يروى الكاتب صنع الله إبراهيم في كتابه "يوميات الواحات"، الذي صدر منه طبعه ثانية مؤخرا عن دار الثقافة الجديدة، فصلا من تاريخ اليسار في مصر بأجنحته المختلفة قبل ثورة يوليو وبعدها وكيف استقبل اليسار تلك الثورة ومساهمته في صنعها وكيف اصطدم معها حتى وصل الكثير من أعضاء اليسار إلى السجن. ويبين صنع الله إبراهيم إصراره على المضى في الطريق الذي شقه لنفسه وهو أن يكون كاتبا وكاتب قصة وروايه وكيف نجح في تهريب تلك اليوميات التي كتبها على ورق السجائر الرقيق، في نقاط تشبه ما يكتبه الكثير منا الآن على صفحته في الفيس بوك سواء بوضوح أو بغموض أحيانا للهروب من الرقابة أو حتى لا يغضب البعض. ففى السجن كما يقول الحكاء "هو جامعتى ففيه عايشت القهر ورأيت بعض الوجوه النادرة للإنسان وتعلمت الكثير من عالمه الداخلى وحيواته المتنوعة ومارست الاستبطان والتأمل وقرأت في مجالات متابينة منها عالم الحيوان، الأمر الذي استفدت منه عند كتابة قصص علمية التي أصدرت منها 3 كتب منها عندما جلست العنكبوت تنتظر". ويستزيد القارئ في تلك الطبعة بمعلومات جديدة عن رموز وقادة اليسار في هوامش التي قاربت مائة صفحة وعلاقاتهم وصدامهم وتطبيع بعضهم بعلاقته مع جمال عبد الناصر ونظامه بعد تجربة السجن. وكانت بداية نشر تلك اليوميات كما يقول صنع الله إبراهيم والتي كان يحتفظ بها لتكون مبعث تسلية له في وحدة الشيخوخة طلب منه مصطفى نبيل رئيس تحرير مجلة (الهلال) كتابة بضع صفحات عن العوامل التي ساهمت في تكوينه الأدبي، عندئذ اختار بعض من اليوميات لنشرها في المجلة عام 2003، ثم رأى أن اليوميات ككل قد تكون مفيدة في إلقاء الضوء على بعض الأحداث والمواقف، وأيضًا على البدايات المعقدة والصعبة لتطور الكاتب فقرر إصدرها في كتاب طبع لأول مرة في عام 2004. فالكاتب قديس وشهيد كما يرى صنع الله إبراهيم في يومياته، وتكوين الكاتب ليس بالمسألة السهلة، أنه نضال طويل وشاق وقاس، وصارم، يتطلب إرادة كالحديد، يتطلب تدريب هذه الإرادة وتكوينها على مر الأيام، إن طريق الكاتب مليء بالتضحيات، كل شيء يجب أن يخضع لفنه، لا يجب للكاتب أن يسمح بما يعيق عمله وفنه، حتى لو كان السجن الذي حوله مع زملائه إلى سنوات من الكفاح والتعايش وممارسة الكتابة والفن والتمثيل. فقد أمضى الروائي صنع الله إبراهيم حياته في السجن مرتين بعد أن حكم عليه سبعة أعوام مع الأشغال الشاقة بسبب انتمائه للحزب الشيوعي في نهاية الخمسينيات.. ثم في أوائل الستينيات الذي ضم معه نخبة من الأدباء والمثقفين المصريين في الحقبة الناصرية أمثال: يوسف ادريس، عبد الحكيم قاسم، شوقي خميس، سامي خشبة، شهدي عطية الشافعي، محمود أمين العالم، عبد العظيم انيس، لويس عوض، الفريد فرج، محمد صدقي، صلاح حافظ، شريف حتاتة، لطفي الخولي، معين بسيسو، فؤاد حجازي، حسن فؤاد، وعبد الرحمن الخميسى وفؤاد مرسي وكمال عبدالرحيم ومحفوظ عبد الرحمن والفنان على الشريف وأحمد نبيل الهلالى وعبد الستارالطويلة وعادل حسين وآخرين. وجعل الكاتب صنع الله إبراهيم السجن كما يقول في مدخل الكتاب ورشة له ليتعلم فن الكتابة الذي مارسه قبل دخول السجن "فالبداية تعلمتها من أبى فقد كان هو المدرسة الأولى، كان حكاء عظيما، يتقن سبك حكاياته ونوادره المختلفة، النابعة من تجاربه أو قراءاته، بحيث يستولي على مستمعيه، وكدت أصبح المستمع الوحيد في السنوات الأخيرة من عمره". ثم يضيف "دفعني الملل من المدرسة التي كنت فيها متواضع الأداء، فضلًا عن ظروفي العائلية، إلى عالم القصص الساحر، ومن حسن حظي وحظ جيلي من الكتاب، أن وجدنا أمامنا