فى زَمنٍ مثل زمانِنا، أو قُل فى زماننا هذا، عَاشت امرأةٌ، أو قُل تعيشُ امرأةٌ، فيها مزيجٌ من الطردِ والجاذبيةِ، الطزاجةِ والعَفَن، الضَعفِ والقوة، والوقاحةِ والحياء. تُعطى من ثمارها لمن تريد، لأن جذورها تمتص ما تَطاله من بقايا الأجسادِ والأرواحِ. تملكُ من حُسنِ الطَالع ما يفتحُ لها ما تَشاء من الأبوابِ، ومِن سوئها ما يقودُ خُطواتها إلى الوقوعِ فى كل الفِخاخ. لجسدها، عنفوانُ فلاحةٍ، ولصوتها، ما للرمالِ من نعومةٍ، وللحدائق من فاكهةٍ وعصافير. عندما تراها فلا مفر من الوقوع فى أسر رغباتها، لكنها عند الأفول.. لا تخلف غير الكراهية. وأنا اليوم، عندما أحكى لكم عنها، لا تظنوا أننى بريء ومحايد، بل يمكنكم أن تقولوا إننى قطعة من مخلفات حروبها، تحاول استعادة ما فقدته من توازنها بالرغى والفضفضة، والنظر من بعيد. لكننى أحب صافى اليوم.. السابع والعشرون من أكتوبر 1954.. لا مكانَ بالصفحاتِ الأولى للصحف المصرية كافة لغير الحديثِ عن محاولة اغتيال جمال عبدالناصر، فى احتفالٍ بميدان المنشية بالإسكندرية. أصابعُ الاتهام فيها جميعًا تُشيرُ إلى جماعةِ «الإخوان المسلمين» التى صدر قرار بحلها منتصف يناير من ذات العام، تتقدمها صحيفةُ «الأهرام» بأربعةِ أسطرٍ من العناوين كبيرة الحجم بعرض الصفحة الأولى، أكبرها حجمًا يَقولُ نَصًا: «محاولة أثيمة لاغتيال الرئيس عبدالناصر»، يليه شارحٌ أصغرُ قليلا فى حجم الخطِ: «عامل من الإخوان يطلق عليه 8 رصاصات فى ميدان المنشية»، فثالثٌ أقلُ: «الرئيس ينجو من الاعتداء ويقول: إنه يهب دمه وروحه فى سبيل عزة الوطن وحريته»، ثم تنتهى العناوين ب«القبض على الجانى بعد إنقاذه من ثورة الجماهير، واعتقال 3 آخرين من الإخوان». وبعنوان وصفى عريض صدَّرت «الجمهورية» صفحتها الأولى قائلة: «8 رصاصات طائشة».. لتستكمل بخطٍ أقل حجمًا: «يطلقها إخوانى على الرئيس فى الإسكندرية ولا تصيبه»، يليه عنوان ثالث لتقرير الأول: «جمال يستمر فى خطابه ويقول للشعب: إذا مات جمال أو قتل فامضوا إلى الأمام فكلكم جمال عبدالناصر». فى تفاصيل الخبر الذى احتل نصف صفحة «الأهرام» أسفل العناوين: «أطلق عامل ينتمى إلى جماعة الإخوان المسلمين ثمانى رصاصات على الرئيس جمال عبدالناصر فى ميدان المنشية بالإسكندرية أمس، وكان الرئيس قد بدأ يخطب فى الحفل الذى أقامته هيئة التحرير، لتكريمه وتكريم زملائه من قادة الثورة. ولم يبلغ الجانى مأربه إذ نجا الرئيس من الرصاصات الغادرة. وقد أصيب وزير المعارف بالسودان، والسكرتير المساعد لهيئة التحرير بعدة جراح من شظايا ألواح الزجاج التى تناثرت من أثر إطلاق الرصاص. وعقب الرئيس عبدالناصر على الفور.. على محاولة اغتياله.. وكان تعقيبه هائلا رائعا فذا، وأقوى من الرصاص الذى أطلق عليه، إذ صاح وصوته يدوى كالرعد فى الميدان الفسيح: «أيها المواطنون: دمى فداؤكم، وفداء مصر.. سأعيش من أجلكم، وسأموت من أجل حريتكم وكرامتكم. فليقتلونى.. لست أبالى، ما دمت قد غرست فيكم العزة والكرامة والحرية. وإذا مات عبدالناصر فليكن كل