إشراف: سامح قاسم إعداد: أحمد صوان رغم ما واجهه من صعوبات وصلت إلى حد المنع، تبقى أعمال الكاتب الصحفي الراحل محمود السعدني علامة فارقة في تاريخ الكتابة الساخرة في مصر، ويُمكن القول بأنه قد أسس مدرسة ساخرة عبر كتاباته المتنوعة التي أثارت غضب أنظمة العربية في حقبتي الستينيات والسبعينيات، لكن الولد الشقي حفر بقلمه ما تظل الأجيال الحالية شغوفة لقراءته. "الموهبة مسألة لا يستطيع أحد أن يختارها".. ولد السعدني عام 1928 بالجيزة، وبدأ العمل بالصحافة فور تخرجه، وكان يكتب في بعض الصحف والمجلات الصغيرة، ثُم انتقل للعمل في مجلة "الكشكول" التي كان يُصدرها الراحل مأمون الشناوي، وظل يكتب فيها حتى تم إغلاقها؛ ما اضطره للعودة إلى العمل كصحفي بالقطعة في جريدة "المصري" -والتي كانت لسان حال حزب الوفد في ذلك الوقت- وعمل أيضًا في دار الهلال، ولم يلبث أن أصدر مجلة هزلية بالتعاون مع رسام الكاريكاتير طوغان، ولكن تم إغلاقها بعد إصدار أعداد قليلة، وظل على هذا الحال حتى قيام ثورة يوليو 1952. "خفة الدم لا أحد يختارها، لكن ممكن تعمدها ومن تعمدها نهار أبوه أسود ويروح في ستين داهية، لأنها موهبة من عند الله، وأنا لا أتعمد شيئًا، وسلوكي في الحياة واحد، وأترك الحكم للناس".. أيّد السعدني الثورة منذ قيامها، وانتقل للعمل في جريدة الجمهورية، والتي أصدرها مجلس قيادة الثورة وعهد إلى أنور السادات -الذي كان له تجربة صحفية بدوره- برئاستها لتكون لسان حال الثورة، واستمر السعدني في العمل بعد رحيل السادات الذي تولى رئاسة البرلمان، وتولي كامل الشناوي مسؤولية تحريرها، ولكن سُرعان ما تم الاستغناء عن خدماته مع العديد من زملائه منهم بيرم التونسي وعبد الرحمن الخميسي، فانتقل للعمل مُديرًا لتحرير مجلة روز اليوسف الأسبوعية إبان تولي الراحل إحسان عبد القدوس رئاسة التحرير، وكانت لا تزال حينها مملوكة للسيدة فاطمة اليوسف والدة إحسان، قبل أن يتم تأميمها فيما بعد. "نحن لا نحب حكامنا ولا نختارهم، ولكنهم يحطون على رءوسنا كما المصيبة، وينزلون بنا كما الكارثة، ويجلسون في الكراسى كما المآسى، ولا فكاك منهم إلا بعمك المنقذ عزرائيل".. بدأت علاقة السعدني تسوء مع نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إبان زيارة عمل له إلى سوريا قبيل الوحدة بين البلدين، فعندما كان هناك طلب منه أعضاء في الحزب الشيوعي السوري توصيل رسالة مُغلقة للرئيس عبد الناصر، وعند عودته قام بتسليمها إلى السادات دون أن يعلم محتواها؛ وكانت الرسالة تحتوي تهديدًا لعبد الناصر، فتم إلقاء القبض عليه وإلقاؤه في السجن عامين تقريبًا، وبعد الإفراج عاد للعمل في روز اليوسف التي خضعت للتأميم، ثم تولى رئاسة تحرير مجلة صباح الخير؛ وانضم إلى التنظيم الطليعي -وهو التنظيم السياسي الوحيد آنذاك- والذي كان له في تلك الفترة نفوذ كبير. "تستطيع أن تكون ضابطًا أو بحارًا، ولكنك لا تستطيع أن يكون دمك خفيف، والسبب في ذلك منذ الميلاد أبوك وأمك".. بعد وفاة الرئيس عبدالناصر حدث صراع السلطة الشهير بين الرئيس السادات وعدد من مسئولي النظام، والذي