مجلة أسبوعية تدعى (روايات الجيب) تصدر منذ الثلاثينيات، وتنشر ملخصات وافية لجميع أنواع الروايات العالمية من كلاسيكية إلى بوليسية، وقد أسبغ عليها ناشرها عمر عبدالعزيز أمين ما يتميز به من أسلوب عصري بعيد عن التقعر، وشاركه في ذلك عدد من المترجمين المتميزين. وتابع قوله "صار أبطالي هم (ارسين لوبين) و(روبن روبن) و(الفرسان الثلاثة) و(الكابتن بلود)، وهم مغامرون رومانسيون وضحايا للظلم الاجتماعي ويتميزون بالجرأة والشجاعة، وفي أغلب الأحيان يأخذون من الغني ليعطوا الفقير، شجعني أبي على قراءاتها فشغفت بالروايات البوليسية التي دفعتني إلى كتابة أولى رواياتي وأنا بعد في الثانية عشرة من عمري". ثم استثمر صنع الله إبراهيم تجربة السجن في إبداعاته الروائية والقصصية فيجد القارئ إيحاءات معاناته في المعتقلات منذ صدور روايته الأولى المهمة (تلك الرائحة) 1965، ثم في روايته الثانية (نجمة أغسطس) 1974، كما هو حاصل في روايته الفذة (اللجنة) وروايته (ذات) وقصصه القصيرة التي توحي بغنى التجربة ومعطياتها الواسعة التي تحولت إلى إبداع في مسيرة سرده. وفضلا عن ذلك كتابه يوميات الواحات. يعترف الروائي صنع الله محاولاته الأولى في كتابة القصص، رغم اشتراكه بأول مسابقة قصة قصيرة، وفوزه بالجائزة الثالثة وحصوله على (ثلاث جنيهات) لم يقبضها من صاحب المسابقة رغم ذهابه إليه أكثر من مرة بأنها قصته كانت ساذجة للغاية تحمل عنوان (الأصل والصورة) ولم يدرك وقتها أن حياته كلها ستدور حول هذه المقارنة الصعبة، والمحاولة المستمرة للمواءمة بين المثال والواقع حسب قوله.. خاصة بعد أن اتسعت اهتماماته بالموضوعات السياسية أعقاب سنة 1952 التي تعد حاسمة في حياته وحياة بلاده، إذ دفعته تلك الأحداث إلى الاشتراك لأول مرة في المظاهرات التي خرجت من كليتي العلوم والهندسة بقيادة عادل فهمي، وعادل حسين، وحسن صدقي (الذين اجتمع معهم فيما بعد في سجن الواحات) وحضوره اجتماعا حاشدا لأول مرة في قاعة الاجتماعات الكبرى في الجامعة قبل حريق القاهرة بأيام، ثم انضمامه لتنظيم (حدتو) أي (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني). ويحكي صنع الله إبراهيم عن مقدار تعلقه بنشاطه في الفكر الشيوعى حكاية تجرئه على أبيه حين عثر على المنشورات ذات مرة في مخبأ صغير له، ولما أراد التخلص منها، هدده بالقتل إن فعل، مثلما يروي تحول وتغير سلوكه إزاء اخته وعائلته وأقاربه، موضحا بأن أهم دوافع التحاقه بالنشاط السياسي كونه (كان امتدادا لقصص المغامرات التي شغف بها، وتأكيدً للذات في مواجهة الكبار والأغنياء، إضافة إلى اعتباره حالة تربوية ثقافية مستمرة، انعكست على سلوكنا وأخلاقياتنا، وعلاقاتنا الاجتماعية، مؤمنا بأن الشيوعي يجب أن يكون قدوة لغيره في السلوك والخلق وأن يحقق اتساقا بين حربه ضد الاستغلال وبحثه عن العدالة الاجتماعية، وبين حياته الخاصة.. إلى جانب ذلك تملكه وهو في العشرين من العمر هاجس الكتابة مما دفعه لكتابة المقالات وعروض الكتب التي نشرها في مجلة (الهدف) وجريدة (المساء) وفي فترة لاحقة اختاره شهدي عطية الشافعي للعمل معه في منشأة صغيرة للترجمة. ولعل العمل في هذه المنشأة شكل له رصيدا ثريا لتعلم مهنة الصحافة وإغناء التجربة، ويصفها بالقول: (تعلمت من شهدي أخلاقيات العمل الجاد المنضبط والترجمة من الإنجليزية إلى العربية واحتل مني موقع الوالد، أو الأخ الأكبر، وكان يعتمد منهاجا في التربية يقوم على إفساح المجال للمبادرات الشخصية فشجعني على تنفيذ اقتراحاتي بإعادة صياغة الموضوعات المملة للمجلة السوفيتية التي