إدارة صيدليات 19011 تستغيث بالرئيس السيسي من مسئول يتعنت ضدهم بعد إعادة تشغيلها    رئاسة الجمهورية تؤكد الالتزام الكامل بالحفاظ على المكانة الدينية الفريدة والمقدسة لدير سانت كاترين وعدم المساس بها.. وتؤكد أن الحكم القضائي الصادر مؤخرا يرسخ هذه الثمة    محمود مسلم: مقترح ويتكوف يتسم بالجدية ومصر ليست مجرد وسيط بل المدافع الأول عن الفلسطينيين    "أونروا": غزة تحولت من جحيم إلى مقبرة بسبب تزايد القصف الإسرائيلي    بعد غرامة المليون جنيه، إمام عاشور يعتذر للشناوي على الهواء    السيطرة على حريق داخل مبنى السموم بمستشفى قصر العيني دون إصابات    حماية المستهلك: رقابة مشددة على الأسواق وزيارة 190 ألف منشأة خلال الفترة الماضية    تامر حسني يحتفل بالعرض الخاص لفيلم ريستارت بالإمارات (صور)    حماس: المقترح الأمريكي الذى وافقت عليه إسرائيل حول غزة لا يستجيب لمطالبنا    بسبب صاروخ حوثي.. سكان تل أبيب يختبئون في الملاجئ وتوقف حركة الطيران وإجلاء رئيس إسرائيل    «العقل لا يستوعب».. أول تعليق من أكرم توفيق بعد رحيله عن الأهلي    مصطفى كامل يطرح ثاني أغاني ألبومه بعنوان «كتاب مفتوح» (فيديو)    تناولها بانتظام.. 6 فواكه غنية بالألياف وتساعد على فقدان الوزن    6 اختبارات منزلية لاكتشاف العسل المغشوش.. خُذ قطرة على إصبعك وسترى النتيجة    أحمد السعدني عن حصد الأهلي لبطولة الدوري: "ربنا ما يقطعلنا عادة    كلمات تهنئة للحجاج المغادرين لأداء فريضة الحج    القبض على عامل خردة بتهمة قتل زوجته في الشرقية    مطار سفنكس يستعد لاستقبال الوفود الرسمية المشاركة في افتتاح المتحف المصري الكبير    دعاء تهنئة بعيد الأضحى المبارك 2025.. أفضل الأدعية    والدة غادة عبد الرحيم: يجب على الجميع توفير الحب لأبنائهم    خالد الجندي: لا يصح انتهاء الحياة الزوجية بالفضائح والانهيار    قصور الثقافة تختتم عروض مسرح إقليم شرق الدلتا ب«موسم الدم»    صدمته سيارة.. تشييع وكيل الإدارة العامة للمرور في مسقط رأسه بالمنوفية (صور)    تقارير: مانشستر سيتي يبدأ مفاوضات ضم ريان شرقي    "حقيقة المشروع وسبب العودة".. كامل أبو علي يتراجع عن استقالته من رئاسة المصري    ميلانيا ترامب تنفي شائعة رفض "هارفارد" لبارون: "لم يتقدم أصلاً"    الإفتاء: توضح شروط صحة الأضحية وحكمها    أجمل ما يقال للحاج عند عودته من مكة بعد أداء المناسك.. عبارات ملهمة    تعليقًا على بناء 20 مستوطنة بالضفة.. بريطانيا: عقبة متعمدة أمام قيام دولة فلسطينية    الحكومة: استراتيجية لتوطين صناعة الحرير بمصر من خلال منهجية تطوير التكتلات    المطارات المصرية.. نموذج عالمي يكتب بأيادٍ وطنية    إحباط تهريب صفقة مخدرات وأسلحة في نجع حمادي    مجلس جامعة القاهرة يثمن قرار إعادة مكتب التنسيق المركزي إلى مقره التاريخي    الوزير محمد عبد اللطيف يلتقي عددا من الطلاب المصريين بجامعة كامبريدج.. ويؤكد: نماذج مشرفة للدولة المصرية بالخارج    رواتب مجزية ومزايا.. 