انتهى باستقالة هؤلاء واعتقال السادات لهم وتقديمهم للمحاكمة بتهمة محاولة الانقلاب -فيما عُرف بثورة التصحيح مايو 1971- وكان اسم السعدني ضمن القائمة التي تم اعتقالها، وتمت محاكمته أمام محكمة الثورة التي أدانته وحكمت بسجنه؛ وفي تلك الفترة حاول الرئيس الليبي السابق معمر القذافي التوسط له عند الرئيس السادات، إلا أن السادات رفض قائلًا أن السعدني قد أطلق النكات عليه وعلى أهل بيته "ويجب أن يتم تأديبه ولكني لن أفرط في عقابه"، ليقضي الساخر الكبير عامين آخرين في السجن حتى تم الإفراج عنه بقرار من الرئيس الذي أصدر كذلك قرار جمهوري بفصله من عمله في مجلة صباح الخير، ومنعه من الكتابة، ومنع ظهور اسمه في أية جريدة مصرية "حتى في صفحة الوفيات"، عندها قرر السعدني مغادرة مصر والبحث عن عمل في الخارج. "كلما رأيت عربًا في الخارج اجتاحني السرور، وكلما ناقشتهم ركبني الهم".. مع وجوده في العاصمة اللبنانية بيروت استطاع السعدني الحصول على عمل بصعوبة في جريدة السفير، وقبِل أن يتقاضى أجر يقل عن راتب الصحفي المبتدئ -حيث كان أصحاب الصحف اللبنانية يخشون غضب الرئيس السادات- لكنه سرعان ما غادر العاصمة اللبنانية قبل اندلاع الحرب الأهلية، وتوجه إلى ليبيا للقاء الرئيس القذافي، والذي عرض عليه إنشاء جريدة أو مجلة له في بيروت، لكنه رفض ذلك خوفًا من اغتياله على يد تجار الصحف اللبنانيين، والذين سيرفضون تواجده الذي يُشّكل تهديدًا لتجارتهم؛ ثُم تحدث السعدني بسخرية كعادته، وبدون قصد، عن جريدة القذافي الأثيرة "الفجر الجديد" عندما عرض عليه القذافي الكتابة فيها، واصفًا إياها بال"الفقر الجديد"، عندها لم يُبد القذافي حماسًا كبيرًا لإصدار مجلة "23 يوليو" التي اقترح السعدني إصدارها في العاصمة البريطانية لندن، بل وسخر من فكرة إصدارها هناك، وكذلك لم يرق له إصدار مجلة ساخرة؛ لينتهي اللقاء الذي سافر السعدني بعده إلى أبو ظبي عام 1976. "نحن في الواقع لا نخرج من بلادنا ونعيش في الخارج، ولكننا نهاجر إلى الخارج ونعيش في بلادنا، نطبخ طعامنا الذي تعودنا عليه، ونتحدث في نفس المواضيع الخاصة ببلادنا".. قبل السعدني العرض الذي تقدم به عبيد المزروعي بديلًا عن العمل مسؤولًا بالمسرح المدرسي الإماراتي، وهو إدارة تحرير جريدة "الفجر" الإماراتية، والذي كان بدوره مقامرة سياسية جازف بها المزروعي، خاصة أن السعدني وضع شروطًا مهنية قاسية كان أهمها عدم التدخل في عمله، وهو الشرط الذي تسبب بعد أقل من أربعة أشهر بمصادرة أحد أعداد الجريدة من الأسواق بسبب عنوان أغضب السفارة الإيرانية في أبوظبي؛ وكانت إيران في ذلك الوقت تطالب بالإمارات مُعتبر إياها من ملحقيات إيران، ولم تنسى السفارة الإيرانية للسعدني الشعار الذي وضعه للجريدة "جريدة الفجر.. جريدة العرب في الخليج العربي" ليطلب مسؤوليها صراحة حذف صفة العربي عن الخليج لأنه "خليج فارس" حسب قولهم؛ كما أنه تعاقد مع منير عامر الصحفي بمجلة صباح الخير ليتولى وظيفة سكرتير التحرير، فأدخلا إلى صحافة الإمارات مدرسة روزاليوسف الصحفية بكل ما تتميز به من نقد مباشر وتركيز على الهوية