فى محفوظات قصر عابدين، توجد مجموعة هائلة من «محافظ المعية السنية» وفى دفاترها يزيد عددها على 120 دفترًا، وفى دفاتر الأقاليم الصادرة والواردة كذلك، وفى دفاتر البرقيات التى كان يتلقاها قصر عابدين والبرقيات التى تصدر عنه. هناك أيضًا «محافظ عابدين» الذى يضم المكاتبات المتبادلة بين الحكومة التركية وولاة مصر من أسرة محمد على فى شئون الحكم والسياسة والإدارة، إضافة إلى عدد لا يستهان به من الوثائق والأوراق مدونًا باللغة التركية. من هذه الوثائق والدفاتر، جمع الدكتور عبدالعزيز محمد الشناوى معلومات وحقائق جديدة عن «السخرة فى حفر قناة السويس»، الذى يفجر قنبلة فى مقدمة كتابه عندما ذكر أنه لم يسمح له بالاطلاع إلا على المكاتبات التى كان يبعث بها قنصل الولاياتالمتحدة إلى وزارة الخارجية الأمريكية فى واشنطن، وإلا على جزء يسير من تقارير قنصل فرنسا فى مصر. ويكشف المؤلف عن حقيقة أنه تم حجب تقارير قصر عابدين عن الباحثين المصريين، بينما تم وضعها بأكملها تحت تصرف باحثين أجانب أيام الملك فاروق، وظل هذا الحجاب الكثيف مضروبًا على تلك المكاتبات حتى ثورة 1952 ففتحت الأبواب المغلقة أمام الباحثين المصريين. ويتطرق المؤلف إلى المؤرخ الفرنسى جورج دوا، الذى كان من ضباط البحرية الفرنسية ثم اشتغل فى شركة القناة مديرًا لإدارة الترانزيت service detransit التى تشرف على تنظيم مرور السفن فى القناة. هذا المؤرخ الفرنسى جمع بين منصبه وبين الكتابة فى تاريخ مصر الحديثة ووضع فيه 13 مرجعًا مهمًا، وأعد له الملك فاروق قصرًا ضخمًا فى القاهرة كان يقيم فيه عند حضوره فى الإسماعيلية، ووضع تحت تصرفه أقدر مترجمى القصر فى اللغات: الفرنسية والتركية والعربية، ولما مات هذا المؤرخ فى ديسمبر 1944، انتقلت إلى داره لجنة من موظفى قصر عابدين وأعادت إلى القصر مجموعات هائلة من الوثائق الخاصة بقناة السويس، وهى الوثائق التى اعتمد عليها مؤلف كتاب «السخرة فى حفر قناة السويس». الصديقان تكشف الوثائق التى حصل عليها المؤلف أن فرديناند ديلسبس ظفر فى 30 نوفمبر 1854 من صديقه محمد سعيد باشا والى مصر بعقد امتياز لإنشاء قناة السويس. انطوى ذلك العقد- الذى كان يطلق عليه الفرمان الأول - على امتيازات مجحفة بحقوق مصر، كان من بينها الأعداد الهائلة من العمالة التى كان لا بد من استخدامها فى تنفيذ المشروع، حيث نص عقد الامتياز الأول على تعهد سعيد باشا بأن يقوم هو وجميع موظفى الحكومة المصرية بتقديم المساعدة عند تنفيذ عقد الامتياز. وعقب صدور عقد الامتياز، قام ديلسبس برحلة ضمن قافلة كبيرة ارتاد فيها منطقة برزخ السويس رافقه خلالها اثنان من كبار مهندسى الحكومة المصرية فى ذلك الوقت درسوا خلالها المشروع على الطبيعة وإقرار مبدأ حفر القناة على خط مستقيم مباشر بين البحرين. ولما انتهت الرحلة فى 15 يناير 1855 بعد أن استمرت قرابة 3 أسابيع، ترك ديلسبس كبيرى المهندسين يعدان تقريرهما، وأبحر من الإسكندرية إلى القسطنطينية يلتمس تصديق السلطان عبدالحميد على عقد الامتياز، ولكنه لم ينجح بسبب المعارضة الإنجليزية لمشروع القناة فعاد إلى مصر. وفى تلك الأثناء فرغ المهندسان لينان بك وموجل بك فى 20 مارس 1855 من إعداد تقريرهما الذى عرف باسم «المشروع الابتدائى لشق برزخ السويس» بحثا فيه شق القناة على خط مستقيم بين البحرين الأحمر والمتوسط، ووضعا مواصفة لترعة المياه العذبة تخرج من النيل إلى منطقة القناة تستخدم فى أغراض الملاحة النهرية وشئون الري، وقدرا المدة اللازمة لإنجاز المشروع بست سنوات ونفقات تنفيذ بمبلغ 200 مليون فرنك فرنسي. وفى 5 يناير 1856 استصدر ديلسبس من سعيد باشا وثيقتين مهمتين هما عقد الامتياز الثانى وقانون