يظل الكاتب الراحل أنيس منصور، علامة بارزة في تاريخ الصحافة والأدب المصري، حيث كان واحدًا من الكُتّاب الموسوعيين، الذين أجادوا عدة لغات، وسافر إلى العديد من بلاد العالم؛ وكان عموده اليومي "مواقف" يُتابعه المصريون على مدى أربعين عامًا. ولد أنيس منصور في الثامن عشر من أغسطس عام 1924 في إحدى قرى محافظة الدقهلية، حفظ القرآن كله وهو لا يزال في التاسعة بكُتّاب القرية، وتأثر بتلك المرحلة بشكل كبير، وهو ما ذكره فيما بعد في كتابه "عاشوا في حياتي"، وظل يدرس بقريته، وتميز بحفظ الآف من أبيات الشعر، وعُرِف بالنبوغ. وانتقل أنيس منصور إلى مدينة المنصورة لاستكمال دراسته الثانوية، حيث كان ترتيبه الدراسي الأول على القُطر المصري؛ ثُم التحق بقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة برغبته الشخصية، وحصل على الليسانس عام 1947، ليعمل مدرسًا بقسم الفلسفة الحديثة بكلية الآداب في جامعة عين شمس. ظل منصور لفترة لا هم له إلا شراء الكتب ودراسة الفلسفة، حتى وقعت له نقطة التحول الأولى بحضوره صالون الكاتب عباس العقاد، والذي كان بوابته لعالم آخر لم يعهده من قبل. وروى هذا في كتابه "في صالون العقاد كانت لنا أيام"- وهناك تحدث عن مشاكل جيله وآرائه في مواجهة جيل العمالقة مثل طه حسين، العقاد، توفيق الحكيم، وغيرهم الكثير من إعلام الفكر والثقافة في مصر في ذلك الوقت، وهو ما فتح أمامه عالم الصحافة على يد الراحل كامل الشناوي الذي ألحقه بالعمل في أخبار اليوم ليتتلمذ على يد مؤسسيها مصطفى وعلي أمين، ثم ما لبث أن تركها وانتقل إلى الأهرام في مايو عام 1950 حتى عام 1952، ثم سافر منصور مع الشناوي إلى أوربا، وفي ذلك الوقت قامت ثورة يوليو؛ التي كان لزوجته رجاء دور فيها لم تعرفه هي نفسها، فكان أخوالها -زكريا توفيق وتوفيق عبد الفتاح- من الضباط الأحرار، وكانوا بحاجة للتخفي فكانوا يملون عليها المنشورات لتكتبها بخط يدها، وهي لا تعي لصغر سنها. قال أنيس منصور: "كانت بدايتي في العمل الصحفي في أخبار اليوم وهذا بالضبط ما لا أحب ولا أريد أنا، أريد أن أكتب أدبًا وفلسفة، فأنا لا أحب العمل الصحفي البحت، أنا أديب كنت وسأظل أعمل في الصحافة". ظل منصور يعمل في أخبار اليوم حتى تركها عام 1976 بعد أن كلفه الرئيس السادات بتأسيس مجلة أكتوبر في 31 أكتوبر 1976، ليكون رئيسًا لتحريرها ورئيسًا لمجلس إدارة دار المعارف حتى سنة 1984، وكان صديقًا مقربًا وكاتمًا لأسرار الرئيس الراحل، بل وصاحبه في زيارته الشهيرة إلى القدس. وخشي عليه البعض من الاقتراب الزائد من السلطة الحاكمة، وكان في ذهنهم تجربة العلاقة المتميزة الكبيرة بين الرئيس عبد الناصر والكاتب الكبير محمد حسنين هيكل؛ وكان يكتب في جريدة الأهرام عموده اليومي الأكثر الأشهر "مواقف"، وكتب أيضًا في صحيفة الشرق الأوسط، وترأس تحرير العديد من المجلات منها: "الجيل، هي، آخر ساعة، أكتوبر، العروة الوثقى، مايو، كاريكاتير، الكاتب. قاربت مؤلفات منصور المائتي عنوان، شكلت في مجموعها مكتبة متكاملة في المعارف، والعلوم، والفنون، والآداب، والسياسة، والفلسفة، والاجتماع، والتاريخ، والسياسة والمرأة؛ وعكست كتاباته نظرته ورؤيته، وساهمت في تشكيل وجدان وثقافة أجيال عديدة من الشباب في العالم العربي كله؛ وأجاد عدة لغات منها الإنجليزية والألمانية والإيطالية واللاتينية والفرنسية والروسية، فاطلع على مؤلفات عديدة، وترجم بعضًا من الكتب والمسرحيات؛ كما سافر كثيرًا وكتب الكثير في أدب الرحلات، مثل "حول العالم في 200 يوم، بلاد الله لخلق الله، غريب في بلاد غريبة، اليمن ذلك المجهول، وأعجب