كل من حضر وقائع حادث المنشية بالإسكندرية مساء 26 أكتوبر سنة 1954 حيث جرت محاولة اغتيال عبدالناصر، شاهد بقعة حمراء علي صدر جمال عبدالناصر.. وتصور الناس أن رصاصة اخترقت قلب الرئيس.. وكان الشيخ أحمد حسن الباقوري.. وزير الأوقاف الذي انشق علي الإخوان ودخل الوزارة.. كان في تلك الليلة يجلس في المنصة خلف الرئيس جمال عبدالناصر مباشرة.. وعندما عاد الباقوري في اليوم التالي إلي القاهرة جلس يكتب مقالا عما حدث ورآه بعينيه.. وفيه كشف سر البقعة الحمراء علي صدر الرئيس.. قال الباقوري في مقاله: كانت المحاولة الباغية للاعتداء علي حياة الرئيس جمال عبدالناصر نعمة أسبغها الله عليه.. بل كانت منحة اختارت لها عناية الله صورة المحنة حتي لا يحسد عليها.. فقد وقف الرئيس في مكانه من شرفة دار التحرير في ميدان المنشية.. ثم أعلن أنه سيتحدث إلي الحشد الحاشد في الميدان، حديثا هادئا بعيدا عن خيال الشعر ولهجة الخطابة، لأنه يريد أن يخاطب العقل، وليس يريد أن يهيج العواطف.. حيث كانت حاجة البلاد اليوم إلي البيان المقنع والعقل المقتنع أبين من حاجتها إلي اللهجة المثيرة والعاطفة الثائرة. ونزولا علي حكم هذا المنطق.. طلب الرئيس من المواطنين في لهجة صارمة حاسمة أن يكفوا عن اللغو والهرج، وأن يكفوا عن الهتاف والتصفيق. ثم مضي إلي غايته من الحديث الذي يريده في صوت وقور هادئ.. وبذات منزلة واثقة ووقفة عسكري، امتزج فيها شموخ الهامة باستواء القامة، وتلاقي عندها إيمان الوطني بشجاعة الجندي. وتجلت مصر الفتية ساعتئذ في جمال تجليا رائعا.. يسوء العدو.. ويسر الصديق.. وفي هذا الجو المهيب.. الذي يلذ فيه الحديث للمتحدث، كما يلذ الاستماع للمستمع انطلقت الرصاصات الباغية يريد بها الجاني المخدوع، أن يشب نار الفتنة ويبلبل خواطر الأمة. ويريد الله جلت حكمته أن تزداد بها الثورة قدرة علي العمل وقوة في الإنتاج، وأن يتحول بها جمال عبدالناصر، من قائد مرهوب الجانب، مخشي البأس إلي زعيم تأتلف من حوله المشاعر وتمشي في موكبه القلوب. علي عادة أهل الصعيد ولم يدر بخاطري قط وأنا أجلس إلي جانبه أن هذه الرصاصات التي أسمع زئيرها إنما يطلقها عليه الحقد، وتمشي بها إلي صدره البغضاء.. إن جمالا لم يأت عملا يثير حقدا أو يبعث علي بغضاء لا من حيث هو شاب وطني، عاش عمره لوطنه وحمل رأسه علي كفه دفاعا عن شرف هذا الوطن.. ولا من حيث هو صاحب سلطان حرص في سلطانه علي العدل والخير بمقدار ما يطيق البشر، وفي حدود ما يستطيع الإنسان. وإنما الذي دار بخاطري.. أن بعض الفخورين به من أبناء الصعيد أراد أن يعلن فرحه، وقد أخطأه التوفيق فأطلق رصاصة إعلانا عن هذه الفرحة. علي عادة أهل الصعيد في ذلك. ولعل الرئيس قد طاف بذهنه هذا الخاطر نفسه. فقد رأيته وهو واقف في الشرفة التي ترتفع عن أرض الميدان نحو ثمانية أمتار ينحني إلي الأمام لكي يتثبت من هذا الخاطر.. ثم رأيته يميل إلي الخلف في سرعة البرق ليتفادي الطلقات بعد أن تبين أن المسدس مصوب إليه.. وراح يصيح في زئير الأسد الهصور: مكانكم أيها الرجال.. مكانكم أيها الأحرار. ثم تقدم من الميكروفون مرة أخري.. ليتابع النداء ويواصل الزئير: مكانكم أيها الأحرار.. ولعله كان يعتقد أنه قد أصيب.. فهو جندي يعرف حق المعرفة أن الرصاص حين يستقر في جسد لا يشعر معه الإنسان بألم.. ولهذا لم تفارق لسانه كلمات الحرية والكرامة والمجد والتضحية والاستشهاد، يسوقها مساق الحكم الخوالد علي مر الزمن وتتابع الأجيال. قلم حبر أحمر ولقد اعتقد كثير من الجالسين في الشرفة كذلك أنه أصيب.. ومنشأ هذا الاعتقاد أنه كان في جيبه قلم أحمر ترك بقعة حمراء علي صدره من شدة احتكاك الجماهير.. فبعد أن انطلق الرصاص اتجهت الأبصار إلي صدره ورأوا البقعة الحمراء فحسبوها بقعة دم.. ويشاء سوء التصرف أن يسرع أحد الحاضرين إلي الشيخ الجليل والد الرئيس ويسر إليه الخبر علي ضوء هذه الصورة المفزعة فتتسارع إليه عاطفة الأبوة الحنون بإغماء ثقيل طويل.. حدث كل ذلك في لحظات خاطفة.. والشعب يهتف في الميدان طالبا الاطمئنان علي جمال.. وجمال يتردد علي الميكروفون ليقول لهم إنه فداء لمصر