الشركة الأساسي، وقد نص على أن تقوم الشركة على نفقتها وتحت مسئوليتها بجميع الأعمال والمنشآت اللازمة لحفر قناة للملاحة البحرية الكبرى بين السويس على البحر الأحمر وبين خليج بلوز «الفرما» على البحر المتوسط، وحفر ترعة للماء العذب تربط النيل بالقناة الملاحية وتستخدم فى أغراض الرى والملاحة النهرية، وتتفرع قبيل وصولها إلى بحيرة التمساح إلى فرعين للرى والتغذية، ويتجه أحدهما شمالاً إلى الفرما والثانى جنوبًا إلى السويس. ونصت المادة الثانية من العقد على أن عدد العمال المصريين التى تستخدمهم الشركة يجب أن يكون على الأقل أربعة اخماس مجموع العمال. فى مقابل ذلك، حصلت الشركة من الحكومة المصرية على أراضٍ شاسعة بدون مقابل، والحق فى استخراج جميع المواد اللازمة لعمليات وصيانة المبانى والمنشآت التابعة للمشروع من المناجم والمحاجر الأميرية طوال مدة الامتياز دون أن تدفع أية رسوم أو ضريبة، إضافة إلى تمتع الشركة بحق الإعفاء الجمركى على جميع ما تستورده من الخارج من آلات ومواد أيًا كانت. الشروع فى عمليات الحفر مهد ديلسبس للشروع فى عمليات الحفر بخطاب أرسله فى 31 ديسمبر 1858 إلى سعيد باشا أخطره فيه بتأسيس الشركة، وأنه- أى سعيد باشا- أصبح موضع التقدير العميق من رجالات السياسة فى أوروبا بسبب رعايته للمشروع. وأقحم ديلسبس فى خطابه الناحية الدينية، فقال إن سلطان تركيا هو رئيس العالم الإسلامى وأن مشروع القناة يهدف إلى تقريب السلطان من مكةالمكرمة التى هى أهم جزء فى الإمبراطورية العثمانية لأنها أساس سلطته الروحية والدينية. وتضمن الخطاب تهديدًا صريحًا من ديلسبس لسعيد باشا بأن الشركة أصبحت قوة دولية على أساس أنها تضم مساهمين ينتمون إلى دول عديدة، واعتاد على تكرار هذا التهديد فى مذكراته إلى سعيد ثم الخديوى إسماعيل كلما لاح فى الجو شبح أزمة سياسية أو عمالية أو مالية. وفى فبراير 1859، عقد مجلس إدارة الشركة اجتماعًا اتخذ فيه قرارات عملية للبدء فى حفر القناة، كان من بينها إيفاد لجنة إلى مصر تتكون من أربعة أعضاء يرأسهم ديلسبس لوضع يد الشركة على الأراضى التى خولها عقد الامتياز حق امتلاكها، وإقامة ساحات الحفر وتنظيم إدارات الشركة فى مصر والبدء فورًا فى تنفيذ المشروع. سافر أعضاء اللجنة إلى القاهرة، ومنها إلى منطقة البرزخ وتتبعوا فى سفرهم الخط المقترح لسير ترعة الماء العذب فاجتازوا مديرية الشرقية حتى بلغوا بحيرة التمساح ومنها اتجهوا جنوبًا إلى السويس. واتجه أعضاء اللجنة من دمياط إلى البقعة التى اختيرت مبدأ للقناة من ناحية البحر المتوسط، وهناك فى 25 أبريل 1859 أقيم حفل إيذانًا بالبدء فى عملية الحفر، وأدلى ديلسبس بالخطاب التالي: «باسم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية وطبقًا لقرار مجلس إدارتها نضرب أول معول فى الأرض التى ستفتح أبواب الشرق لتجارة الغرب وحضارته، إننا هنا مجتمعون تحدونا فكرة واحدة، هى فكرة الإخلاص لمساهمى الشركة ولصالح منشئها وراعيها العظيم محمد سعيد». ولما فرغ من إلقاء كلمته أمسك بمعول وضرب به الأرض فى إحدى الحفر التى عملت على خط القناة، وكان ذلك إيذانًا بالبدء فى عمليات الحفر، ثم تبعه فى ذلك أعضاء اللجنة فالمهندسون ثم سائر مستخدمى الشركة. والتفت ديلسبس بعد ذلك إلى العمال المصريين قائلاً: «سيضرب كل منكم بمعوله الأرض كما فعلنا نحن الآن، عليكم أن تذكروا أنكم لن تحفروا الأرض فقط، ولكن ستجلبون بعملكم الرخاء لعائلاتكم ولبلادكم الجميلة، يحيا أفندينا محمد سعيد باشا». وشرع العمال المصريون يحفرون القناة تحت إشراف المقاول، وهكذا بدأت أعمال تنفيذ المشروع التى استمرت أكثر من عشر سنوات حتى افتتحت القناة للملاحة فى 17 نوفمبر 1869.