600 فرصة عمل بمحطة الضبعة النووية    البورصة: تراجع رصيد شهادات الإيداع للبنك التجاري ومجموعة أي أف جي    رئيس جامعة بنها يتفقد سير الامتحانات بكلية الهندسة- صور    دموع معلول وأكرم واحتفال الدون وهدية القدوة.. لحظات مؤثرة في تتويج الأهلي بالدوري.. فيديو    إنريكي في باريس.. سر 15 ألف يورو غيرت وجه سان جيرمان    بين التحضير والتصوير.. 3 مسلسلات جديدة في طريقها للعرض    يوم توظيفي لذوي همم للعمل بإحدى شركات صناعة الأغذية بالإسكندرية    مجلس حكماء المسلمين يدين انتهاكات الاحتلال بالقدس: استفزاز لمشاعر ملياري مسلم وتحريض خطير على الكراهية    محافظ المنوفية يشهد استلام 2 طن لحوم كدفعة جديدة من صكوك الإطعام    نائب رئيس الوزراء: قصر العينى أقدم مدرسة طبية بالشرق الأوسط ونفخر بالانتماء له    مصنع حفاضات أطفال يسرق كهرباء ب 19 مليون جنيه في أكتوبر -تفاصيل    "قالوله يا كافر".. تفاصيل الهجوم على أحمد سعد قبل إزالة التاتو    لحج آمن.. 7 نصائح ذهبية للحماية من الشمس والجفاف    «أوقاف الإسكندرية»: تجهيز 610 ساحات لأداء صلاة عيد الأضحى 2025    حملات تفتيشية على محلات اللحوم والأسواق بمركز أخميم فى سوهاج    الكرملين: أوكرانيا لم توافق بعد على عقد مفاوضات الاثنين المقبل    الإسماعيلى ينتظر استلام القرض لتسديد الغرامات الدولية وفتح القيد    لندن تضغط على واشنطن لتسريع تنفيذ اتفاق تجارى بشأن السيارات والصلب    وزير الزراعة يشهد تخرج متدربين صوماليين ضمن برنامج إدارة التربة    الإحصاء: انخفاض نسبة المدخنين إلى 14.2% خلال 2023 - 2024    جامعة حلوان تواصل تأهيل كوادرها الإدارية بدورة متقدمة في الإشراف والتواصل    كل ما تريد معرفته عن سنن الأضحية وحكم حلق الشعر والأظافر للمضحي    وكيل وزارة الصحة بالإسماعيلية تتفقد انتظام سير العمل بوحدة طوسون    ماريسكا: عانينا أمام بيتيس بسبب احتفالنا المبالغ فيه أمام نوتينجهام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنا ابن الحلم.. فصل من رواية "ابنة التفاحة" تصدر قريبًا
نشر في البوابة يوم 28 - 09 - 2015

«تخيّل أنك مدين بحياتك كلها لصالح حلم، مجرد حلم، فى ليلة صيف». يقول آرام سيمونيان، المولود فى سيس بأضنة، والتى تُعرف حاليًا باسم قوزان: «السجلّات تقول إنى من مواليد 1906، أنا أشعر أن عمرى الحقيقى ستمائة سنة، التركى فعل بى هذا. كنت ابن تسع سنوات عندما أصدر الباشوات الثلاثة مرسومهم بترحيل الأرمن من سيس فى 1915، شيخ المسجد القديم بالقرية قال للجندرمة التركية التى جاءت لترحيلنا إن والدى هو عامل البناء الذى يتولى تشييد المسجد الجديد فى مدخل القرية، وطلب منهم أن يتركوه، وأبى اشترط عليهم أن ينتقى العمّال الذين سيعملون معه فى بناء المسجد، وافقوا على مضض، قال أحد الجنود (المسجد سينقذك أيها الكافر. ألن تصبح مسلماً؟) وهكذا، أنقذ أبى إخوته وبعض أقاربنا من الترحيل فى مسيرات الموت، كنا نعرف ممن سبقونا ومن أقاربنا فى باقى الأراضى الأرمينية فى شرق الأناضول، أن من يمضى فى مسيرة لا يظهر ثانيةً. حتى الشعراء ذبحوهم، قتلوا الشاعر دانيل فاروجان وقتلوا الكاتب جريجور زوهراب.. لم تكن هناك أى ضمانات مع الأتراك.