كان يتولى ترجمتها وطباعتها، فقد شهدت تلك الفترة حماستى واهتمامى المفرط بالقراءة ومحاولة تمثل أهم التجارب الأدبية في كتاباتى الأولى قبل بيان تجربتى الخاصة التي صنعتها معاناته الطويلة لصنوف شتى من التعذيب النفسي والجسدي في عدة سجون تنقل فيها. ويقول في فقرة في الكتاب "في تلك الأيام الشديدة البرودة، كنا نقفز كالقرود التماسا لبعض الدفء، وخلال ذلك نتبادل الحكايات، وبدأت أتذكر أحداث طفولتي التي انشغلت عنها بحاضري، وعندما انتهت الحكايات واستنفذت ذكرياتي انفتح المجال لأحلام اليقظة، وتأليف القصص، وتحولت كل حكاية سمعتها إلى قصة فنية بعنوان مثير، كما أن الحكايات التاريخية للكتب المقدسة روت عطشي إلى القصص، ونشط خيالي في تطوير كثير منها". وعن محاولاته الأولى للكتابة يقول صنع الله إبراهيم إنه "تحول إلى أشبه بجهاز رادار نشط يتحرك في كل الاتجاهات ليلتقط كل ما يثير المخيلة أو يصلح مادة للكتابة أو يساعد على فهم العملية الإبداعية والحياة نفسها، وأخذت نفسي بجدية شديدة فأخضعت كل دقيقة في اليوم لهدف الكتابة، التذكر، القراءة، العلاقات الشخصية، الإصغاء إلى الآخرين، كنت قد قررت أن أصبح كاتبًا، وكنت انتهز فرصة الهدوء الذي يسود العنبر في الصباح عندما يغادره العاملون في المزرعة فالجأ إلى فراشي وأسند الورقة والقلم إلى ركبتي وانهمك في تسجيل كل ما يعن لي من خواطر، ويتكرر الأمر في المساء بعد إغلاق السجن وانصراف الحراس إلى ثكناتهم القريبة، فبعد العشاء تفتح المخابئ ليحصل كل واحد على اوراقه وقلمه. المؤلف عمد في تلك الايام إلى استخدام اوراق لف السجائر في وكان يشغل صنع الله إبراهيم كما يقول في يوميات الواحات، كتابة وتأملات وأفكار تتعلق بتأليف قصص وروايات، "فقد كنت أكتبها في رأسى قبل أن تتاح لى فرصة الحصول على ورقة وقلم، وكان يستمد معظم مشاريع قصصه المؤجلة من الوقائع والأحداث التي تجري لهم، أو من خلال الحكايات التي كان يسمعها أو يعيشها داخل عنابر السجون، أو من ذكريات الطفولة، ففي يومياته احتلت الكتابة ومشاكلها ودور الكاتب وتكوينه ونظرية الرواية والأقوال المتضاربة بشأنها جانبا مهما منها، وشغلت القضايا الفلسفية والسيكولوجية المرتبطة بالعمل السياسي جانبًا آخر، ويشير فيها في أكثر من مرة عن (سقوط الأوهام) في عملية النضج والأسئلة التي طرحتها الموائمة بين المثال والواقع، ويعترف المؤلف أن كتابة اليوميات ليس بالأمر السهل، فهناك حسب رأيه خوفه الدائم من أن تقع في أيدي إدارة السجن والمباحث، فضلا عن الزملاء أنفسهم. ويضيف "الحق إني بالرغم من شدة حرصي على هذه الأوراق حملتها معي إلى كل مكان سافرت اليه واودعتها مخابئ مختلفة ثم شرعت أخيرًا في نقلها إلى جهاز الكمبيوتر عام 1998"، وقد احتوت اليوميات في الكثير من صفحاتها على مقتطفات مقتطعة من قراءاته لكتب الأدب والفكر والسياسة كان قد دونها المؤلف في فترات متفاوتة وتنطوي أهميتها على صعيد تطوره ككاتب روائي وقاص وشيوعي.. ففى تلك اليوميات صفحات مهمة من تاريخ مصر والمنطقة بل العالم من سياسة واقتصاد وعلاقات بشرية واجتماعية وبعض ملامح لحقبة شديدة الحساسية والخصوبة في الحياة المصرية والعربية. كما أنها تكشف عن الكثير من الحقائق ومواقف العديد من الشخصيات الثقافية المعروفة، فضلا عما انطوت عليه من أفكار وهواجس وتصورات الكاتب في شئون الأدب والثقافة والفكر وتميزت بالصراحة وأحيانا بالجرأة العالية رغم كتبتها في بعض سطور أو فقرات كما يكتب البعض منا في صفحته على الفيس بوك الذي لم يكن في خلد صنع الله أنها ملامح كتابة هذا الزمن.