منكم جمال عبدالناصر». فى النصف الأيسر من الصفحة أسفل العناوين، جاءت رسالة مراسل الجريدة بالإسكندرية تحت عنوانٍ تمهيدى يقول: «الرئيس جمال يخطب فى الجماهير المهنئة بنجاته»: «أراد الله العزة لمصر ولن يخذلها أبدًا»، وتحته بخط أصغر قليلًا «الحمد لله على نجاتى لأحقق لكم العزة والحرية والكرامة». وفى التفاصيل: «الإسكندرية فى 26 - لمندوب «الأهرام» الخاص» - اهتزت الإسكندرية هزة عنيفة على إثر تطاير أنباء المحاولة الأثيمة للاعتداء على بطل الجلاء، فاحتشدت الألوف فى ميدان المنشية حتى بلغت ربع مليون نسمة وقفت ذاهلة شاخصة أبصارها إلى المكان فى الشرفة التى يخطب منها الزعيم جمال عندما انطلقت الرصاصات الغادرة عليها. وقفت الجماهير مرتجفة القلوب تنتظر أن تطمئن على حياة البطل الذى باع روحه فدية لحرية مصر وعزتها وكرامتها». وتحت عنوان فرعى يقول «كلمة الرئيس جمال»، كتب المندوب: «واستمر الهتاف والتصفيق نحو ثلث ساعة، وبعدها انطلق صوت البطل فى نبرات مؤمنة رصينة قائلًا: «أيها المواطنون الحمد لله.. إن الله الذى أراد لمصر العزة يوم 23 يوليو لم يخذلها، ولن يخذلها أبدًا، الحمد لله على نجاتى من أجلكم، لا من أجل نفسى، الحمد لله على نجاتى لأحقق لكم العزة والحرية والكرامة». أتأملُ هذه التقاريرَ وأسألُ نفسى.. أهكذا كان يَكتبُ من عاشوا سنواتٍ طويلةٍ يملأون الهواءَ بالحديثِ عن الصحافة زمان، ويُصدعون أدمغتنا بالكلامِ عن أصول المهنة، وضَياعِها بسبب الأجيالِ الجديدة؟. لم يكن عبدالناصر قد صار رئيسًا للجمهورية، وكان لقبُ «الرئيس» يُطلَقُ على رئيس مجلس الوزراء، أما ثورة يوليو فكانت فى بدايات عامها الثالث فحسب.. ورغم هذا كتب من يريدون منا أن نتعلم منهم، أن تعقيب عبدالناصر على محاولة اغتياله كان «هائلًا رائعًا فذًا، وأقوى من الرصاص الذى أطلق عليه»، وأنه فى تقرير اليمين «صاح وصوته يدوى كالرعد»، وفى تقرير اليسار «فى نبراتٍ مؤمنةٍ رصينة».. دون توضيح طبعًا لسمات الصوت الذى يدوى كالرعد، أو النبرات المؤمنة، وما يميزها عن الصوت الكافر، أو الملحد، أو كيف يتماشى الصياحُ والدوى مع الرصانةِ والإيمان؟ أما عن ثلاثية «هائلا رائعا فذا»، فهى لا تحتاج إلى شرحٍ أو تفصيل.. هى ثلاثيةٌ تتحدث عن نفسها.. تلك آيةٌ وحدها. هؤلاء الذين يعيبون على جيلنا أخطاءه اللغوية، يكتبون أن الجماهير وقفت «ذاهلة شاخصة أبصارها»، ثم «مرتجفة القلوب تنتظر أن تطمئن على حياة البطل الذى باع روحه فدية لحرية مصر وعزتها وكرامتها».. فأيهما أشدُّ بؤسًا.. خطأ فى اللغةِ أم خطيئة فى النفس؟ وأى مصيرٍ تتوقعُ لمهنةٍ هؤلاءِ هُم أساتذتها ومُعلِمُوها؟ وذاك ما خَطَّت أيديهم؟ ماذا يمكن أن نتوقع لمهنةٍ هؤلاءِ هم آباؤها الذين تتصدر كتاباتهم الصفحات الأولى للصحف الأكثر تأثيرًا فى مصر وقتها؟ هؤلاء هم من تعلم كثيرٌ منّا على أيديهم. وأنا بالطبعِ منهم، فلست غير واحدٍ من أبناء الطبقةِ المتوسطة، نال حظًا جيدًا من التعليم، وأراد أن يصبح صحفيًا فى بلد يضعُ كارنيه النقابة رهنًا برضا مالك المؤسسة، وقُدامى المنافقين من هؤلاء الذين أحدثكم الآن عنهم. لذا.. لا تنتظروا منى، على الأقل، أن أكونَ موضوعيًا أو محايدًا فى حكايتى، لأننى لن أكون كذلك، ولو حاولتُ إيهامكم بما ليس فىَّ. أنا نتاجُ هذه المدرسةِ فى الكتابةِ، والمبالغات الوصفيةِ، وربما فى أسلوب الحياةِ. ومن منا يمكن أن يدعى أنه يفهم حياته فهمًا كاملًا؟ كيف تَشَّكَلت؟ أو كيف سارت؟ وأين تكمنُ نقاط تحولاتها؟. من منا يعرفُ عُمقَ البصماتِ التى خلفتها الحياةُ فى أعماقه؟ ولو كانت بصماتٌ لعناوين وكلمات سطرها زمرة من المنافقين والأفاقين فوق وريقاتٍ أدمن طفلٌ وحيد لطبيب مصرى، وجميلة سويسرية، مطالعتها، والغرق معها، بمجرد عودة والده إلى المنزل، ليعيش وحيدًا بين سمومها لساعات طويلة، فماذا يمكن أن يتعلم؟! من منا لا يعرفُ كيف يلتمسُ الأعذارَ لنفسه؟ أو لا يجدَ مُبرراتٍ لكل سلوكياته على مدار العمر؟ مهما كانت النتائج، والآثار التى تخلفُها من ورائها؟ وما هذا الذى أكتبه الآن؟ على أى الأحوال. أظن أننى توقفت طويلًا أمام هذه التقارير. على الرغم من أنها ليست سوى مدخلٍ لحكايتنا. لنعد إذن إلى أصلِ الكلام.. صُحفُ الصباحِ تلك، لم تكن بالتأكيدِ على عِلمٍ بأنه فى تلك الساعاتِ المرتبكةِ من مَساءٍ الإسكندرية، كانت فى القاهرةِ شابةٌ بيضاءُ، ضَعيفةُ الجسدِ، على عتبات عامها الثامن والعشرين، تتوسلُ من يُساعدها فى التخلصِ من آلامِ الوضع، بينما طفلةٌ لا يزيد عمرها على الثمانى سنواتٍ تمسكُ بحلقِ البابِ بطرف الحجرة التى تنطلق من جوفها تأوهات الأم المكتومة. وكان رجلٌ أربعينى يسير بخطواتٍ مترنحةٍ خلف بائعةِ هوى بشارع عماد الدين. هكذا بدأ الأمرُ.. ضجيجٌ، وزحامٌ، وهتافاتُ فرحٍ، وترحيبٍ بالزعيمِ هناك. وصمتٌ، وخيانةٌ، وتأوهاتٌ مكتومةٌ، وامرأتان وحيدتان تمامًا إلا من آلامهما هنا. كان عبدالناصر يَرفعُ يده لتحية الجماهير التى انتظمت باتساع السُرَادِقِ المنصوبِ بميدانِ المنشية الواسع، فى عاصمة القطر المصرى الشمالية، فى الوقت الذى توقفت فيه سيارةُ الإسعافِ التى قطعت طريقها فى صَمتٍ غير اعتيادى، أمام منزلٍ من سبعةِ أدوارٍ، حديث البناءِ، بشارع الترعة البولاقية بحى شبرا، فى العاصمة الأولى التى سادها السكون، وهدأت الحركة فى شوارعها، بينما تحلق سكانها حول أجهزة الراديو فى المقاهى والمنازل، فى انتظار كلمة الرئيس. بينما كان شكرى يحكى للبارمان العجوز كيف انتظر سنوات طويلة أن تلتفت إليه «صافى»، زميلته فى الفرقة. كان شكرى يقولُ عن فتنة «صافى» وهى ترقص وسط رفيقاتها خلف «الأسطى نرجس»، أشهر راقصات روض الفرج، فلا يرى غير وجهها الضاحك بغير افتعال.. «كانت ترقص وكأنها هى العروس، فراشةٌ تشق طريقها إلى السماء وكأنها عاشقة تتلهف للقاء حبيب.. لكن الحظَّ لا يعرف المحبين». من الباب الخلفى للسيارة البيضاء، يهبط اثنان من المسعفين، تنتصب بينهما نقالة المرضى التى حملاها مسرعين إلى مدخل العمارة الواسع، تسبقهما فتاةٌ يقترب عمرها من الثانية عشرة، نحيفةٌ، بيضاءُ البشرةِ، بعينين زرقاوين، وأنفٍ صغيرٍ، ينتهى شعرها الأسود عند حدود منكبيها، وترتدى كنزةً صوفيةً ناصعة البياضِ، تتناثر زهورٌ ورديةٌ صغيرةٌ حول فتحةِ صدرها، وفوق المعصمين، والخصرِ، وحول الأزرار البيضاء الكبيرة التى أحكمت إغلاقها، فوق جوب بنيةِ اللون، تزينها مربعات سميكة متجاورة من الخطوط البيضاء والسوداء، لا تتجاوز ركبتيها اللاتى تختفيان تحت شراب صوفى أسود اللون. نزلت من المقعدِ المجاورِ للسائقِ، تملأ وجهها علاماتُ القلقِ والتوترِ. أخبرتهما أن الشقة بالطابق الثانى، فلم يلتفتا إلى المصعد، وأسرعا يقطعان السلم الرخامى العريض باتجاه غرفةِ التأوهات. فى الناحيةِ المقابلةِ من الشارع، لم يكن أحدٌ ليلتفتَ إلى ما يجرى هنا. تجمعَ روادُ المقهى بالقرب من الطاولةِ التى ينتصب فوقها جهاز الراديو، فيما عبدالناصر يجاهد لوقف الهتافِ بحياته: «كفانا هتافًا أيها المواطنون، فقد هتفنا فى الماضى طويلًا، فهل سنعود إلى التهريج؟ إنى لا أريد أن أسمع هتافًا باسمى، وإذا كنا نتكلم معكم اليوم، فإنما نتكلم لنسير إلى الأمام، بجد وعزم لا بالتهريج». وكانت شابة عشرينيةٌ تسحبُ كرسيًا لتجلس بجوارِ العازفِ السكران. تسأله لماذا يشربُ وحيدًا، وتسأله أن يطلب لها مشروبًا، فينقلُ عينيه الثقيلتين إلى صدرها، ثم إلى الشفتين المكتنزتين، ويسألها: أتحبين الغناء؟ تضحكُ، وتهمسُ بالقربِ من أذنه: وأجيد الرقصَ وأشياءً أخرى.. أتريدُ أن ترى؟ يخفض رأسه وعينيه ويتمتمُ: لكننى أحبُ صافى. بمجرد سماعها صوت السيارة تتوقفُ أمامَ باب المنزلِ، أسرعت فريدة تفتحُ البابَ ليدخلَ منه المسعفان ونقالتهما، ولتعلو وجه الأم علاماتُ ارتياحٍ مؤقتٍ، أو قُل هو اطمئنانٌ إلى سلامةِ تَصَرفِ طفلتيها فى هذا الموقف الصعب. أمسكت بيدِ بكريتها سارة التى كانت قد سبقت المسعفين بخطوات، بينما كانت فريدة تُحكمُ غلق الشبابيك والأبواب، قبل أن تلحق بيد أمها الثانية، لينطلق الركبُ بسرعةٍ أبطأُ كثيرًا هذه المرة، باتجاه السيارةِ التى كانت تقف صامتةً وسط السكون إلا من صوت المذياعِ القادم من كل الاتجاهات. داخل السيارةِ التى انطلقت فى شَوارعِ القاهرة الخالية تمامًا من المارةِ، تحول انتباهُ السائق والمسعفان كله باتجاه صوت عبدالناصر يقول للجماهير الصاخبة: «وإذا كنت أتكلم معكم اليوم فى الاحتفال بهذه الاتفاقية، فإنما أردت أن أذكركم بالماضى، أذكركم بكفاح آبائكم وأجدادكم، وأقول لكم إنى بدأت كفاحى وأنا شاب صغير فى سنة 30، خرجت مع أبناء الإسكندرية أنادى بالحرية والكفاح لأول مرة فى حياتى من هذا الميدان». بينما جلست الطفلتانِ حول أمهما.. سألت صافى بكريتها عن شكرى، فقالت إنها تركت له ورقة فوق طاولة الطعام. وكانت الفتاةُ العشرينيةُ تسحبُ العازفَ الغارق فى خمره إلى الشارع المظلمِ، الخالى من المارةِ.. وقفت الطفلتان خارج غرفة العمليات بالمستشفى، تتناقلهما مشاعرُ الترقبِ والقلقِ على الأم ضعيفة الجسدِ، وفرحةُ احتمال فوزهما بأخٍ ذكرٍ، يكون عونًا لهما فى مواجهة الصبيةِ فى الحى الشعبى الذى كرهتا الحياة به منذ انتقال أمهما