انتهى بناء المسجد فى ثلاثة أشهر، وكانت القرية خالية من الأرمن إلا منّا نحن آل سيمونيان، كنا نتعرض بين الحين والآخر لهجمات من عصابات كردية، ستة بيوت فى مواجهة جيش صغير، أحيانًا كانوا يكتفون بإشهار سيوفهم الملونة بالأحمر، أرادوا أن يخبرونا أن الدم الأرمينى يخضّب أسلحتهم. بسببهم اضطررنا إلى إخفاء أطفالنا بين أكوام القطن فى المخازن، واعتدنا على ابتلاع القطع الذهبية لكيلا ينهبوها، واعتصمنا بالمسجد تارة وبالكنيسة تارة، قبل أن يصدر أمر نهائى هذه المرة بترحيل كل ما هو أرمينى من سيس. لقد سلبونى حياتى.
من مجمل آل سيمونيان لم يبق فى سيس سوى أرمينى واحد، كان جنديًا فى الجيش، ولأنه حاز على أوسمة أثناء حرب الأتراك والصرب، فقد حظى باستثناء وبقى وحيدًا هناك، أحيانًا كنت أفكر فى مصيره: الأرمينى الأخير فى الأناضول، لكن الحياة التى عشتها أنا وأهلى بعد أن هُجّرنا من سيس كانت تجعلنى أعمل التفكير فى نفسى أيضاً.
***
يواصل الشيخ الأرمينى، رواية قصته المأساوية: «أذكر أن السياط رسمت خطوطًا حمراء ووردية وزرقاء على ظهر أبى، لأنه كان بين الحين والآخر يطالب بالتوقف أو تخفيف السرعة، وكذلك عمى آشود، وكلاهما تناوبا حمل جدتى التى سقطت قبل أن ينقضى الليل، كانت قد تلقت لسعة سوط عند مغادرتنا لسيس، ومن حينها ظلت تبكى، ولفظت أنفاسها الأخيرة وهى محمولة على ظهر عمى، كلّمها فلم ترد، أنزلها، وحملق فيها وهزّها، تيقّن من أنها هامدة، كان ذلك يحدث بالقرب من أحد الجنود الأتراك، لم يستوعب عمى الأمر وانفلتت أعصابه، نظر للجندى، وصاح من بين دموعه (أنتم الأتراك لصوص وقتلة) ثم انتفض لينقض عليه. لكن بوووم. التركى كان أسرع، طلقة واحدة فى وجه عمى آشود ناثرت لحمه علينا: (وأنت كافر والكلاب ستأكل أشلاءك). اختلط على وجه أبى الدم والغبار والدموع والمخاط، انحنى قرب جثة جدتى وهو ينوح غير أن جلدتى سوط أجبرتاه على الركض بعيداً.
فى صباح اليوم التالى، وبعد أن مررنا فى طريقنا بقرى زوّدتنا بمجاميع جديدة التحقت بالمسيرة، وصلنا إلى أضنة، وهناك وجدنا المزيد من الأرمن، كانت فرصة جيدة لنأكل، ونلعق جراحنا. أبى أصيب بنوبة هذيان وحمّى، ونزفت أمى من كعبى قدميها، أما أخت جدتى، وهى عرّابتى بالمناسبة، فقد ظلت تنازع طيلة النهار، وقرب المساء تقيأت وماتت،لم يتركوا لنا فرصة لندفنها. وأمرونا بالسير إلى يوزغاط. أى نوع من الشياطين هؤلاء؟ أقسم لو عرفت أن الله قد غفر لهم، فسأرحّب بالخلود فى الجحيم.
كنا نمشى ليل نهار، قبل أن يسمحوا لنا بالتوقف لالتقاط الأنفاس فى المفازات أو فى خلاء بين ضيعتين، كنا نمر بقرى كردية وتركية، كانوا يطالعوننا ثم يرجموننا بالحجارة واللعنات، وكنا نضطر للركض. رضيعة صغيرة تُركَت صيدًا للنسور، وقبل أن ندخل إلى ممر ضيق بين جبلين، رأيت بعينى امرأة مسلمة فارعة الطول، أطول من قائد الجنود نفسه، تتسلل إلى مؤخرة المسيرة وتخطف نونيا ابنة عمى آشود، نبّهت زوجة عمى دون أن أثير انتباه الجنود، إلا أنها نظرت لى بعينين ميتتين وهمست: «هذه فرصتها لتنجو من الذبح».
