كتابات «نجيب» قاومت محو الهوية وحافظت على مكونات الأمة التوزيع ليس معيارا للحكم على الأعمال.. و«الكاتب الفقاعة» ظاهرة متكررة تتلاشى سريعًا مرة أخرى يعود الكاتب الكبير والناقد مصطفى بيومى إلى عالم نجيب محفوظ، فبعد أن أصدر العديد من الأعمال التى تتناول العديد من الأنماط التى تناولها محفوظ فى عالمه الروائى، والذى وصفه فى حديثه ل«البوابة» بأنه يوازى ما قام به علماء الحملة الفرنسية فى موسوعة وصف مصر، وبعد أن أصدر قبلاً «معجم أعلام نجيب محفوظ»، عاد بيومى ليُصدر حديثا «معجم شخصيات نجيب محفوظ» فى أربعة أجزاء، ليتحدث بشكل مُفصّل عن كل من تناولهم محفوظ فى عالمه ومعانى أسماء هذه الشخصيات ومغزاها وانتماءها، مُتحدثا فى مقدمة المعجم عن دلالات هذه الأسماء وتكرارها وأسباب التسمية؛ ما يُسهّل عمليات البحث لدى المهتمين بأدب نجيب محفوظ من الروائيين والباحثين. تحدّث بيومى عن فكرة المعجم الذى تناول 1742 شخصية رواية وقصصية، والتى وصفها بأنها «الحصيلة الصافية»، بعد استبعاد من لم يذكر محفوظ أسماءهم أو ظهروا فى ثنايا أعماله «بشكل أقل من أن يكون هامشيا أو ثانويا»، فأوضح أنه كان لديه طموح أن يحصر أهم عشرة أدباء من وجهة نظره فى تاريخ الأدب المصرى، منهم نجيب محفوظ، وفتحى غانم وبهاء طاهر، وأنه وضع معيارا هاما للبدء فى العمل بالنسبة لكل أديب، هو إما أن يكون قد توفيَّ مثل نجيب محفوظ «حتى يكون إنتاجه الأدبى قد اكتمل»، أو أن يكون قد اقترب من مرحلة التوقف عن الكتابة، مثل بهاء طاهر وعلاء الديب. ويقول «لا يُمكن أن أكتب معجما مثل هذا عن كاتب فى الخمسينيات أو الستينيات من عمره، لأنه لا تزال لديه الفترة لينتج أعمالاً أخرى»؛ مُضيفا: «إن الهدف من المعجم هو إعادة إنتاج الكاتب أو الروائى عن طريق عمل معين، وتيسير عملية التلقى عند القراء، فإذا تصادف وقرأت مثل هذا الكتاب عن شخصية مثل صفية لدى بهاء طاهر، وأُعجبت بهذه الشخصية، سيكون هذا دافع لقراءة الرواية نفسها لمعرفة كيف دخلت هذه الشخصية فى الضفيرة الروائية»؛ مُشيرا إلى أنه كباحث أو ناقد هو دائما «خارج النص»، فلا يقوم سوى بإعادة ترتيب الأوراق حتى يستطيع القارئ أن يُدرك أبعادها، فالشكل الروائى الحديث فى أحيان كثيرة لا يُقدم نفسه بشكل مباشر. التوزيع لم يكن أبدا هو المعيار فى الحكم على الكاتب، هكذا يرى بيومى ضاربا مثالا بكاتبين يشتركان فى الاسم الأول، أحدهما يُعّد بالفعل من عباقرة الأدب المصرى رغم أن أغلب القراء لا يعرفون عنه شيئا، فى مُقابل الآخر الذى تتصدر أعماله قوائم الأعلى مبيعاً طوال الوقت، «ولا أقول إن هذا خطأ ولكن الخلل يكمن فى أن هناك أعمالا تظل مُلقاة بالسنوات فى أدراج مؤسسات النشر الحكومية لمجرد أن صاحبها لا يُمارس وسيلة للابتزاز، مثل أن يكتب فى صحيفة أو موقع ما؛ الطبيعى أن يُرسل العمل ولو بالبريد فيكون جيداً ويتم نشره أو العكس، ولكن هناك صفقات وابتزاز يحدث مع الكثيرين»؛ مُضيفاً أن هذا النمط مما يحدث فى الأدب أو غيره يجعل المرء يشعر بأن هناك فوضى ما هو لا يفهمها ولا يستطيع التعايش معها، فأنت ربما أحياناً تكتشف أن هناك كاتبا يفهمه البعض خطأ، ويتم تصنيفه بناء على هذا، بل وتتم كذلك محاكمته من الناس على هذا الأساس، لذلك أنا كتبت فى مقدمات كل أعمالى عن هؤلاء الأدباء أنك يجب أن تتعامل مع الشخصية كما هى كائنة، وليس كما ينبغى أن تكون من وجهة نظرك؛ وهذا يستلزم قراءة موضوعية لوضع الكاتب فى مكانه الطبيعى. يؤصل بيومى لفكرة المعجم قائلا: «إن العرب هم من اخترعوا المعاجم مثل معجم الأدباء ومعجم الشعراء ومعجم الأنساب، حتى الخيول كانت لها معاجم، وفى هذا حفظ للتراث من الاندثار»، ويتابع: «لاحظت بحكم تقدمى فى السن أن الشباب العشرينى أو الثلاثينى يُمكن ألا يكون