القومية، والابتعاد قدر الإمكان عن التأثير المباشر للحاكم وصانع القرار، ومع الوقت ازدادت الضغوط الإيرانية على حكومة الإمارت، ليضطر السعدني مرة أخرى إلى مغادرة أبوظبي إلى الكويت، حيث عمل في جريدة السياسة الكويتية مع الصحفي أحمد الجار الله، وعادت الضغوط تلاحقه هناك أيضًا، فغادر إلى العراق ليواجه ضغوط جديدة بشكل مختلف، عن طريق ممارسات الموظفين العراقيين العاملين في شئون مصر بالمخابرات العراقية، والذين مارسوا ضغوطًا كبيرة عليه لإخضاعه، فكان قراره بعد لقاء مع نائب الرئيس العراقي في تلك الفترة صدام حسن بمغادرة العراق إلى لندن. "رغم الظلام الذي اكتنف حياتي، ورغم البؤس الذي كان دليلي وخليلي، إلا أنني لست آسفًا على شيء، فلقد كانت تلك الأيام هي حياتي، ومن عين تلك الأيام، ومن رحيق تلك الليالي خرج إلى الوجود ذلك الشيء الذي هو أنا".. عادت فكرة مجلة 23 يوليو مرة أخرى إلى السعدني بعد وصوله إلى عاصمة الضباب، ولكن هذه المرة استطاع تنفيذها بتمويل غير مُعلن من حاكم الشارقة، بالاشتراك مع محمود نور الدين ضابط المخابرات المصري السابق -والذي انشق على الرئيس السادات بعد اتفاقية كامب ديفيد- وفهمي حسين مدير تحرير روز اليوسف الأسبق ورئيس تحرير وكالة الأنباء الفلسطينية، وفنان الكاريكاتير صلاح الليثي وآخرين، وكانت أول مجلة عربية تصدر هناك، وحققت نجاحًا كبيرًا في الوطن العربي، وكان يتم تهريبها إلى مصر سرًا، والتزمت المجلة بالأفكار الناصرية، وكان السعدني يتوقع أن تلقى دعمًا من الأنظمة العربية ولكن ذلك لم يحدث، بل تمت مُحاصرتها ماليًا من أنظمة العراق وليبيا وسوريا، حتى أن السعدني سخر من ذلك قائلًا "كان يجب على أن أرفع أي شعار إلا 23 يوليو لأحظى بالدعم"، وسرعان ما توقفت المجلة، ولكن السعدني بقى هذه المرة في لندن إلى أن تم اغتيال أنور السادات في حادث المنصة الشهير؛ فعاد إلى مصر واستقبله الرئيس الأسبق مبارك في القصر الجمهوري، ليطوي بذلك صفحة طويلة من الخلاف مع النظام؛ وظل بالقاهرة حتى رحل عن عالمنا في مايو 2010 عن عمر ناهز الثانية والثمانين خريفًا إثر أزمة قلبية حادة. "أعيش صحفيًا وأموت صحفيًا، وسأحشر يوم القيامة في زمرة الصحفيين".. تميز أدب السعدني بالنقد اللاذع والسخرية الشديدة، وتعتبر مذكراته"الولد الشقي" من أروع ما كتب من أدب السيرة الذاتية في الأدب العربي، وتم نشرها في سلسلة كتب في الفترة من نهاية الستينات وحتى منتصف التسعينات، وحملت عناوين فرعية "طفولته وصباه في الجيزة"، "قصة بداياته مع الصحافة"، "الولد الشقي في السجن"، "الولد الشقي في المنفى"، و"الطريق إلى زمش" الذي يحوي ذكرياته عن أول فترة قضاها في السجن في عهد عبد الناصر. كذلك للساخر الكبير العديد من الكتب التي تناولت مواضيع متنوعه منها "مسافر على الرصيف" الذي حكى فيه عن بعض الشخصيات الأدبية والفنية التي عرفها، "السعلوكي في بلاد الإفريكي" وكان رحلات إلى إفريقيا، الموكوس في بلد الفلوس" عن رحلته إلى لندن، "رحلات أبن عطوطه" عن رحلات متنوعة، "حمار من الشرق" وحمل وصف ساخر للوطن العربي، ورواية "قهوة كتكوت".