بعد كل هذه السنوات، وكلما تراءى لى شريط حياتى اللعينة، كنت أتوقف أمام مشاهد عدّة، ومنها المصير الغامض لابنة عمى.
تناقص عددنا يوميًا، كنا نخلّف الكثير من الجثث إثرنا كدليل على أننا مررنا من هنا، الأرمن مروا فى هذه الدروب الصحراوية وتركوا أرواحهم هناك أيها العالم المنحط. خمس وسبعون سنة لم يكونوا كفاية لتخرج تلك الشظايا المغروسة فى لحم مخى. قبيل وصولنا ليوزغاط مررنا بقريتى ياربوز وكورينى، أمرونا بالتوقف، وفى الحقول التى تقع جنوب كورينى رأيت تركيًا يسحب خالتى نايرى من شعرها إلى حقل على جانب الطريق، كانت تحاول التملص منه فى صمت ويأس بينما أصيب الجميع بالخرس خوفًا من رصاص بنادق الأتراك. اختفى الجندى وخالتى وسط الحقول، وفى دقائق دوّى صوت الرصاصة التى قضت على خالتى، فقط لأنها رفضت أن تجامع التركى.
رغم كل شيء، كان أبى يتعافى فى الطريق، قطع كل تلك المسافة محمومًا ونجا بمعجزة، بعض الرجال تولوا حمله لمسافات قصيرة بالتناوب. عندما تراءت لنا الإسكندرونة، كنا أشبه بمسيرة أشباح، أمرونا بالتوقف، فرش قائد العسكر ملاءة أمامه وأمرنا بأن نضع كل أموالنا لأننا سنتعرض لهجمات قطاع الطرق الأكراد والعرب، أقبلنا واحدًا بعد الآخر ووضعنا كل ما رأيناه ثمينًا فى حوزة التركى، جلسنا لساعات ثم باشرنا المسير إلى الصحراء.
ما إن باشرنا السير سمعت أرمينية تقول لأخرى أنها فضّلت أن تترك ابنتها المراهقة فى حوزة أغا تركى فى أضنة، بدت تلك الأم كما لو كانت تواسى الأخرى، وهذه الأخيرة كانت فى حالة إعياء شديد وتتعكز على الأولى، من بين أنفاس ذات حشرجة هَمَسَتْ: «رشفتُ دماء خروف مذبوح عوَضًا عن الماء لأتمكن من مواصلة المشى، أريد أن أموت هنا» وألقت بنفسها على الأرض، هممت أن أساعدها قبل أن يتنبّه الأتراك لسقطوها، لكن فى تلك اللحظة بالذات كانت يد خشنة تكتم أنفاسى وفمى، ويدان أخرتان تكبلانى، عن يمينى ويسارى لمحت فرسانًا أكراد على خيولهم يهاجمون مؤخرة المسيرة، بينما رحت أبتعد عنهم وأنا مكبّل، كما لو أننى مربوط على ظهر فرس. آخر ما انطبع فى عينى كان مشهد المرأة التى تركت ابنتها عند الأغا التركى منحنية على تلك التى رشفت دم الخروف المذبوح.
***
خلال أيام، استقر بى المطاف فى منزل تاجر كردى يُدعى بوبلان، واختار لى اسم حسن. لم يكن لبوبلان أبناء من زوجتين تنازعتا على تدليلى، وهو لم يكن يمنعهما أبدًا من ذلك، حتى نفورى الدائم وحزنى وبكائى المتواصل فى الأيام الأولى تعاملوا معه بلين ورفق. وبعد شهرين أو أقل، طلب منى بوبلان أن أرعى قطيع من الماعز الجبلى، وهكذا، تحولت أنا ابن الأسرة الميسورة إلى راعى غنم.