الرحلات في التاريخ"، كذلك كتب في الظواهر الخوارقية وما وراء الطبيعة، ومن أشهر كتبه في هذا المجال "الذين هبطوا من السماء، الذين عادوا إلى السماء، لعنة الفراعنة" كما ترك العديد من المؤلفات التي تحولت لأعمال سينمائية ومسرحية وتليفزيونية ناجحة ومن أشهرها "حلمك يا شيخ علام، من الذي لا يحب فاطمة، هي وغيرها، عندي كلام". روى الكاتب الراحل مواقف عديدة عن حياته في أعماله، ففي أوائل الثمانينيات التقى الكاتب الإسرائيلي عاموس إيلون بأنيس منصور في مكتبه، وأجرى معه حديثًا طويلًا في السياسة والصراع العربي الإسرائيلي، والعلاقات المصرية الإسرائيلية، ومستقبل السلام بين مصر والاحتلال الإسرائيلي بعد توقيع معاهدة السلام، وناقشه في قضايا فلسفية، وكان الحديث أشبه ما يكون بمبارزة، فكان إيلون يسأل منصور بالإنجليزية فيجيبه بالإنجليزية، ثم يوجه له السؤال التالي بالفرنسية فيجيبه بطلاقة وإتقان بالفرنسية، ثم يوجه له سؤالا نصفه الأول بالإنجليزية ثم يكمل النصف الثاني من السؤال باللغة الألمانية، فيجيبه أنيس منصور بلغة ألمانية سليمة وبنطق جيد في سلاسة ويسر وثقة بالنفس، واستمر الحديث إلى أن فاجأ منصور الكاتب الإسرائيلي بالإجابة على أحد الأسئلة بالعبرية التي كان قد قطع شوطًا كبيرًا في تعلمها، وبعد عودته إلى الأرض المحتلة نشر حواره مع أنيس منصور كاملًا في كتاب له بعنوان "رحلة إلى مصر" مُنبهرًا فيه بالكاتب المصري ذي العقلية الموسوعية. ويروي أنيس منصور قصة زواجه قائلًا: "عندما طلبت من الرئيس السادات أن يُطلعني على الملفات المكتوبة عني في أجهزة الأمن رأيت بعضها، فوجدت ملاحظتين، الأولى أن عددًا كبيرًا من النكت منسوبًا إليَّ كأني لا أفعل شيئًا في هذه الدنيا إلا النكت، ومن المؤكد أن بعضها من تأليفي، ولكن ليست كل هذه النكت. وأضاف أن الملاحظة الثانية عن قصصي الغرامية الكثيرة، كأني متفرغ للغراميات مثل واحد يجلس في الشارع على حارة زنقة الستات لا شيء يشغله إلا الحب، وقد أفادني هذا التقرير الأمني في زواجي"، حيث اعترض أخوال زوجته وكانا يشغلان منصبي وزير التموين والشئون الاجتماعية، ولكن أحدهما قال لزوجته: "لو ثبت أن أنيس يعرف ألف واحدة فسأزوجه لك، ولو كان يعرف واحدة فقط فلن أزوجك له، لأنه لن يتركها". وحينما أطلع على التقارير الأمنية وافق على الزواج. كما روى إبراهيم عبد العزيز في كتابه "رسائل أنيس منصور" أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر اعترض على اقتران أنيس بزوجته، باعتبار أنه لا يجوز لصحفي أن يُناسب الضباط الأحرار، خاصة صحفي من أخبار اليوم التي كان عبد الناصر ينظر إليها وإلى مؤسسها بريبة، وكان هيكل هو الذي خطب لأنيس زوجته، وكان شاهدًا على عقد قرانه، حتى حينما انفصلا كان أحد الساعين لإعادته. حصل منصور على العديد من الجوائز منها الدكتوراه الفخرية من جامعة المنصورة، جائزة الفارس الذهبي من التليفزيون المصري أربع سنوات متتالية، جائزة كاتب الأدب العلمي الأول من أكاديمية البحث العلمي، جائزة مبارك في الآداب –جائزة النيل- من المجلس الأعلى للثقافة، جائزة الدولة التقديرية في الآداب من المجلس الأعلى للثقافة، جائزة الإبداع الفكري لدول العالم الثالث؛ كما فاز بلقب الشخصية الفكرية العربية الأولى من مؤسسة السوق العربية في لندن. توفي انيس منصور في صباح الجمعة الحادي والعشرين من أكتوبر عام 2011، عن عمر ناهز السابعة والثمانين، بعد تدهور حالته الصحية إثر إصابته بالتهاب رئوي، ما استدعى وضعه على جهاز التنفس الصناعي، إلى أن وافته المنية، وتم دفن جثمانه بمدافن الأسرة بمصر الجديدة.