كل شيء فى بداية أمره يبدو كلعبة، وكذلك الحروب تبدأ بسيطة، ذات مستوى محدود، يمكن السيطرة عليها وتوجيهها لفترة، لكنها تنمو وتتطور وتبتكر منظومتها مع تشابكات الواقع وتعقيداته، حينها تنفلت القدرة على تحجيمها، فتفرض قواعدها الجديدة التى يصعب التحكم فيها، فتصير مأساة للعالم أجمع، وهو ما ينطبق على ما يحدث الآن معنا فيما يسمى «الوطن العربي»، وقد كان غياب الوعى العنصر الرئيس فيما نعانيه من تخلف على جميع المستويات. وبينما أستعيد قراءة رواية (الثعلب الذى يظهر ويختفي) للكاتب المغربى محمد زفزاف (1945/ 2001)، أستعير صوت «علي» بطل الراوية، إذ يسأل بحسرة: (ما سبب تأخرنا.. لماذا نتخلف، والعالم يسبقنا دائما فى الأفكار والأعمال؟ لماذا يكون التطور لدينا بطيئا إلى هذا الحد؟). ووفق مقاربة الناقد المغربى عبداللطيف النكاوي، «ينتظم الفضاء الروائى فى (الثعلب الذى يظهر ويختفي) حول ثنائية الانغلاق والانفتاح أو الرغبة فى الانعتاق من قبضة الحصار والضيق، وهى رغبة تأخذ فى النص شكل عودة نحو إقصاء وانغلاق جديدين.. وفى ديناميتها صدى لدينامية فضاء حضارى عربى وإسلامى تشكل فيه جدلية الانفتاح والانغلاق عنصرا حيويا ومحددا». الرواية التى صدرت فى أواخر الثمانينيات من القرن الماضى، ترتكز على معطيات ثلاثة عقود، إذ يتحدث بطل الرواية «علي» عن سنوات الستينيات، ولا يدرى ما الذى ستكون عليه الأمور فى السبعينيات والثمانينيات، (هل ستنشأ أجيال أخرى مثل هذه؟ هل ستتكرر؟)، ثم يقول وهو ينظر إلى كاتبه: (فلنترك الجواب للعقدين القادمين دائما يجب النظر إلى المستقبل، وهذا لا يفعله الناس عادة، وذلك هو سبب مشاكلهم اليومية). انتظر «علي» لعل شيئًا يتغير، ولعل الوعى يواكب المتغيرات من حولنا، وهو ما لم يحدث، يقول الراوي: (انتظرنا، واستتب الأمر لا جديد تحت الشمس.. وكأن شيئًا لم يتغير فى هذا العالم.. ما زلنا سُكارى يا «علي»، ضاربين بانجو ومحششين، ونفتقد الوعي). وكأن «زفزاف» يقدم مرثية للوعى العربي يترجم التخلف الذى أصابنا جميعا، «نخبة وحرافيش، قادة وشعوبا»، إذ يكشف أننا بلا إرادة تمنحنا القدرة على التغيير، وليس لدينا مشيئة نريد لها أن تتحقق يقول: (تساءلت مع نفسى كيف أستطيع أن أشاء، وكيف يستطيع أى إنسان على الأرض أن يشاء أو يريد؟ وفكرت مع نفسى أن القطيع هو الذى يريد لنا ما نريد، ويا حبذا لو حقق جزءا بسيطا مما تريده النعاج فى هذه الحياة، لأنها تريد دائمًا وتظل تريد إلى أن تذهب إلى البرزخ دون أن يتحقق كل ما أرادت. وأما الإرادة الحقيقية فهى إرادة الخير، أما إرادة الشر فالقطيع كفيل بتحقيقها، ويعمل كل ما فى مستطاعه لتنفيذ تلك الإرادة الخبيثة). عندما صدرت الرواية فى العام 1989 عن (منشورات أوراق بالدار البيضاء)، لم تكن إرهاصات «ثورات الربيع العربي» قد ظهرت، ولم يكن هناك حضور يذكر للجماعات الإرهابية، لكن سلطة الإقصاء كانت ساحقة، وكان الوعى العربى ممعنًا فى الذبول ومستسلمًا للتبعية، «ما ترتب عليه تفاقم التخلف بمساعدة الداخل والخارج»، حتى بدت الحياة (شريطا طويلا فيه الملائكة والشياطين، والدبابات والضباط يتبخترون فى بذلاتهم، وفى الشريط أيضًا نساء محتشمات وعاريات، وأضواء علماء نفس ملتحون)، يقول «زفزاف»: (مر أمامى فى الشريط كذلك قطيع من الثعالب تدير رءوسها يمنة ويسرة، استمر الشريط طويلا وكرر نفسه مرارا هلوسة حقيقية، وفكرت فيم إذا لم تكن الحياة نفسها هلوسة، وخشيت أن أقول إنها هلوسة إلاهية، لكن الله أبعد ما يكون عن مثل هذه الصفات، وإنه لم يخلق هذه الحياة إلا لحكمة معينة لم يدركها إلا القليلون، أما القطيع فثغاؤه يرتفع فى كل مكان، ويتناطح فى كل مكان، ومر أمامى فى الشريط رجال كثيرون يلهثون فوق النساء ولعابهم يسيل كالكلاب، ثم انفصلت النساء عنهم، وفتحن أفخاذهن للتو وأخذن يصرخن ويتوجعن «آربي»، ثم خرج من بين أفخاذهن أطفال صغار مثل القردة، تمت العملية بسرعة بين اللهاث والولادة، ثم بدأ الأطفال يمشون دون أن يتعلموا الحبو، ثم رأيتهم يلعبون بأسلحة نارية وقلت لا بد إنهم سيتحاربون، لأنه كان عندى يقين أن الحروب هى فى أول أمرها لعبة). إنها ليست مرثية لأفول الوطن العربى وحسب، إنما استشراف لذبول الحياة فى هذا العالم. ■ ما بين الأقواس مقتطفات من الرواية [email protected]