ثلاثة شهور قضيتها فى بيت الكردى طابت فيهم جروح قدمى واسترددت بعض عافيتى، ولمّا شعرت بأنى أستطيع أن أفعلها، لم أتردد أبداً، هربت، قصدت الحقول خلف القرية، ومن ثم اجتزتها إلى الفلاة، متزودًا بإربتَى ماء وكسرات من الخبز الجاف فى زوّادة على ظهرى. مشيت ليلتين، كنت أمضى فى الظلام وأكمن فى النهار، هكذا صار ابن العاشرة (عترة وابن ليل) كما يقول الناس هنا فى مصر، وهذه المزية أيضاً، مدينُ بها للأتراك. فى القرية الأولى التى وصلت إليها ابتسم الحظ لى للمرة الأولى منذ غادرت سيس، عندما وجدت خالتى، تلك التى ظننت أن التركى قد قتلها فى الحقل بعدما فشل فى اغتصابها. كانت قد أصبحت عرجاء بعد أن اخترقت الرصاصة عظام ساقها، وتزوجت الطبيب التركى الذى أنقذها من البتر، أسلمت، وأصبح اسمها خديجة.
خالتى طلبت من الطبيب أن تستبقينى، وقالت أنها ستتطلق منه إن لم يوافق على بقائى. الطبيب كانت له ساق أطول من الأخرى، فى البداية لم أتنبّه لذلك، لكن بعد أيام لاحظت العرج فى مشيته، وعرفت سر رضوخه لخالتى، نايرى الجميلة العرجاء، التى أصابها تركى بعاهة، بينما أخذها الآخر سبيّة وأجبرها على اعتناق دينه.
التفاهم بين أنا ونايرى كان جليّاً، تجرى فى عروقنا الدماء ذاتها، ونتكلم اللغة نفسها بل ونحمل اللقب ذاته. فى ذلك الوقت كنت قد تحوّلت إلى رجل صغير، رجل فى الحادية عشر من عمره سفّ رمال الصحراء إلى أن تحجّر قلبه، لذلك اتفقت مع نايرى ونفّذنا خطتنا بثقة المجرّبين: سرقنا بعض الزاد وهربنا، وقبل أن يطل علينا الصبح كنا قد اتجهنا شمالًا على عكس المتوقع، واختبأنا ليومين فى حفرة فى جوف الأرض تسترها صخرة كبيرة.
بعد أن تأكّدنا من أنه لا أحد يتبعنا، خرجنا من مخبئنا، واستهدينا بنجم سهيل، التففنا حول القرية وواصلنا السير جنوباً، لأيام، وبنفس الطريقة، مسيرات ليلية، وكمون صباحى. مررنا بمحاذاة الإسكندرونة، وقطعنا شوطًا فى الصحراء، من بين الكثبان الرملية بدت خيام العرب تلوح عن بعد، ورأيت نساءهم المتشحات بالسواد، كنت أتسلل بين الحين والآخر وأخطف بعض الأعشاب من أفواه الماعز الذى يرعونه، آخذ عود أخضر وأعطى الآخر لنايرى.
أعتقد أن العقارب والثعابين أشفقت علينا وحرصت على أن تتفادانا، ليس هناك تفسير منطقى لسلامتى فى الأيام التى نمت فيها أنا ونايرى فى المغاور وتحت ظلال الصخور، دون أن نتعرّض للّدغ. العقارب والثعابين ألطف من الأتراك طبعاً، والعربُ كذلك، حيث كنت بالوقت قد صرت وجهًا مألوفًا بالقرب من مضاربهم، اتفقت مع نايرى أن لا يروها، وصرت أدنو من خيامهم وأتسوّل بعض الشعير أو النبق أو الماء، ومرة أعطانى صبى عربى فى نفس عمرى تقريبًا عدّة أرغفة وبيضًا وحليباً، كانت تلك وليمة فاخرة بالنسبة لنايرى.
العرب كانوا يسمّوننى (اليعقوبي)، هكذا أفتاهم أحد شيوخهم مرة عندما رآنى أحوم حول مجلسهم، الشيخ أشار لى لأقترب، ثم أمر أحد الصغار الذى غاب فى خيمة قريبة وعاد ومعه عدّة أرغفة وقطعًا من اللحم، اللحم يا الله. ياللفرحة! الشيخ، وكان اسمه عدنان الطويلع من آل نعيم، طلب منى أن أعود فى اليوم التالى، لآخذ المزيد، كدت أسجد له، وفى طريق عودتى لنايرى فكّرت وأنا أمسك قطعتى اللحم داخل الأرغفة أن أمجّد المسيح لكنى خفت أن تسقط منى فتفسد.