إليه بصحبة زوجها الجديد، وزميلها العازف فى فرقة الأسطى نرجس.. وبينما كانت صرخاتُ المولودة تنطلقُ من بين قدمى الأم، معلنةً بَدءَ مَسيرةٍ جديدةٍ فى فضاءِ الحياةِ على أرض مصر، كانت طلقات الرصاص تنطلق فى المنشيةِ، لتعلن أيضًا عن بدء مسيرةٍ جديدةٍ فى قمةِ السلطة وبنائها على ذات الأرض.. فيما يدٌ خشنةٌ تنطلق من الظلامِ لتكمم فم العازف السكران، وتسحبه إلى أرضٍ مهجورةٍ، لا يدرى كيف وصل إليها، وسكينٌ رخيص ينغرس فى صدره، قبل أن تمد العشرينية يَدَيها تُقّلبُ جيوبه، لتستخرج كل ما فيها، ثم تلوذُ هى وصاحب اليد الخشنة بالفرار. تسيطر على المستشفى الذى كان يسوده الهدوء منذ لحظاتٍ، حالةٌ من الفزعِ والقلق. صيحاتُ غضبٍ، وألمٍ، واستفهامٍ، تنطلقُ من هنا وهناك. الممرضات اللائى كن مشغولاتٍ بالمولودة الجديدة، قطعن حبلها السُرى على عجلٍ لينطلقن بالأم إلى أقربِ غرفةٍ، ولتتعلق آذانهن وعيونهن بأجهزة الراديو فى انتظار أى كلماتٍ عن الوضع فى الميدان، بينما عبدالناصر يهتف مدشنًا أسطورته: «فليقف كلٌ فى مكانه» و«إن مات جمال عبدالناصر، فكلكم جمال عبدالناصر».. ولتجد البنتان نفسيهما فى حيرةٍ لا مخرجَ منها، فلا أحدَ يستمعُ إليهما، لا أحدَ يُريدُ أن تدخلَ أذنيه كلماتٍ غير تلك التى يبثها ذلك الجهاز الغبى.. دقائقُ مَريرةٌ مَرت كأنها الدهرُ قبل أن يأتى صوتُ المذيع معلنًا «سلامة الرئيس من العدوان الآثم»، وإصراره على الحديثِ إلى جماهير الشعب، ليعود الاهتمامُ مرة أخرى إلى المولودةِ التى لم يتوقف بكاؤها رغم محاولات أختيها، والوالدةِ التى كانت قد راحت فى سباتٍ عميق، لم تُفق منه إلا على صوت ضحكاتِ طفلتين تداعبان ثالثتهما، وتعلنان اتفاقهما على تسميتها ناهد، بينما عصفور يقفُ على حافة النافذة، ولا يتوقف عن إرسال تحيته الخاصة إلى غرفة الجميلات، معلنًا عن بدايةِ صباحٍ جديد. سألت صافى طفلتيها عن زوجها الثالث الذى لم يحضر ميلاد طفلته، فأخبرتاها بما جرى فى المنشية، وسلامة الرئيس. ثم وضعتا الصغيرةَ النائمةَ فوق حِجرها، لتضمها إلى صدرها الصغير، وتطبعُ قُبلةً فوقَ جبينها، وهى تُتمتمُ «ناهد.. لتكن الثالثةُ.. والأخيرة». هكذا.. دخلت ناهد منزل شارع الترعة لأول مرة فى حياتها، تسبقها قواتُ الأمنِ التى جاءت مع صلاة الفجر بحثًا عن عناصرَ تابعةٍ لجماعةِ الإخوان، تليها بساعات قليلة قواتٌ أخرى تبحثُ عن شخصٍ يمكنه التعرفَ على جثمان العازف الذى وجدوه مقتولًا فى قطعةِ أرضٍ مهجورة.. وتقول الأوراق التى تناثرت حوله أن اسمه شكرى.تعرفت صافى على الأوراق التى وجدوها معه، بينما انطلقت معهم سارة التى لم تكن قد أكملت عامها الثانى عشر للتعرفِ على جثمانه.. لتكسو المنزل حديثَ البناءِ غيمةٌ من الأحزانِ، والصمتِ الكثيف، تنطلقُ من طابقه الخامس الذى كان يسكنه قيادى بالجماعة التى يصنفها مجلس قيادة الثورة كجماعة إرهابية، لتَستقرَّ فى طابقه الثانى، حيث تنام شابة شاحبة الوجه، مقبوضة الصدر بعد معرفتها بمقتل زوجها الثالث فى نفس اللحظة التى شهدت ميلاد طفلته الأولى.