حفر المصريون بالعرق والدم قناة السويس، خاضوا أعوامًا طويلة في الصحراء وسط أقسى ظروف العيش من أجل إنهاء حفر القناة التي رفضها محمد على، ووقع فرمان حفرها الخديو سعيد، وافتتحها الخديو إسماعيل الذي أنهى مأساة السخرة؛ حول أوضاع المصريين إبان حفر القناة جاء كتاب"السخرة في حفر قناة السويس"، للكاتب عبد العزيز الشناوي، أستاذ التاريخ، الذي تناول في رسالتي الماجستير والدكتوراه حفر القناة في عهدي سعيد باشا وإسماعيل باشا، وجمعهما في هذا الكتاب الذي صدرت أحدث طبعاته عام 2010 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، لتروي صفحاته تاريخ من الدم والعرق امتد لعشرة أعوام هي مدة حفر القناة، مات خلاله الآف المصريين عطشًا أو عن طريق الأوبئة. روى الكتاب مدعمًا روايته بالوثائق التي استغرق أعواماُ في دراستها من محفوظات قصر عابدين عن بداية القناة التي شّكلت صراعًا استعماريًا بين انجلترا وفرنسا منذ كانت فكرة رفضها محمد على باشا الذي رفض ما اسماه ب"بسفور جديد" على أرض مصر، ثم ألح فيها المهندس الفرنسي فرديناند ديلسبس على خديو مصر سعيد باشا الذي اقتنع وأصدر عدة فرمانات خديوية، ليعمل الفقراء من أبناء مصر في حفر الممر الملاحى عن طريق العمل بالسخرة. يتناول الكتاب الحكاية منذ حصول ديلسبس على امتياز إنشاء قناة السويس كان هو "الفرمان الأول"، والذي انطوى على امتيازات مجحفة منها الحق في إنشاء وإدارة شركة تقوم بحفر القناة، ثم استغلالها لمدة 99 عاما تبدأ من تاريخ افتتاحها للملاحة، وحق الإعفاء الجمركي على جميع الآلات والمهمات التي تستوردها من الخارج بقصد استغلال الامتياز الممنوح لها، وأن يعطي للشركة الحق في أن تستخرج بدون مقابل جميع المواد اللازمة لأعمال القناة، والمباني التابعة لها من مناجم ومحاجر مملوكة للحكومة، وذلك في مُقابل أن تتقاضى الحكومة 15% سنويًا من صافي أرباح القناة؛ وكذلك منح الشركة مساحات شاسعة من الأراضي في منطقة القناة مع أحقية حفر ترعة للماء العذب والحصول على الأراضي الواقعة على جانبي الترعة، وكذلك حق شركة القناة في بيع ماء النيل المار عبر الترعة للفلاحين الراغبين في ري أراضيهم؛ وهو ما وصفه قنصل توسكانا في مصر بأن "مقدار الامتيازات العظيمة التي منحها الوالي للمسيو ديلسبس، لم يحدث أن ظفر بها أي شخص مطلقا، وبمثل هذا السخاء من أية حكومة كانت". وكعادته، استغل ديليسبس التخوفات الأجنبية من استقدام أياد عاملة غير مصرية للمشروع، فاستصدر عقدًا ثانيًا من عباس باشا زادت فيه امتيازات الشركة استغل فيه "لائحة استخدام العمال المصريين في أشغال قناة السويس"، والتي تسببت في تسخير ما يقرب من ربع مليون مصري للعمل في حفر القناة، وكان تعداد سكان مصر وقتها 4.8 مليون نسمة عام 1862؛ وهو ما استغلته الشركة فيما بعد عند قرار إلغاء السخرة، لتحصل على تعويض 75 مليون فرنك كتعويض؛ وكان عدم تحديد أعداد العمال حسب اللائحة كارثة على الشعب المصري، حيث ألزم العقد الحكومة المصرية ب"تقدم الحكومة المصرية العمال الذين سيعملون في أعمال الشركة تبعا للطلبات التي يتقدم بها كبير مهندسي الشركة، وطبقا لاحتياجات العمل"، وهو ما أدى إلى أن كبير مهندسي الشركة كان يتحصل على العمال المصريين بمجرد طلب بسيط يبعثه إلى مدير المديرية. وكانت لائحة العمل أكثر إجحافًا للعمال المصريين، حيث حددت أجور العمال ووسائل الطعام وإعداد ماء الشرب ومواعيد دفع الأجور، بمبلغ يتراوح بين قرشين ونصف القرش وثلاثة قروش في اليوم للعامل الذي يزيد سنة على 12سنة، أما العامل الذي يقل عن 12 سنة، فكان يتقاضى قرشًا واحدًا، وكانت تلك الأجور زهيدة وتافهة إذا ما تم مقارنتها بالأخطار النابعة من المسافة والحفر، كما التزمت الشركة بتقديم خبز الجراية المقدد إلى العمال بقيمة قرش واحد، على أن يتم تقديمهم للعمال كل يومين أو ثلاثة، وكذلك فرضت الشركة عقوبات على العمال الذين يحاولون الهرب، وقامت بفرض حراسة شديدة عليهم أثناء سفرهم من وإلى العمل. تحت هذه الشروط قضى المصريون أعوامًا كانت هي الدهر بالنسبة لهم، فكان استدعاء أحد الفلاحين للعمل بالسخرة كأن أهله قد فقدوه، وأخذ الكاتب في فصول الكتاب يستعرض أحوال العمال المصريين، وما نتج لهم بعد ذلك طوال مدة الحفر، وتفشي الأوبئة والأمراض للعمال وإهمالهم، والموت عطشًا أو من قسوة الشمس أثناء الحفر؛ إلى أن جاء الخديو إسماعيل ليُنهي عقد السخرة بين شركة القناة والحكومة المصرية، وهو ما ترتب عليه تلك الغرامة الضخمة التي أصحبت من نصيب الشركة، وكانت توازي تقريبًا ثلث رأس مال الشركة، والذي كان يبلغ 200 مليون فرنك فرنسي.