وهكذا، وجدت بين العرب شيئًا من أسباب الحياة التى سلبنى إياها الأتراك، كانت تمر علينا أيام لا أجد فيها ورقة شجر واحدة لألوكها، وأيام أخرى كنت سأهلك فيها لولا إحسان أبناء العشائر. حتى الأرمن العابرين من بادية لأخرى، كانوا يجدون عند الشيخ عدنان رشفة ماء أو كسرة خبز، وأذكر أنه داوى بعضهم بالأعشاب والكى والحجامة. ومرّة رأيت بينما اختبئ بين الكثبان، قافلة بشرية يسوقها الأتراك، من ألوان ملابسهم عرفت أنهم أرمن، ولوهلة هجس فى بالى أن ألتحق بهم أينما كانوا ذاهبين، لذلك اقتربت أكثر، حتى جاورت مضارب آل نعيم، ولما رآنى الشيخ أهم بالذهاب إليهم حذّرنى:
- هؤلاء سيُذبحون، اختبئ هنا إن شئت أو اذهب وابحث لك عن جحر.
ركضت راجعًا إلى مخبئى، وحكيت لنايرى عن أبناء جلدتنا الذين سيُذبحون، يومها بكت حتى خارت ونامت، وبعد يومين فاحت رائحة نتنة فى البادية كلها، وشوهدت النسور تحلّق فى المدى. وكثُر الذباب، فعرفت أنهم قُتِلوا، وأن الشيخ أنقذنى من الموت مرة أخرى، وأن البقاء بقربه يضمن لى قدرًا لا بأس به من الأمان. كان الشيخ النعيمى دومًا يعيد على مسامع رجال عشيرته أن الشريف حسين بن على الهاشمى وكان ملكًا على الحجاز وقتها قد أوصى أمراء وشيوخ القبائل العربية فى الشام والعراق بحسن معاملة أبناء الطائفة اليعقوبية الأرمنية. وهذا تقريبًا ما كان الشيخ عدنان يفعله، حتى جاءت الليلة التى رجعت فيها من مضاربهم، لأجد المغارة، التى وضعت فيها أنا ونايرى بعض الخِرَق والأوانى واعتبرناها بيتاً، خاليةً، اختفت نايرى. فتّشت عنها البادية من أقصاها لأقصاها، بكيت وأهلت التراب على رأسى، وقبيل الصباح ركضت صوب خيام العرب، وكانت مفاجأتى كبيرة عندما وجدت خالتى تجلس مذعورة إلى جوار زوجها الطبيب التركى الأعرج، الذى تمكّن بشكل أو بآخر من اقتفاء أثر خديجته، نظرْتُ للشيخ مستفهماً، غير أنى وجدْتُ فى عينيه نظرة غضب هذه المرة. ولاحقاً، بعد سنتين عندما سألته لماذا سمح للتركى باستعادة خالتي؟ قال:
- أنت خدعتنى يا يعقوبى، لم تخبرنى بوجود تلك المرأة معك، كنت سأزوّجها لابنى طلال، وكنت سأربّيك كحفيدى، لكنك لم تثق بى رغم النوايا الطيّبة التى بادرتك بها. وحين اتضح لى أن خالتك متزوجة من التركى لم يكن أمامى مفر من تسليمه إياها، لو كانت تزوّجت من طلال ثم جاء هذا التركى لما تركناها له ولو ذبحونا بالخناجر. أما أنت، فاذكر جيدًا أنى خيّرتك بين أن تذهب معهما، أو تبقى، وأنت اخترت أن تبقى. هل تذكر ذلك يا ولدي؟
هززت رأسى بنعم، ثم أخذت قطيع الماعز وسرحت فى البريّة، لأفكّر فى مصيرى، ومصير نايرى سيمونيان، التى لم أرها مجدداً.