وفداء لعزتهم وكرامتهم وحريتهم.. وأخيرا.. أعلن أنه بخير لم يمس بأذي ولم يصبه سوء.. وهنا بدأت السكينة تغشي أنفس الجماهير وتهيمن علي مكان الاحتفال.. ولم تبق هناك نفس يحكمها القلق ويهيمن عليها الانزعاج إلا نفسي، فقد كنت أتمني علي الله بعد نجاة الرئيس ألا يكون الجاني من الإخوان المسلمين. فقد كان هذا التصور يثير في نفسي الألم، مشبوب النار مسعور الأوار.. ولم يكن ذلك لأن هناك شخصا أفكر فيه أو أشفق عليه، وإنما كان الأشفاق علي الإسلام نفسه، وأن يحمل عليه الخاطئون خطاياهم، ويمسحون فيه أوزارهم والإسلام أجل عند الله وعند المسلمين من أن يكون أداة قلق في مجتمع أو وسيلة شهوة إلي الانتقام أو ظهر مطية إلي سلطان.. ونحن نعلم أن أعداءنا خارج بلادنا من الكثرة ومن القوة بحيث يستطيعون أن يرسموا للإسلام صورة مصبوغة بالدم مجللة بالإرهاب ومستمدة من صنيع هذا الجاني وأمثاله الآثمين. ذلك الخاطر الأليم.. هو ما كان يدور بنفسي ويعصف بقلبي.. ولم أستطع الإفلات منه إلا حين تذكرت عناية الله التي أنجت جمالا ووقته يد الغدر وردت عنه عادي السوء قادرة علي أن تنجي الإسلام مما يلصقه به السفاكون الغادرون.. هذا كلام الشيخ الباقوري.. وهو غير مستغرب ولا يحتاج إلي تعليق.. محاكمات الإخوان ونعود إلي المستشار صالح أبورقيق ليكمل ماذا جري بعد ليلة حادث المنشية.. يقول: في يوم أول نوفمبر.. أي بعد الحادث بأربعة أيام فقط أصدر مجلس قيادة الثورة برئاسة جمال عبدالناصر أمره بتأليف محكمة مخصوصة لمحاكمة المتهمين في محاولة اغتيال جمال عبدالناصر برئاسة قائد الجناح جمال سالم.. وكان المرحوم جمال سالم معروفا للجميع بالتصرفات الشاذة.. وكان أمر تشكيل المحكمة شاذا أيضا.. فقد تضمن أن للمحكمة كل السلطات وأن يلحق بها مكتب للادعاءات يتولاه البكباشي زكريا محيي الدين يقوم بإعلان المتهم بالادعاءات المقامة ضده قبل المحاكمة ب24ساعة فقط.. ولا يجوز تأجيل المحاكمة أكثر من مرة واحدة ولمدة لا تزيد علي 48ساعة، وللضرورة القصوي.. وأحكامها نهائية ولا يجوز الطعن فيها بأي طريقة من الطرق أو أمام أي جهة من الجهات. وبدت للجميع أن نهاية جماعة الإخوان المسلمين أصبحت محققة.. فما كانت تنشره الصحف عن اعترافات الذين قبض عليهم من أفراد الجهاز السري وكيف أنهم كانوا يسعون إلي قيام حرب أهلية واغتيال جميع أعضاء مجلس الثورة، وتحويل البلاد إلي مجموعة من الخرائب.. كان ما ينشر كافيا لشحن كل الشعور والقوي ضد الإخوان المسلمين. وبدأ الناس في لهفة شديدة إلي معرفة شكل الجاني الأثيم.. ومضت خمسة أيام كاملة دون أن تنشر صورة واحدة.. وأخيرا نشرت صورته وآثار التعذيب واضحة تماما علي وجهه.. ونشر تحتها أنها صورة للجاني ويبدو فيها آثار اعتداء المواطنين عليه وقت القبض عليه.. وللتاريخ.. فإن ما ينشر اليوم عن جرائم التعذيب التي ارتكبها أعوان حكم عبدالناصر لا توازي واحدا علي الألف مما تعرض له الإخوان المسلمون في عام 1954. عضلات كمال رفعت ويقول المرحوم صلاح شادي (لواء سابق بالشرطة): لقد قبضوا عليّ بعد حادث محاولة اغتيال الرئيس عبدالناصر.. حاولوا معي بكل الوسائل أن أقرر أن الحادث من تدبير الجهاز السري للإخوان المسلمين.. استخدموا معي التهديد والوعيد.. ولم أخضع.. اقتادوني إلي مبني مجلس قيادة الثورة في الجزيرة وأدخلوني القاعة التي تحولت بعد ذلك إلي قاعة لمحكمة الشعب.. كان بالقاعة كمال الدين رفعت وعلي صبري وصلاح الدسوقي ومحمد عبدالرحمن نصير وغيرهم من الزبانية.. كان كمال رفعت يستخدم عضلاته وكفاءته كبطل في الملاكمة في كيل اللكمات لي. كان كمال رفعت برتبة يوزباشي.. وكنت أيام الثورة الأولي قد طلبت من جمال عبدالناصر أن يبعث أحدا من رجال الثورة معي إلي مؤتمر للطلاب في الجامعة ليحدثهم عن الثورة وأهدافها.. فأعطاني كمال رفعت.. ووجدته لا يستطيع أن يقنع الطلاب.. فجلست وكتبت له خطابا ألقاه في الطلاب ورغم ذلك فقد أخذ يكيل لي اللكمات الشديدة حتي إذا شعر بالتعب يدفعني ناحية علي صبري الذي كان ممسكا بمسدس يحركه في يده بلا مبالاة فوهته لي ويقول: إنت ما تستحملشي رصاصة تنطلق.. وتخلص..