رحيل عاطف الطيب ورضوان الكاشف عطل مشروعه الفنى ولكنه رفض الانكسار قبل عدة سنوات، جلست مع الأستاذ محمود عبدالعزيز، نتحدث عن الفن والسياسة وفساد رجال الأعمال والقنبلة الموقوتة «العشوائيات»، وقال لى وقتها بالنص: «العشوائيات دي يا إما تنفجر فى وشنا كلنا، يا هتغير التاريخ والنظام وكل حاجة». كان يعرض له وقتها فيلم «إبراهيم الأبيض» أمام أحمد السقا، الذى يبدو أنه تعامل وقتها مع محمود عبدالعزيز باعتبار أن دوره فى الفيلم دور شرفى، ولم يتخيل أن محمود عبدالعزيز، يتحول أمام الكاميرا لنوة عنيفة، تبتلع كل ما يقف فى طريقها، خرج الناس من الفيلم وهم مبهورون بعبدالملك زرزور، نسوا أن هذا الفيلم يتصدر أفيشه أحمد السقا! وتحولت جملة عبدالملك زرزور بالفيلم: اللى ليه شوق فى حاجة يقولها. إلى إفيه يسخر من فكرة أن السقا هو بطل الفيلم الأول والأخير. لن أخفى عليكم، أننى كنت أجلس فى حضرة محمود عبدالعزيز، وأنا فى حالة انبهار تام، ولم لا، وأنا أجلس أمام رأفت الهجان، هذا البطل الخارق، الذى سيطر على عقل وتفكير قطاع كبير من الشباب والمراهقين. ولكن كساحر بارع، ظل محمود عبدالعزيز ممسكاً بدفة الحوار فى هذه الجلسة، تحدث عن فساد رجال الأعمال، وعن الفقر والجوع، عن شيخوخة نظام مبارك، عن جيله واحترامه الشديد لمشروع أحمد زكى، وحبه وتقديره لصديق عمره نور الشريف، كان يوجد بهذه الجلسة أكثر من كاتب صحفى كبير، ولكنهم جميعاً سقطوا أمام حضور وكاريزما وثقافة محمود عبدالعزيز. قلت له بعد هذه الجلسة، إنه الممثل الوحيد من أبناء جيله، الذى لم تستفد منه السينما المصرية، ربما ظلمته وسامته، وحصرته فى أدوار الجان لفترة طويلة، كمنافس لحسين فهمى، قلت له نصاً، أنا شاهدتك بطلًا لفيلم عاطف الطيب «سواق الأتوبيس»، «ليلة ساخنة» وأفلام وحيد حامد «طيور الظلام» و«النوم فى العسل» و«معالى الوزير»، ويبدو أن ما قلته قد أحرج محمود عبدالعزيز إنسانياً، فلمحت فى عينيه بريق دموع ترفض أن تتهاوى أمامى، وضع يده على كتفى وقال لى، أنت جبت الكلام ده منين! كنت على يقين بأن محمود عبدالعزيز يمتلك موهبة وإصرارًا على النجاح، يصنعان منه أسطورة تمثيلية يصعب تكرارها، فيكفى أن تشاهده فى «الكيت كات» لتعرف أنك أمام غول تمثيل، التقط ما كتبه داوود عبدالسيد عن الشيخ حسنى، وصنع تفاصيل الشخصية بفطرته، مشيته، ضحكته، غضبه، جعل من الشيخ حسنى شخصية أسطورية، تتذكرها بمجرد رؤيتك لأى شخص كفيف، هذه هى عبقرية محمود عبدالعزيز غير قابلة للتكرار. يقول محمود عن شخصية الشيخ حسنى وفيلم «الكيت كات»: هناك أنواع كثيرة من فقدان البصر قمت بدراستها، فهناك من ولد فاقدًا للبصر، وهناك من فقد البصر فى مرحلة عمرية معينة، تعلمت هذا من أطباء العيون، تجولت فى الشارع ورأيت معطفاً أمسكت به وقلت «هذا هو» لأنه يناسب الشخصية، فالمعطف فيه بقعة فى منطقة الرقبة، وهو يناسب تركيبة شخص فاقد للبصر، فلا يخلو الأمر من وقوع بقايا طعام على رقبته وصدره، أما رأفت الهجان فقد كان إحساسى الداخلى بأنه شرف لى أن أقدم هذه الشخصية وهى أقل تقدير لروح هذا البطل وتجسيدها بمراحلها المختلفة، وهى فى النهاية عملية إحساس بأن تضع نفسك مكان الشخصية فى المواقف الدرامية التى يتعرض لها، حينما عبرت عن رد فعل رأفت الهجان على نكسة 67 وموت عبدالناصر ونصر أكتوبر لم يكن التعبير مختلفًا عن إحساسى الطبيعى بهذه الأحداث. وبجوار موهبته وإصراره على النجاح، ظل الحظ السيئ مصاحباً له خلال فترة طويلة من مشواره الفنى، فبعد أن اكتشف عاطف الطيب مساحات جديدة فى شخصية محمود عبدالعزيز التمثيلية، وقرر استغلالها فى مجموعة من الأعمال