***
سمعت عن ميتم للأطفال الأرمن يقع فى حلب، حيث يقدمون وجبة غداء جيدة ودروسًا فى اللغة والحساب ويسمحون فيه بقراءة الكتاب المقدّس، وكنت بين الحين والآخر التقى بأرمن تائهين فى البادية، لا يعرفون شيئًا عن أنفسهم سوى أنهم لايزالون على قيد الحياة، والعذاب، والشتات. كانوا يتناقلون الأخبار فيما بينهم عن ذويهم المبعثرين فى الدياسبورا، الخبرية التى ينقلها اثنان فأكثر كنت أعتبرها صادقة. سمعت أيضًا أن بعض الأرمن عادوا إلى سيس فى أواخر 1918، وأن الثور التركى الهائج يفكر أن يستريح ليلوك بعض التبن. كنت فى الرابعة عشرة، أتحدّث العربية بلكنة، وأتقن شذرات من الكردية والتركية، عدا عن طلاقتى فى الأرمينية. الميتم شغل بالى لفترة طويلة، كنت متردداً، هل أبقى، أم أذهب؟ وإذا ذهبت فهل أكشف الأمر للشيخ وأصارحه أم أهرب مثل المرات السابقة؟ لم أحسم قرارى، لكنى كنت أشتاق لحقيقتى، أشتاق لأقول للناس أننى أرمينى وأن لى بيتًا هناك فى الشمال، وأنى لست «حسن»، ولا «اليعقوبى»، ولا ابن أخت خديجة. أنا آرام. إسمى آرام. آرام سيمونيان. من سيس. الأتراك ذبحوا أهلى، فى غفلة من الله، وأنتم ظفرتم بى كغنيمة حرب.
وعلى ذكر الله، أريد أن أقول إنه كان هناك رغم كل شيء، يرعانى، ويزرع المعجزات الصغيرة فى طريقى، تلك التى أبقتنى حيّاً، والتى حاكت لى هذا المصير الغريب المرقّع بشواهد تتنافى مع المعقولية والمنطق. فقد حدث ذات يوم، بينما أنا واقف أمام مضارب العشيرة، استعدادًا لأسرح بغنماتى، أن رأيته مقبلًا من بعيد، بحجم نبقة، فى البداية ظننته سراباً، لكنه كان يقترب مثيرًا عفرة وراءه، كنت أضيق عينى وأغطيهما بكفّى لأرصد القادم علينا، لم تكن ملابس عربية، وكان هو، أقسم أنى عرفته قبل أن أرى ملامحه، شعرت به مع كل خطوة، كان هناك شيء يتصاعد ويتمدد فى جوفى، احتشدت الدموع فى عينى وارتخت ربكتاى، آآه لكم اشتقت إليك يا بابا!
***
يحق لك ألا تصدق، ويحق لى أن أتمسّك بحكايتى للنهاية: لم يقتلنى الأتراك ولا الأكراد ولا العرب، وأنقذنى حلم. أبى، حبيبى، سرد القصة علىّ الشيخ بلكنة عربية غريبة عليّ، حكى عن مغافلته للجنود وفراره، ورحلته الطويلة إلى مصر، وأمى التى لا يعرف عنها أى شيء، فالبعض يقولون أنها فى عربستان، وآخرون يقولون أنها فى حوزة آغا تركى فى كيليكية، وفريق ثالث يؤكد أنها قضت بالسلّ فى دير الزور. كذلك قص أبى على الشيخِ الحلمَ الذى رآنى فيه، أرعى الغنم فى الصحراء، وأرتدى الملابس العربية، الحلم تكرر مرّات ومرّات، تكرر حتى شك أبى فى قواه العقلية، فحكاه للأب هاغوب داوديان راعى الكنيسة الخشبية التى خُصصت للأرمن الأرثوذكس فى مخيم أرمن جبل موسى بمنطقة الكارنتينا فى بورسعيد، وهذا الأخير قال له «احمل صليبك واتبع يسوع إلى المنتهى».
