ليس لى أن أبكى الآن، وأنت كما أنت؛ النسيم تهل رقيقًا باسمًا، وبصوتك المبحوح تفك جمود صوتى، وتشيّدُ البراح؛ «ازيك يا مريخى.. صباح الخير أيها الأصدقاء.. ومسا الجمال عليكم». آه يا محمود.. كيف أبكى، وقد واسانى الأهل والأصدقاء؛ استقبلونا فى العزاء بما يليق بالمحبة التى زرعتها فى النفوس ونشرتها فى دروب الربوع والنجوع والقرى، وفى البلاد التى دخلتها راجلا أو راكبا أو عبر الفضاء الإلكترونى فيما بعد. كان العزاء طاقة إيمان تُحيل البكاء فعلا سطحيا؛ طفوليا وغير مسئول. ثم كيف أبكى وقد كنت لى ملهما؛ مثل (عجوز أكلتِ الحزنَ، وطعنتْ عينَ المغزل بالضوء، وتدركُ أنها الضيفُ الخفيف. تعرفُ الغنَّام والصوّاف وتاجرَ النسيج، وتعشقُ الفقراء. تهبُ الشتاءَ فى كلِّ ليلٍ بُردةً، وتنامُ آمنةً لكأنَّ يديها تنشران الشمس، وفى السرِّ تُعلِّمُ الأطفالَ ألعابَ الطبيعة). وفى مشاويرنا المتعددة قلت لي: «تعلم يا صديقى أن الحب بلا عُمر أو بالأحرى؛ قيمة العمر تُقاس بالحب». كنت مغرما يا محمود بمحبة الناس كى تبلسم جروح الناس.. وكان التهذيب الذاتى واحد من أبرز مبادئك؛ «المحبة هى الحل.. الكراهية تحرق صاحبها»، وقد كنت بالفعل «أمَّ المحبة»؛ تاجها فى قلوب المحبين. اعذرنى فى الكتابة؛ فقط نصحونى بها للخروج من صمت مهيب كدت أتآكل معه بعدك. نصحونى بالكتابة على أى شكل وفى أى لون، فما الذى يمكن أن أقوله الآن للأصدقاء «هنا وهناك»؛ فى المغرب، الجزائر، لبنان، الإمارات، فرنسا، كندا، أمريكا. ماذا أقول أيضا لصديق رحلتنا فارس خضر إذ يحتوينى بصوته المجروح؛ «أحمااااد.. بلاش والنبى.. بلاش تبدأ». وكيف لى أن أوقف يد زوجتي: «ما تقولش.. أنا منتظراه يتصل الصبح». بل وماذا أقول ل«أفين حرسان» فى سوريا، وقد حرمتها الحرب الدائرة هناك من استقبال همستك الأخيرة؛ «طمنينى عليكي». بينما تُحملنى هى ما هو أكبر من طاقتي؛ «لما تشوفه قل له أفين بتقولك الكهربا كانت مقطوعة يا أسمر.. يلعن الحرب اللى حرمتنى من استقبال صوتك». أعذرنى يا حبيبي؛ كيف غاب عنى قراءة خواطرك فى لقائنا الأخير، وأنت تُسرّبُ لى قلقك تجاه محمد مغربي؛ «قل له يا مريخى يبطل سجاير.. إديله تليفون.. هو بيستحى منك». ومخاوفك على فتحى عبدالسميع بعد أن أخبره الطبيب بارتفاع نسبة السكر؛ «خف وزنه بشكل ملحوظ.. واخد فى باله.. بصراحة أنا خايف عليه». وكيف لم أشدّد عليك وأنت تخبرنى أنك منذ 15 يوما مضت تعانى ارتفاع ضغط الدم، ولا تبالى بنصائح الطبيب، وإذ أتودد إليك، تقول: «ما تاخدش ف بالك». إذن كيف أبكى، وإن كان البكاء حلا لتبصير حزنى، فكيف يكون بكاء فتحى عبدالسميع ومحمد مغربى ومحمد الجبلاوى وإسلام ورباب وأم رباب وخالد ورحاب، وكيف يكون بكاء الأخوال والأعمام والجيران؛ كلهم يا صديقى أدركوا رسالتك، فهموها وطبقوها فى أول اختبار، تساموا على الدموع، وسلموا الأمانة بروح محبة. قالوا للجسد الذى واراه التراب، وللروح التى صعدت لباريها: «لله ما أعطى، لله ما أخذ».. و«يا أيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى ربك راضية مرضية، فادخلى فى عبادى وادخلى جنتي». رسالتك وصلتنى مبكرًا يا صديقي؛ نشر الجمال والذوق والمحبة، والنظام؛ ورغم أنك كنت تؤثر لقب «الولد الفوضوي» على أى من ألقابك، أكاد أجزم بأنك أكثر إنسان منظم عرفته بعد والدي؛ خريطتك الدقيقة لخططك المقبلة، خطك المنمق وأقلامك الملونة التى تزين ببهجتها رسائلك قبل أن تنقل قوس قزح الخاص بك للعالم الإلكترونى. احتفظ برسائل؛ هى مداد لى، وامتداد لك، هى انعكاس لصورتك البهية البهيجة فى عالم أستقبله الآن بمحبة أكبر؛ محبة «محمود مغربى.. طفل الأقلام الملونة» صديقى وأبى وولدى، الفتى الذى زرع وزرع وزرع، ويطل على الحقل الآن؛ باسما وداعيا لنا بالمحبة؛ «المحبة خلاص يا أصدقاء». [email protected]