يعرف نجيب محفوظ أو كمال الشيخ أو محمود سعيد، بل هو فقط يعرف أبناء المرحلة، وأنا لست ضد أبناء المرحلة، لكن الأفضل أن يتم وضعهم فى السياق التاريخى، والزمن كفيل بأن يحدد من يعيش ويترك بصمة وأثرا ومن يختفى»، وأشار إلى أن هناك أغنيات لاقت نجاحاً خرافياً استمر لعدة أشهر، ثم تلاشى بعدها كل أثر له على عكس أغانى أم كلثوم وعبد الحليم، هذه الأغنيات جميلة فى مرحلتها مثل موضة البنطال الشارلستون أو شكل الشعر أو السوالف فى حقبة ما، مستدلاً فى حديثه بدراسة قديمة عن الثقافة المصرية تناولت ظاهرة أن كل عقد من الزمن يظهر فيه «الكاتب الفقاعة» الذى يشغل حيزا من اهتمام القراء لفترة ما ويحصد الشهرة والاهتمام، ثم يختفى بعدها، وهذا هو الفرق بينهم وبين نجيب محفوظ الذى كان يتحرك ببطء ولكن بثقة، فأعماله مثل الحرافيش والثلاثية ستظل باقية. ويرد بيومى على المقولة الشائعة بأن «المُحِب لا يصلح ناقداً» فى مقدمة دراسته عن علاء الديب بأن «المحب الجيد لابد وأن يكون ناقدا جيدا»، وأن الناقد يجب أن يكون محبا حتى لو كان مختلفا، علاقة الحب هى بين القارئ والنص نفسه وليس الكاتب، «فأنا يُمكن أن أحب كاتبا من خلال نصوصه دون أن نلتقى، كما أحببت نصوص المتنبى وبابلو نيرودا وتشيخوف وغيرهم دون أن تكون لى علاقة بالكاتب نفسه، وصبرى موسى أنا لا أعرفه، ولكن أتمنى أن يكون مشروعى القادم عنه، فهو كاتب عظيم»، مُعرباً عن رغبته فى إعادة تقديم كُتّاب عِظام إلى القارئ مثل عبد الحكيم قاسم ومحمود دياب «فهؤلاء كُتّاب عظام أثروا الأدب المصرى، ولكنهم لم يبرعوا فى العلاقات العامة، ولم يتعاقد أيهم مع دار نشر مكّنته من الانتشار كما فعل آخرون. معجم بيومى ليس عمله الأول عن أديب نوبل نجيب محفوظ، ولكنه أكبرها حجماً، وأنه نشر العديد من الأعمال حول أدب محفوظ فى الأهرام، وهناك عمل ضخم هو «المسكوت عنه فى أدب نجيب محفوظ»، الذى أرسله بالفعل إلى المجلس الأعلى للثقافة، ونجيب فى رأيه لا يزال كاتبا شابا لم يتم اكتشافه بعد، وأن حجم التعاطى النقدى بالأشكال المختلفة للنقد لم يوف الرجل حقه، «وأنا فى رأيى أن الكتابة عن رجل أحبه مثل نجيب محفوظ كأننى أكتب رواية بقلمى، فأنا من أهوى ومن أهوى أنا»، مؤكداً أن للكتابة الإبداعية وقتا والنقدية وقت، ولغيرهما من صنوف الإبداع وقت، وأن النقد فى حد ذاته إبداع «وأن تنزل إلى النص فى حد ذاته متعة، بدون قواعد مسبقة، فأنت تتعمق فى النص وتبارزه وتستمتع به، لأن النص هو صانع قوانينه النقدية»؛ وأشار إلى أنه يرى أن نجيب محفوظ بعالمه الروائى قام بوصف مصر كما فعل علماء الحملة الفرنسية «وأتحدى أى أحد عن أى حادثة فى القرن العشرين لم يتطرق إليها نجيب محفوظ بعمق»، وأن أديب نوبل قد تحدث فى كل المجالات، وكانت كتاباته ضد أى محاولة لمحو تاريخ هذه الأمة دون أن يتخذ قراراً بهذا، كما فعل سيد درويش بألحانه وأغانيه ومحمود سعيد بلوحاته فهى «جينات» بداخل المرء تجعله يتمسك بالهوية، ولو تعمد أحد أن يفعل هذا فلن يكون بالشكل الحقيقى وسيبدو مفتعلاً. وعن تجربته فى النشر الحكومى قال بيومي: «لا أعرف المعايير الخاصة بالنشر فى مؤسسات وزارة الثقافة فقد حدث أن دفعت منذ ثلاث سنوات بكتاب عن الكاتب العظيم الراحل فتحى غانم لهيئة الكتاب، ولم أتلق ردا منها سواء بقبول العمل، ومن ثم نشره أو رفضه كلية وفقا لمعاييرهم، كما حدث ودفعت بكتاب آخر عن الكاتب الكبير بهاء طاهر للهيئة نفسها منذ شهرين، ولم أتلق أى رد أيضا. وتكرر الأمر حينما قدمت دراسة بعنوان «المسكوت عنه فى عالم نجيب محفوظ» للمجلس الأعلى للثقافة منذ عام تقريبا. وعن جديد مصطفى بيومى قال: «أنتظر صدور رواية «لذة القتل» عن دار كنوز للنشر وأتوقع صدورها مع الدورة المقبلة لمعرض القاهرة الدولى للكتاب».