الاحتمالات كلها كانت متاحة ومطروحة أمامى منذ غادرت سيس وحتى تلك اللحظة التى كنت أهم فيها أن أسرح بالقطيع، كل شيء كان وارداً: الفرار من الشيخ. البقاء مع الشيخ واستكمال عمرى كراعى غنم. الالتحاق بالميتم فى حلب أو بيروت أو حتى الموصل. حتى الانتقام من الأتراك كان وارداً. لكن أن يعود جريجور سيمونيان من بطن التنّين! فتلك كانت المعجزة. أبى ترك أخى آشود فى رعاية أسرة أرمينية فى المخيم (كان بقاؤه حيًا خبرًا آخر زفّته السماء إليّ)، وانطلق عائدًا إلى ميناء الإسكندرونة مع مجموعة من أرمن مخيم بورسعيد قاصدين قرية سفيديا بجبل موسى، فى 31 يوليو 1919، ليبحث عنى. عَبَر الإسكندرونة إلى حلب ثم الرقة ومنها استدار جنوبًا إلى حمص حيث أخبره أحد الأرمن العابرين فى شمال المدينة عن فتى بعينين زرقاوين يرعى الغنم فى مضارب العشائر العربية ببادية البلعاس جنوب مدينة حماة.. وها هو أبى يجلس أمامى، ويقسم للشيخ عدنان النعيمى بأنه جلس معه نفس الجلسة فى منامه، هنا، فى هذه الخيمة، بينما كان جسده هناك فى بورسعيد، روحه كانت تحوم هنا فى البادية، لقد التقط أبى أثيرى، التقطه مثل موجات الراديو، وجاءنى، ليجمع شملى بأخى فى بورسعيد، وليعيد بناء الأسرة التى مزّقها الأتراك.
***
أنفق أبى كل ما كان فى حوزته خلال رحلته من بورسعيد إلى حماة حيث التقينا، ومنها إلى بيروت، التى اضطررنا للبقاء فيها لأشهر، فى كارنتينا بيروت هذه المرة. عملنا معًا لنجنى ما يكفى من أموال للسفر مجددًا إلى بورسعيد، اشتغل أبى بحرفته فى الفاعل، وشاركته فى العمل، كنا ثنائيًا غريباً: أرمينيان أحدهما أبوالآخر، غير أنه يبدو فتياً، وله ذراعان قويتان. والآخر ابن الأول إلا أن روحه أصيبت بالتجاعيد. أحدهما يتحدث اللهجة الحموية السورية، والآخر يتحدث باللهجة المصرية، فى مدينة تتحدث بلهجة عربية ثالثة، وجد أبى صعوبة فى التقاطها، بينما كانت أسهل على أذنى.
الحقيقة أنى فكّرت كثيرًا أن أطلب من أبى أن نبقى فى بيروت، وأن نجلب آشود بدلًا من أن نذهب إليه، لكنه لم يكن يكف عن الحديث عن المخيم، وتنظيمه، وتقسيمه إلى ست مناطق كل واحدة منها تشير إلى قرية من قرى جبل موسى، الذى احتضن ملحمة المقاومة الأرمينية، والتى صدت الهجمات التركية لأكثر من أربعين يوماً، قبل أن تجليهم بوارج البحرية الفرنسية إلى بورسعيد. كان المخيم ملاذًا آمنًا فى نظره، فهناك، بوسع الرجل أن يعمل ويكسب، سواء مع الإنجليز أو المصريين أو حتى الفرنسيين فى فيلق الشرق، وبوسعه أن يزور المدينة ببطاقة خروج مؤقت، أو أن يعتنق البروتستانتية فيحظى بكرم بعثات تبشير المملكة المتحدة، وينعم برعاية الرب. كل هذا بخلاف المستشفى ومدرسة سيسفان التى التحق بها آشود، بالإضافة للمشاغل والمخبز والكنيسة التى بناها الإنجليز ومجلس مطرانية الأرمن الأرثوذكس، ليصبح المخيم بمثابة مدينة صغيرة على الضفة الآسيوية لقناة السويس، قوامها ثمانية آلاف أرمينى، أغلبهم من أبطال المقاومة فى جبل الموسى والباقين التحقوا بهم على دفعات متفرّقة.
بذلك ألغى أبى كل هواجسى عن البقاء فى كارنتينا بيروت، وجعلنى أعد الليالى التى تفصلنى عن الالتحاق بآشود فى المدرسة، والسهر مع أبطال المقاومة لأسمع حكاياتهم. وهكذا، فى ديسمبر 1919، ركبت البحر للمرة الأولى فى حياتى، قاصدًا بورسعيد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.