الجديدة، رحل الطيب فجأة بعد أن تعاونا فنيا فى فيلم «الدنيا على جناح يمامة»، حزن محمود بشدة على رحيل الطيب، وشعر أنه فقد جزءًا مهمًا من مشروعه الفنى، وبعد عدة سنوات، قابل الراحل رضوان الكاشف، قدما معاً أسطورتهما السينمائية «الساحر»، كان محمود عبدالعزيز ينهى مشاهده فى الفيلم وهو يفكر فى التجربة الجديدة التى ستجمعه برضوان الكاشف، ولكن رحيله المفاجئ أصاب محمود عبدالعزيز بحالة من الحزن ممزوجة بالاكتئاب، هل كتب عليه القدر أن تتوقف أحلامه السينمائية برحيل شركائه فيها! ربما انكسرت هذه الحالة عقب عودته درامياً بمسلسل «محمود المصرى» ومن بعده فيلم «ليلة البيبى دول»، وتوهجه فى «إبراهيم الأبيض»، ومسلسل «باب الخلق» حتى ظهوره فى آخر ما قدم درامياً «جبل الحلال»، عرف بعد سنوات طويلة من التردد والابتعاد، طريقة مناسبة للتواصل مع جمهوره درامياً. يرى محمود عبدالعزيز أن سر نجاحه يكمن فى الصدق، فإذا لم يكن العمل كله مترابطاً لن يصدقه الناس، وأنت كفنان تحاول أن تصل بإحساسك للناس بأن ما تقدمه شيء حقيقي، يقول إنه تعلم هذا من أستاذه نور الدمرداش، الذى يتذكره دائماً بين الوقت والآخر، فهو من منحه سر النجاح والاستمرار، مرتكزاً على صدق ما يقدمه. هذا ما يدفعه للتفكير فى كل تفصيلة تتعلق بأى شخصية يقدمها، يريد من خلال اهتمامه بهذه التفاصيل، أن يلغى شخصيته الحقيقية، ويجعل الناس تصدق ما يقدمه، يتذكر كيف وضع خطة لأداء دور رأفت الهجان، فيقول فى أحد حواراته الصحفية. حينما قرأت ورق «رأفت الهجان» ذهبت إلى المخابرات العامة، وأخذت منهم ملفاً فيه الأوراق الشخصية لهذا البطل وصوراً له فى مختلف المراحل العمرية، وأحضرت المجلات والصحف التى صدرت فى هذه المرحلة الزمنية وشاهدت فيها طريقة تصفيف الشعر والملابس التى كان يرتديها كل من عاش هذه الفترة الزمنية، خاصة أن رأفت الهجان كان شديد الأناقة، رأيت جملة فى أوراق المخابرات العامة المصرية عنه وهى بالعامية المصرية «بيتكعبل فى النسوان»، وهى جملة بالنسبة لى شديدة الثراء فى التمثيل، فالجملة تبرر علاقاته النسائية الكثيرة والمتشعبة، وحبه للنساء بشكل كبير لدرجة تجعلنى أخلق علاقة خاصة بينه وبين أى امرأة قابلها فى حياته. نفس الشىء دفعنى للتفكير فى شكل الشخصية التى لعبتها فى فيلم «الشياطين» مع المخرج حسام الدين مصطفى، كانت شخصية انتحارية وكان شبه ملحد، أول شيء اشتريت له قماش بدلة قديمة ثمن المتر فيه 84 قرشاً وقلت لنفسى طالما هى شخصية انتحارية فلن ترتدى بدلة أنيقة، وجعلت الترزى يفصل بدلة على الطراز القديم باللون الرمادى، وخطوط مظلمة ووضعت نظارة نظر كبيرة الحجم على وجهى، واقترحت على المخرج حسام الدين مصطفى وضع صور لغاندى وبوذا فى خلفية المكتب الذى تجلس فيه الشخصية، وتفاصيل أخرى لم تظهر فى الصورة، مثل حينما تسير الشخصية فى الأرض تشوط بقدمها الحجارة الصغيرة، جعلته دائم التوهان وهادئاً بلا انفعال، ولا يصفف شعره ولا يوجد له فورمة معينة والهواء يحركه، ورغم أننى لا أعرف شادى عبدالسلام إلا أنه أعطانى جائزة أفضل ممثل فى أحد المهرجانات وقال للجنة التحكيم: «لو لم يحصل محمود عبدالعزيز على هذه الجائزة سأستقيل من التحكيم»، وأضاف: «هذا الدور يجب أن يدرس فى معهد السينما». أفلام محمود عبدالعزيز وأعماله والحديث عنها تحتاج حلقات عديدة، لأننا نتحدث عن شخصية، تنتمى لجيل، يصعب تكراره، جيل عاش انكسارات كثيرة، وانتصارات أكثر، مما جعله يتصدر المشهد لسنوات، ربما لن تتاح الفرصة لجيل آخر غيره لأن يقدم ما قدمه أو حتى يتربع داخل عقول وقلوب الناس بنفس المكانة التى احتلها جيل محمود عبدالعزيز ورفاقه.