم تصدق الأم أن ابنتها هى التى تخطف منها آخر علامات وجودها كامرأة، أو أن ذلك التافه الذى منحته كل ما تملك، هو الذى كان على وشك مضاجعة ابنتها. عشرون ثانية من الصمت الثقيل.. ملأها صوت عبدالناصر القادم من الصالة، والذى بدا وكأنه يأتى من آخر الدنيا، وقطعتها إشارة حاسمة، مصحوبة بكلمة واحدة، وإشارة إلى صاحب الجسد الثقيل الذى هرول خارجًا دون أن ينطق بكلمة واحدة. فشلت كل محاولات سارة فى إقناع أمها بأن ما رأته هو كل القصة، وأنها لم تكن راغبة فيه، بل وكذبت عليها، وادعت أنها قاومته بشدة، وحاولت الهروب منه، لكنه ظل يلاحقها، ويغريها بما يمكن أن يكتبه عنها، ويقدمه لها من دعاية تساعد فى رفع أجرها. وعندما وجدت أنها لن تفلح فى إقناع أمها بالعدول عما فى رأسها، قررت أن تتخذ وضعية الهجوم، وبدأت توجه سهامها فى كل اتجاه، دون أى اعتبارات، أو مخاوف من أى شىء، فصبت لعناتها على أمها، وكالت لها ما استطاعت من اتهامات، وشتائم، فاشتعلت نيران الغضب بين المرأتين، ثم قررت أن تغادر المنزل بلا رجعة. ربما كان يومها هو آخر مرة ترى فيها ناهد وجه خيرى، عندما تعثر فى السجادة، ووقع على وجهه بالقرب من الباب، بعد أن طردته أمها، فيما عبدالناصر يعلن تحمله المسئولية كاملة عن الهزيمة، ويقول: «إن قوى الاستعمار تتصور أن جمال عبدالناصر هو عدوها، وأريد أن يكون واضحًا أمامهم أنها الأمة العربية كلها وليس جمال عبدالناصر. والقوى المعادية لحركة القومية العربية تحاول تصويرها دائماً بأنها إمبراطورية لعبدالناصر، وليس ذلك صحيحًا، لأن أمل الوحدة العربية بدأ قبل جمال عبدالناصر، وسوف يبقى بعد جمال عبدالناصر». لأسباب عديدة، ليس من بينها الإعلان عن رغبة الرئيس جمال عبدالناصر فى التنحى عن رئاسة الجمهورية، ظلت ناهد تذكر ذلك المشهد جيدًا، وترى أنه كان سر حالة التعاسة التى لفت المنزل بعد مغادرة سارة، كانت فيها الأم غاضبة طوال الوقت، كئيبة الوجه.. ولم يعد لديهن مصدر للدخل غير راتب فريدة التى تخرجت من مدرسة المعلمين، لتعمل مدرسة بالحصةِ فى إحدى المدارس الابتدائية. لم يعد بإمكان صافى بعدها أن تضحك من قلبها، مثلما اعتادت منذ اليوم الأول لها فى هذه الدنيا. حتى فى أشد لحظات حياتها حُلكةً، كانت تطلق عصافير روحها، فتملأ المكان من حولها بالبهجةِ، والفرح، وتبثُّ السعادة فى نفس كل من يضعه حظه فى مجال حضورها. هكذا كانت، وهكذا ظلت.. وهكذا لم يكن باستطاعة كائنٍ ما كان أن يخرقَ مجال حضورها. لم يفلح فى الاستحواذ على انتباهها فى تلك الليلة، سوى قطةٍ ضامرةٍ وجدت بابًا مفتوحًا، فيما أصلعٌ قصير يندفع منه، ليتدحرج على درجات السلم الذى صعدته مصادفةً، فمرت دون أن تلتفت إليها الصغيرة التى ظلّت علامات الذهول عالقة بوجهها مما تراه على شاشة التليفزيون، وتسمعه من الغرفة المفتوحة. أكملت القطة طريقها إلى السرير الواسع بقلب الغرفة، ثم إلى حجر صافى الذى أغرقته الدموع، حيث جلست هادئةً كأنها لم تمر بلحظات جوع، ولم ينهكها الهروب من ملاحقات الصغار فى شوارع المدينة الكبيرة. جلست تحيطها الهالة الصافية للمرأة التى مدت يدها دون ترتيب، وأخذت تمسح على ظهرها، بحنو شخصٍ مهزوم، لكنه لا يعرف الرغبة فى الانتقام، ولا تعرف الكراهية طريقًا إليه. دقائق انتهت فيها صافى من دموعها، ونظرت بعدها إلى ذلك الكائن المستكين فى حجرها. سألتها: - من أنتِ؟.. هل أنتِ جائعة؟ مسحت القطة رأسها فى صدر صافى، فلمست الجرح الذى لم يكن قد استقر، أو هدأت حدة نصله بعدُ. ضمتها إلى قلبها، ثم حملتها إلى المطبخ، حيث وضعت أمامها ما وجدته يصلح لإطعامها، لكنها عندما عادت إلى الغرفة، وألقت بجسدها المنهك فوق السرير، وجدت قطتها الجائعة تقفز خفيفة إلى جوارها، وتواصل التمسح بها، فحملتها مرة أخرى بالقرب من قلبها، ثم سارت بها إلى المطبخ. وأوقفتها أمام طبق اللبن المُطَعَمِ بقطع الخبز، لكنها لم تستطع التحرك أمام العيون التى ظلت معلقة بها. سألتها: - ألن تأكلي؟ ألست جائعة؟ وعندما لم ترفع القطة عينيها عنها، جذبت كرسيًا، وجلست إلى جوار الطبق. وقالت تحثها على الأكل: - تفضلى.. لن أتحرك دونك. هنا فقط، ظهرت علامات الجوع على القطة التى انهالت على الطبق، كأنها لم تأكل منذ أسابيع، فقضت على كل ما كان به فى دقائق، ثم قفزت خفيفةً إلى حجر سيدتها التى رفعتها مرة أخرى بالقرب من قلبها، ثم اتجهت بها إلى الحمام، حيث أعدت لها طبقًا من المياه الدافئة، وحيث أسلمت القطة جسدها إلى اليد الحانية التى وضعتها بداخل الطبق، وحممتها جيدًا بالماء والصابون، فأزالت عن جسدها الضعيف كل أتربة الشارع، كما أزالت عنها جوع أعوام عمرها. جففتها جيدًا، ثم حملتها وعادت بها إلى سريرهما، لكن.. هذه المرة دون دموع. منذ تلك الليلة لم يفارق عينى القطة، التى أطلقت عليها ناهد اسم «صوفى»، وجه صافى، أو يدها، إلا للشديد القوى. لم تفارقها، وظلت تتبعها أينما سارت، وأينما جلست. لا تأكل إن لم تكن بجوارها، ولا تنام إلا إلى جوارها، أو بداخل حضنها، إن غادرت المنزل، لا تغادره إلا بصحبتها. حتى وقعت الواقعة، وفعل بها قطٌ مجهولٌ ما فعل، فأحضرت إلى المنزل ست قططٍ صغيرة، ولَّدَتها صافى بنفسها، ونظفتها جيدًا، وأعدت لها مكان نومٍ مخصوصًٍا بداخل حجرتها، ولكن يبدو أن «صوفى» أخبرت صغارها جميعًا ألا يرفع أحدها، أو إحداهن، عينيه عن ذات اليد الحانية، فصارت لا تخرج من غرفتها إلا ومن خلفها صوفى وقبيلتها، لا تدخل الحمام إلا وجميعها واقفة أمامه فى انتظارها، لا تدخل المطبخ إلا وهى من حولها، لا تجلس لمشاهدة التليفزيون، إلا واثنين منها فى حجرها، ويحيط بها آخران من كل جانب، فيما تجلس «صوفى» أمامها على الأرض، وكأنها جميعًا تتابع معها مسلسل السابعة، حتى إن غادرت المنزل، تراها تسير حولها، وتملأ الشارع مواءً، ومرحًا. فصار جميع من بالشارع يعرفونها بقططها النظيفة، ويسمونها سيدة القطط الجميلة. حاول كثيرون اللعب مع قطط صافى، أو جذب التفاتها عنها، لكن محاولاتهم جميعًا كانت تبوء بالفشل، فكان البعض يلقون لها ما تيسر من طعام، لكن أحدًا من القطط الصغيرة لم يكن ليمسه، إن لم يحصل على إشارة المرور منها. حتى استسلم الجميع لأوامر صافى، ولروحها المُحبة، فصاروا يفسحون لها الطريق إن مرت بهم، فيما تفعل هالتها الصافية المرحة فعلها فى الطريق، وبالمارة، ورواد المقهى بالرصيف المقابل. لا أحد يبدى انزعاجًا من صخب القطط الصغيرة. لا أحد يعترض طريقها. ولا أحد تمر به إلا ويردد: - «لكننى أحب صافى».