تساءل الكاتب البريطاني جدعون راخمان عن الأمد الذي تستطيع أمريكا أن تظل فيه محافظة على هيمنتها عسكريا وسياسيا على العالم. وأكد -في مقال نشرته الفاينانشيال تايمز- أن هذا السؤال هو الآن مطروح بإلحاح في أقاليم ثلاثة هي الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية، وإقليم المحيط الهادي "الباسيفيكي". ونوه راخمان عن أنه منذ انتهاء الحرب الباردة، وقوة أمريكا الضاربة عسكريا باتت بمثابة الحقيقة المركزية للسياسات العالمية.. والآن باتت هذه القوة تحت الاختبار في ثلاثة أقاليم حيوية، بينما القوى المنافسة لأمريكا تدخل معها في مناوشات لاختبار قوتها، بينما هذه تنظر فيما إذا كانت سترد على تلك القوى المنافسة وميقات ذلك الرد. ولفت راخمان إلى ثلاثة عناوين رئيسية تتناوبها الصحف حاليا وهي: "تحذير أمريكالموسكو من مغبة التصعيد العسكري في سوريا"، و"تصدي السفن الحربية الأمريكية للدعاوى الصينية في بحر الصين الجنوبي"، و"قبول بريطانيا الانضمام إلى كل من أمريكا وألمانيا في نشر قوات في دول البلطيق". وقال راخمان إن هذه الأحداث تجري في أجزاء مختلفة من العالم، لكنها مرتبطة ببعضها البعض؛ إنها القوة العسكرية الأمريكية هي التي تضمن ثبات الحدود حول العالم: في الشرق الأوسط يوجد أسطول أمريكي ضخم وقواعد جوية وذلك لطمأنة الأصدقاء وردع الخصوم، وفي شرق آسيا يتعامل الأسطول الأمريكي في الباسيفيكي كما لو كان بحيرة أمريكية ضامنا حرية الملاحة ومطمئنا للحلفاء، وفي أوروبا يضمن حلف شمال الأطلسي "ناتو" عملية التكامل الإقليمي للدول الأعضاء، وتتولى أمريكا تمويل نسبة 75 بالمئة من تسليح الحلف. لكن الأحوال تغيرت، وقد سلط التدخل الروسي في سوريا الضوء على مدى فقدان أمريكا للسيطرة على الشرق الأوسط، في أعقاب ثورات الربيع العربي وانسحاب القوات الأمريكية من العراق.. وفي ظل عزوف أمريكا عن التدخل البري في الشرق الأوسط مرة أخرى، لاحظت موسكو فراغا في القوى فتحركت لملئه.. وبإطلاقهم صواريخ كروز في سوريا، فإن الروس يحاكون الآن التدخلات العسكرية الأمريكية السابقة في المنطقة. وانتقل راخمان إلى أوروبا، ورأى أن استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم عنوة من أوكرانيا العام الماضي هو بمثابة أول عملية ضمّ أرض بالقوة في القارة العجوز منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.. لا عجب إذن في أن تعرب دول البلطيق -التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي- عن بالغ قلقها بعد هذه السابقة، ومن هنا يأتي قرار الناتو بتعزيز وجوده العسكري هنالك. وفي آسيا، عمدت الصين على مدار العام الماضي إلى بناء جزر اصطناعية في بحر الصين الجنوبي، محوّلة بذلك دعاويها النظرية فيما يتعلق بمياه إقليمية تبعد عن شاطئها بآلاف الأميال إلى شيء أكثر واقعية.. وتقول أمريكا إنها تنأى بنفسها عن نزاعات الصين الإقليمية مع جيرانها غير أنها (أمريكا) منوطة بحماية حرية الملاحة في المحيط الهادي، ومن هنا يأتي قرار الأسطول الأمريكي بمقاومة الفكرة القائلة بأن الصين قننّت تواجدها في مياه إقليمية حول جزرها الاصطناعية. ونوّه راخمان عن أن النزاعات الثلاثة تؤكد أنه على الرغم من الحديث العصري عن "عالم بلا حدود" إلا أن السيطرة على الأرض لاتزال مسألة أساسية بالنسبة للسياسات العالمية. وقال إنه إذا كانت أوروبا وشرق آسيا لا تعانيان انهيارا، إلا أنهما بدأتا تعانيان اضطرابات، هذا إلى جانب أن مشاهدة الشرق الأوسط وهو ينهار تبعث على زيادة الاضطراب في كل من أوروبا وآسيا عبر إثارة تساؤلات حول قوة أمريكا وبقاء الحدود الدولية.. وحتى بعض الخبراء الاستراتيجيين الأمريكيين ممن ظلوا يتحدثون طويلا عن ضرورة أن تعيد أمريكا التوازن إلى سياستها الخارجية تجاه آسيا وأن تخفض من تواجدها المتزايد في الشرق الأوسط - هؤلاء الخبراء الآن بات لديهم آراء أخرى، إذ باتوا يعتقدون أن رؤية التقهقر الأمريكي في الشرق الأوسط يضرّ بصورة وهيبة أمريكا في آسيا. وأكد راخمان أن إدارة باراك أوباما تتعرض لضغوط داخلية وخارجية لاستعادة صورة القوة الأمريكية عبر الرد بشكل أقوى على تلك التحديات الإقليمية.. ورأى الكاتب أن قرارات بإرسال سفن عبر مياه تدعي الصين أنها تابعة لها، وقرارات أخرى بنشر قوات في دول البلطيق إن هي إلا استجابة لتلك الضغوط.. لكن أوباما لايزال حذرا للغاية من طبيعة رد الفعل المعاكس لأمثال تلك القرارات لا سيما وأن نتيجة التدخلات العسكرية الأمريكية في العراق وليبيا لا تزال ماثلة في الأذهان، وهو بالإضافة إلى ذلك حذر من مغبة الصدام العسكري مع روسيا أو الصين، وهو مُحقٌ في هذا الحذر. ويتابع راخما مؤكدا أن الصورة زادت تعقيدا بنزاع آخر حول "مَن هي قوة "التصحيح" في سياسات العالم؟" فبينما ترى أمريكا الدعاوى الإقليمية لكل من روسياوالصين باعتبارها تحديات للنظام العالمي، فإن الروس يدّعون أنها أمريكا هي التي تقوض النظام العالمي إذْ ترعى عمليات "تغيير الأنظمة" في دول أمثال أوكرانياوسوريا. وعقب راخمان قائلا إن ثمة عنصرا دعائيا في دعاوى روسيا، لكن كلا من بكينوموسكو يحق لهما التخوف من أنهما إذا لم تقاوما القوة الأمريكية فإنهما قد تقعان في نهاية الأمر بين ضحايا الفكرة التي تدعمها أمريكا الخاصة بتغيير الأنظمة.. أما الأمريكيون، فلهم الحق في التخوف من أنهم إذا ما سمحوا لفكرة التصحيح الإقليمية بالانتشار فإن العالم سوف يُمسي أكثر فوضوية وخطورة مع اضمحلال قوتهم عالميا.